أحمد أسماعيل في طريقي لدخول مدرسة صغيرة لطلاب الصف الاعدادي في محافظة الغربية لألتقي بطلابها ضمن قافلة للثقافة الجماهيرية لاحظت فرنا لخبز العيش الفلاحي في الهواء الطلق أقامته بعض الفلاحات خارج البيت الذي ربما ضاق بأهله لكن الدخان الذي عبق الجو من حولهم أعادني سنوات إلي رائحة القرية المصرية المفعمة بالخير. تعجبت قليلا من شكل باب المدرسة الضيق الذي اختفي وسط زحمة المباني العالية من حوله وشعرت قليلا بالغربة لكن الاصدقاء الذين زاروا المدرسة من قبل أخبروني أن المدخل وحده لا ينم عن حالة المدرسة وحجمها وأن لها في الداخل حوشا واسعا، تطل عليه الفصول. لم أستطع أن أمنع قلبي من الانقباض، لكنني مضيت في طريقي إلي الطلبة الذين ينتظرون مني سماع قصصهم وفي خيالي توقعاتهم عن القادمين من العاصمة وربما يحملون معهم عصا سحرية تأخذهم إلي تحقيق الأحلام. سرعان ما دخل كل منا إلي فصل كي نسمع ما ابتدعه الطلاب ضمن مشروع وضعه أحد الحالمين بخدمة ثقافية حقيقية للصبية والشبان هو المخرج أحمد إسماعيل ومشروعه مسرح الجرن الذي يذهب بالثقافة إلي المدارس المصرية ليدفع الطلبة إلي الابتكار في القصة والشعر والاغاني والألعاب الشعبية والعرائس والفنون التشكيلية والمسرح بطبيعة الحال. توالت قصص البنات والأولاد: بيت الرعب، سرير الرعب، العفاريت، قتل المصلين في المسجد، دم في بئر العبد وهكذا. سألتهم: هل رأي أحدكم عفريتا؟ قالوا جميعا: لا. قلت لماذا تمتلئ قصصكم بالعفاريت؟ ضحكوا وبانت تحت انفراجة أسنانهم براءة أعمارهم. اقترحت أن يكون العفريت في كل قصة من القصص التي عرضوها عفريتا خفيف الدم كما يحلو للأمهات أن تصف أطفالها بالعفريت أي الخارق النشاط الذي ينط في كل مكان. وأن يذهب العفريت إلي السيدات اللاتي يخبزن العيش أمام المدرسة ويجلس فوق المطرحة التي تضع عليها الفلاحة الخبز قبل أن تلقمه للنار ثم يضع لها بدلا من الرغيف ماذا؟ سألتهم ورحنا نخترع الأشياء باذنجانة، جورب، طماطم، تعالت ضحكات الأطفال وزحفت البهجة علي وجوههم. قرأت فتاة قصة اسمها »الظلم ينتصر» عن فتاة مقطوعة الكفين تناضل من أجل تعليمها، ويكتب لها أخوها الامتحانات آخر العام، حتي اقترب حلمها من التحقق في العام الأخير من الدراسة. يوم الامتحان النهائي يتعطل الأخ في الطريق بسبب مرور موكب ابنة وزير الداخلية وينتهي الإمتحان دون أن تكتب شيئا فتقرر الانتحار من الدور الأخير للجامعة ويصل أخوها فيجدها ميتة فيقتل نفسه وسط الطلبة. هكذا رأت الصبية ذات الأعوام التي تزيد قليلا عن العاشرة الحياة ميلودراما فاقعة، لا منطقية موكب لابنة وزير الداخلية، لا أعرف من أين استقته واستقر في ذهنها. فتاة تكافح من أجل تحقيق حلمها رغم الإعاقة، وهذا جميل، لكن كيف وقفت الظروف أمام تحقيق الحلم فاختارت الانتحار، رغم صلابتها وإصرارها علي النجاح طوال السنوات الماضية؟ وانتحر الأخ أيضا، لكنها والحمد لله لم تذكر انتحار الجامعة والناس من حولها وإن كانت قصتها أوحت إلينا بسواد العالم. هكذا يري أطفالنا الدنيا من منظار قاتم مملوء بالدم. مع الأسف هجمت الحروب والظلم علي سنواتهم الغضة فعبروا بصدق وعكسوا مشاعرهم الحقيقية. فهل نتركهم فريسة ؟ يأتي الفن ليغير كل هذا كي نعلمهم الصمود بدلا من الهروب الذي لجأت إليه بسملة طالبة مدرسة كفر مسعود الإعدادية قلت لها لكني رأيت البطلة حين ألقت بنفسها من الطابق الأخير في المدرسة وقد ظهر لها جناحان وطارت لتحقق حلمها. رد الأولاد وقد انتبهوا بشدة: ولكن هذا غير ممكن بل مستحيل. كيف ينبت لها جناحان؟ وهي بشر؟ قلت: بالخيال نحن نكتب لنتخيل أحلامنا ونجمل حياتنا ونجعلها أكثر إنسانية نحن نعوض القبح الواقعي بالخيال الرائع الذي يدفعنا للاستمرار كي نحقق حلمنا علي أرض الواقع. طار معي الأطفال وحلقنا معا فوق سماء الفلاحات اللاتي يخبزن وطار معنا عفريت صغير كنا قد صنعناه من بعض من تخيلنا قبل قليل. هل تتبني الدولة؟ بل أحلم وأقول كل الدول العربية مشروع مسرح الجرن ليعم الفن ويقف بقوة أمام من يحمل السلاح. بالمناسبة الجرن هو مكان تجميع الغلال في الهواء الطلق حتي يكون المسرح في الأماكن الواسعة وبدون تكاليف تذكر وينطلق البشر يعبرون عن أفكارهم وأحلامهم وجمال الحياة ويتعلمون الديمقراطية أيضا.