شاء الله لي ولغيري أن أري الحرب، لم تكن ككل الحروب التي توقعناها، لم تكن كأي من السيناريوهات التي وردت علي ذهن بشر، فهي الجحيم لا غير، تخلي الجميع عنا ما عدا مجدًا، هذا الذي رفض إخراجنا من بلاده أو تسليمنا إليهم، وإن أردنا الحقيقة فقد تخلي الأمريكان عن إعلان الحرب علي أي منهم، رغم أن الصبَّاح أرسل لهم بما لديه من وثائق وأشرطة، ورغم علمهم اليقين بأننا لسنا سوي أداة للخطوة الأولي، لكنهم كانوا يدركون أن دماءهم توزعت بين قوي أكبر من أن تصارَع في وقت واحد، فبعدما تأكد حكماء الصين أن الأمريكان يتجسسون عليهم، ويعدون العدة لملاقاتهم، تخلوا عن حذرهم ووافقوا علي تدريب الرجال علي أرضهم، كانت هذه واحدة من مغامرات الصبَّاح التي اختفي من أجلها عدة أسابيع، لا أعرف تفاصيل ما جري فيها لكنه كان وراء إفشاء سر طائرة التجسس الأحدث في العالم، هذه التي راحت تحلق علي أجواء قريبة من شواطئ الصين كي تصور وترصد وترسل مباشرة إلي البنتاجون ووكالة المخابرات، كان الصبَّاح قد اشتري هذا الكنز من عملائه اليهود، وكانت الطائرة قد قامت بثلاث طلعات من قبل نحو شواطئ القارة الصينية، فما كان منه إلا أن ذهب لملاقاة قائد الكي جي بي المسئول عن شئون الشرق الأدني الجنرال فلاديمير بوستاشيكوف، وترك لديه مظروفًا مغلقًا به عدة أوراق وقرص مدمج، كتب عليه: "سري للغاية، سيادة الرئيس فلاديمير بوتين"، حين فتحه الرئيس حسبما ذكر الصباح اطلع علي معلومات صينية كانت قد أرسلتها الطائرة للوكالة، بالإضافة إلي صورة للطائرة ومعلومات عنها، يومها أغلق بوتين المظروف وكلف بوستاشيكوف برحلة عاجلة لملاقاة الرئيس الصيني. لم تمض ثلاثة أيام حتي أسقط الصينيون الطائرة ونشبت أزمة كادت تعجل بقيام الحرب لولا الحكمة التي تحلي بها الأمريكان، فقد فكك الصينيون الطائرة وصوروا كل جزء فيه، وردًّا لجميل بوتين أرسلوا الطائرة مفككة إلي موسكو كي يصورها الروس ويسلموها للجانب الأمريكي. كان مع الطائرة طاقم من العلماء والمختصين الذين استجوبهم كلا البلدين حسبما يجب، ولم يمض شهر وعدة أيام حتي وقع الروس والصينيون والإيرانيون الذين عبرت عن طريقهم أيضًا الطائرة اتفاقية دفاع مشترك، يومها جاء الصباح مهللاً كأنه صنع أكبر إنجاز يمكن لآدمي أن يصنعه، قال إن الصينيين وافقوا علي الحرب، وإن الرجال سيتدربون علي أرضهم، حيث تلك الطائرات العملاقة من الأيرباص والكونكورد، وحين سألناه عن السبب في استخدام هذه الطائرات قال لأن مخزن وقودها يحمل عدة أطنان من الجازولين، وأنها باصطدامها في مبان كهذه تكون بمثابة قنبلة بي إم فور. لم نستوعب ما يحكي عنه لكننا راجعنا معه أسماء الرجال الذين اختارهم للمهمة، قال إنه سيستدعي خمسة وعشرين شابًا ممن تعلموا في معاهد الطيران المدني في الولاياتالمتحدة، وأن الجنسية لا تعني له شيئًا، فليس من شروط الإمامة أن يكون صاحبها قرشيًا: فربما عبد أسود أشعث لو أقسم علي الله لأبره، وأنا أريد هذا الذي يقسم علي الله في هذا اليوم فلا يكون إلا ما يريده. فندت عن ثغري ابتسامة لمحها فقال: أري أبا عبد الرحمن غير مقتنع. قلت: لا. ولكني تذكرت أمر الخوارج، ولولا أنهم أصروا علي تكفير عثمان وعليّ لكانوا أفضل الخلق عند الله. فطأطأ رأسه قائلا: هذا شأن التاريخ وليس شأني. شعرت بأن جملته تحمل إهانة واستصغارًا لأحاديثي مع مجد وعلي عن التاريخ وجماعات المسلمين وحروبهم. فقلت: لكنه شأننا، وما خرجنا إلا لنعيد للتاريخ إسلامه. ويبدو أنني قلت جملتي بشكل غاضب تمامًا، فراح يعتذر عن خطئه حتي هون مجد الأمر علي كلينا، وعاد من جديد إلي شرحه عن طريقة خروجهم من أمريكا وعودتهم إليها دون أن يدرج غيابهم في ورق رسمي، وعن التأكد قبل كل شيء من رغبتهم في الشهادة وإقبالهم عليها. شعرت في هذه اللحظة إنه هو الذي سيقنعهم بنفسه، يكفي أن يستدرجهم إلي الموت، فيدخلوا الجنة في المساء ويخرجوا منها في الصباح، وإذا أرادوا العودة لها فطريقها معروف. نفضت رأسي من خيالاتي وانتبهت لسؤاله عن رأيي، فاعتذرت عن شرودي وسألته عن خروجهم من أمريكا وعودتهم إليها، فقال إنهم سيخرجون بهويات غير هوياتهم، ثم يتجهون من فورهم إلي شنغهاي، حيث يجدون من يصطحبهم إلي مكان أعد بالأشعة ليكون علي هيئة الأهداف التي سيفجرونها، وحين يكتمل تدريبهم سنعيدهم إلي حياتهم العادية لانتظار إشارة البدء. لاحت في ذهني نيويورك وبرجي التجارة اللذين حاولنا تفجيرهما منذ سبع سنوات، فقلت: ولم لا نضرب برجي التجارة؟! قال إنها ليست في الخطة، وبدا أنه منشغل بإبلاغنا بما اتفق عليه قادة موسكو وبكين، قلت لكن لو حدث انهيار البرجين فالصفعة أشد، وسوف ينشغل العالم بانهيارهما عن البنتاجون والبيت الأبيض. قال إن هذا ما اتفقوا عليه، قلت: لكننا لم نتفق بعد، ولا بد أن يتعاملوا معنا كشركاء وليس تابعين. تعلل بأن البرجين قد ينبها الأمريكان إلي ما نريد، قلت: لا يهمني إلا أن نكون أندادًا. قال: سأستشيرهم، فرددت بحزم: ونحن الذين سنحدد ميعاد الهجوم. رأيت الشرر يتطاير من عينيه، ورأيت مجدًا يستنكر تشددي، فنظرت قائلا: يا أمير المؤمنين، لا نريد أن نكون ألعوبة في يد غيرنا، فنحن الذين سنتحمل المغامرة كلها لو حدث ما لا نرجوه، ولا بد أن تكون أطراف اللعبة في أيدينا، ولا يجب أن نضحي برجالنا من أجل رغبة الروس في الرد علي الأمريكان، فإذا كان هذا قدرنا فلا بد أن نحدد توقيته وطريقة صنعه. يومها قال: ماذا لو انسحبنا من الأمر برمته، فهذه الحرب أكبر منا، ولا أظن الفرعون سيسقط بهذه السهولة. فأجبته هامسًا: لا أظن الروس والصينيين سيتركوننا إذا انسحبنا، وسيكون علينا أن نواجه القوي العظمي كاملة بلا حائط نختفي خلفه، لكنهم لو رفضوا ما نطلبه الآن فهناك ما يعطل الأمر ويبرر الانسحاب. فدعا الله ألا يستجيبوا، لكن الصباح كان قادرًا علي إقناعهم بما ليس في رغبتنا، فجاء بعد جولة لا نعرف أين قضاها ليفاخرنا بانتصار جديد. قال إن الصينيين هم الذين ضغطوا علي بوتين كي يوافق، وأنهم رحبوا بضرب برجي التجارة، بل وضعوا خطة محكمة لنسفهما من علي وجه الأرض، وذلك بوضع قدر كبير من المتفجرات أسفل كل مبني، بحيث ينفجر التفجير الأرضي مع دخول الطائرة، سيكون مشهدهما هكذا. ثم فتح حاسوبه فرأينا طائرتين عملاقتين تدخلان فيهما في وقت واحد، قال في ذلك الوقت ومع تلك الهزة العظيمة التي ستحدثها الطائرتان ستنفجر الألغام الأرضية، فلا يكون أمام التوأمين سوي أن يخرا خاشعين هكذا، فرأينا صورة الطوابق وقد انشقت الأرض لابتلاعها، ورأينا صورًا للرجال وهم يتدربون علي هياكل من أشعة في صحراء الصين، كانت أعدادهم أكثر مما أخبرنا الصباح، قال إنه وجد الكثيرين لديهم الرغبة في الشهادة، ووجد من الضرورة تدريب أكبر قدر علي الهدف الواحد، لكن المشكلة ليست في ذلك، لكنها في أن هذا النوع من الطائرات يحتاج من يوجه قائده عبر برج المراقبة، ومن ثم فلا بد من تعطيل الاتصال بين الطائرة والدفاع المدني وبرج الإقلاع، وأوضح أن الروس تغلبوا علي هذا عبر حاسب دقيق سيأخذه قائد الطائرة معه، فمن خلاله يمكنه بث صورة ذات إحداثيات مخالفة لما يجري في الواقع لقواعد الدفاع وبرج المراقبة، بينما سيقومون هم عبر الأقمار الصناعية وبشفرة خاصة بتوجيه قائد الطائرة. قال أيضًا إن المشكلة الأكبر في الوكالة والبنتاجون والبيت الأبيض، لأنها مبان محاطة بشبكة من الصواريخ ذات الإطلاق الآلي، وهذه لا بد من تعطيلها يدويًّا، وقد توصل الإيرانيون إلي من يمكنه عمل ذلك. يومها طلبت منه أن أري الرجال وأشد من أزرهم، فقال: هل تريدهم هنا أم تذهب إليهم. قلت: رجال كهؤلاء ليس للمرء إلا أن يذهب فيمسح بالعطر علي أقدامهم. قال: لا يجدر بك أن تفعل، لأنهم يرونك المهدي الذي جاء ليخلص الإسلام مما حاق به من هوان. فتعجبت من حيل قصير القامة، وأدركت كم أصبحت ألعوبة في يديه. اخترقنا الجبال والحدود إلي إيران، واتخذنا طائرة إلي شنغهاي، ومنها إلي حيث الصحراء التي يعسكر فيها أكثر من ثلاثمائة رجل، ليس بينهم سوي خمسين شابًّا عربيًّا، صافحتهم جميعًا وقبلت رءوسهم، وأعطيت كلاً منهم مصحفًا، ثم صليت بهم ركعتي شكر لله، كبرت في بدء كل منهما عشر مرات، ثم خطبت فيهم عن ضرورة الجهاد، وفرحة الله بعبده التائب، ومقام الشهداء في أهل الجنة، ثم قلت: اعلموا أن الله اطلع علي أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفر الله لكم، وها هي بدركم الثانية، وها هو الله يطلع عليكم، فاعملوا ما شئتم فقد غفر الله لكم ما تقدم وما تأخر. فهللوا وكبروا فرحًا، فاحتضنتهم جميعًا ودعوت لهم بالنصر.. متخذا طريقي إلي قندهار. الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه، الحمد لله وحسبنا الله ونعم الوكيل. كان الحزن واليأس يضغطان علي صدر الشيخ وهو يجمع أشياءه من الكهف، فقد أوضح له عليٌّ ما قام به الصبَّاح من استنساخ لرجل يشبهه في كل شيء، ولا بد أنه الآن يساوم جهة ما لتسليمه إليها، ولم تفارقه صورة صدام حسين والأمريكان يفحصونه كبهيمة مصابة بأمراض خبيثة، فالطريق طويل ولا أمان فيه لأحد علي شاب في مقتبل عمره وعجوز ما زال الأعلي ثمنًا في المطلوب القبض عليهم، ورغم أن محبيه أكثر من كارهيه غير أن قلوب القوم معه وسيوفهم عليه. تذكر حين طلب صدام أن يطلقوا عليه الرصاص كمحارب في الميدان لكنهم أصروا علي أن يعدموه شنقًا صباح عيد الأضحي. كان قد اتهمه بالجنون يوم أن دخل الكويت غصبًا، وخرج في شوارع المملكة يحذر الناس من خطره، لكنه ارتعد أكثر من نزول الأمريكان إلي الأرض التي حرمها الله عليهم، تذكر رسالته الطويلة لولي العهد، وكم أبدي أنه برجاله قادرون علي الدفاع عن المملكة وإخراجه من الكويت، لكنهم أبوا إلا أن يلوثوا حرم الله وبيته، تذكر كم كان حانقًا عليه وعليهم، لكنه ما كان ليعامله علي هذا النحو، فما إن رآه يتأرجح علي مشنقته حتي انتفض مرددًا: فلا نامت أعين الجبناء، فلا نامت أعين الجبناء. ولم يوقف انتفاضة جسده غير المهدئ الذي أدخله في هلاوس وهذيان لعدة أيام، حين هدأت حالته وعاد إلي رشده سأله عليّ عن بكائه طاغية كهذا، فطأطأ رأسه ومسح عبرة من عينيه: ما كان يجب لخصم وقف أمام العالم وانهزم هزيمة الأبطال دون تخاذل أو تراجع أو خوف أن يموت هكذا كالبعير، فليس للأبطال أن يموتوا ميتة اللصوص، نعم أخطأ، لكن كم حمل التاريخ لنا من خطاءين، وكم منهم كان شجاعًا لنسلبه حق الإيمان بخطئه. ثم انفرط في بكائه قائلا: إننا الآن نمشي إلي هذا المصير، نذهب مرغمين إلي عدو وألف ابتسامة تخفي خلفها فوهة بندقية، فهل سيجتزون رأسينا كالزبير، أم سيغرقنا أصحابنا كشبيب، أم أننا حين نخرج من باب الكهف سنجد أنفسنا محاطين كالمختار بن أبي عبيد الله بعشرة آلاف فارس، فهل نحارب حتي الموت كما مات، أم نسلم أنفسنا كما سلم سبعون ألفًا من رجاله أنفسهم لمصعب، فقتلهم كما لو أنه يقتل شياه أبيه، أم سنصرخ كعنبسة في جند لا وجود لهم، أم نموت غريبين كأبي ذر، شريدين كزين العابدين، جائعين كإبراهيم الإمام، معلقين علي رءوس الحراب كزيد بن علي.. فما الذي فعلته لأجلب كل هذا العذاب لصبي مثلك ؟! كانت أسئلة الشيخ تتوالي كالرصاص علي أذني الفتي، ومع كل سؤال كان يري مشهد الموت بطريقة مختلفة، فظل جاثمًا في زاوية الكهف حتي رأي الشيخ يترنح باكيًا، فانتفض كالسهم ليمسكه قبل أن يقع: هل عاودك التاريخ يا سيدي من جديد؟ سأله بفزع الخائف من المجهول، لكن الشيخ مسح دموعه قائلا: كلا يا عليّ، لكنه الحزن، فلم يعد لي من الرجال سواك، كلهم كما تري اختفوا منذ أيام، وأصحابي الأشداء الذين وثقت بهم استشهدوا، وأنا صرت عجوزًا هرمًا لا يقدر حتي علي إنقاذ نفسه من الحزن عليهم، كثيرون هم يا بني، أكثر مما يحتمل قلبي، كم كنت أحلم بتكريمهم، أو علي الأقل دفنهم كما يجب لأبطال مجاهدين، لكنها الحرب خلفها العار الطويل والحزن، وهذه لم تكن حربًا، كانت الجحيم، وكأن طائراتهم العملاقة لم تر سوانا في الوجود، فلا مخابئ تفلح معها، ولا كهوف ولا جبال، كأن قيامتنا وحدنا قامت، فهل خدعنا يا صاحبي، واكتفي الحقراء بمشهد لا يفرح إلا صبيًّا، برجان كبيران يسقطان ولا شيء أكثر، فما الذي جعل طائرة البنتاجون تنزل كحمامة أتت لتستريح علي مدرجاته؟ وأين ذهبت طائرة بنسلفانيا؟ أين اختفت خمسون طائرة أصيبت بالجنون فجأة وقررت أن تسقط أمريكا علي من فيها؟ وأين حلفاؤنا، ولم أدانونا قبل غيرهم، ولم لم يثأر الرخ الأمريكي إلا منا، رأسي ستنفجر يا علي، وتبريرات الصباح بخيانة اليهود لا تجدي، فهل مات البنشيري في أعلي النيل خطأ، ومات صهيب جراء هاتفه الخلوي، وكيف اختفي العباس ومجد، ولم تركنا الرجال في هذا الكهف المظلم دون طعام أو حراسة، هل نحن ما زلنا أحياء، أم أنني أهذي في يوم الحساب؟ لم يكن أمام علي سوي الصراخ ولطم خديه كي يوقف الشيخ عن إطلاق الرصاص علي نفسه، حينها انتبه الرجل إلي ما هو مقدم عليه، فألقي السلاح من يده وراح يبكي. وفي الجفون المخضبة بالدمع لاح وجه أبي سعيد مشرقًا "أفطر معنا غدًا يا عثمان"، فتهلل وجهه بالفرح، واستدار يبحث عن عليّ فرآه يبكي في زاوية الكهف، فانحني عليه مهدهدًا مبتسمًا: هل يبكي جواز المرور إلي الجنة، قم يا أبا تراب، فما أنت إلا شيخي وما أنا إلا مريدك، فإلي أين الرحيل؟