قبل عدة سنوات، لفت انتباهي برنامج حواري في قناة "سي إن إن" CNN الإخبارية بعنوانSummit Future يقدمه المذيع الغريب الأطوار ريتشارد كويست Richard Quest، اللافت بطريقته الثرثارة في الحديث، ولكنته المحيرة؛ بمزيجها الفريد من الأمريكية والبريطانية معا. بين الضيوف سيدة جذابة، ملامحها شرقية، قلت: تركية مثلا أو شيء من هذا القبيل، تتحدث الإنجليزية بلكنة امريكية طلقة، تدعي أنوشيه أنصاري، وسرعان ما تبينت أنها أمريكية من أصل إيراني. قدمها كويست بوصفها أول سيدة تقوم بالسياحة في الفضاء الخارجي، وهي رابع شخص يقوم بهذه التجربة، ومعهاBuzz Aldrin، ثاني رائد فضاء في العالم تطأ قدمه أرض القمر بعد نيل أرمسترونج، الذي رافقه في الرحلة الشهيرة في العام 1969 وانتبهت للموضوع وفكرة البرنامج وللحوار، وللثقافة التي تعيش في المستقبل وتبحث عنه ككل الحضارات التي تعرف أن التقدم صنو الخيال والسعي المستمر لنقله من منطقة المستحيل إلي مساحة الممكن والواقع. لاحقا تابعت الموضوع علي الإنترنت ووقعت علي المدونة الشخصية لأنصاري التي دونت فيها يوميات رحلتها إلي الفضاء الخارجي التي استغرقت عشرة أيام. توقفت طويلا أمام وصفها لمشاعرها المتباينة وهي تري المكان الذي تنتمي إليه صغيرا من بعيد، تتأمل الأرض من موقعها في الفضاء اللانهائي الممتد حولها. تصف المشهد في الليل بأنه بساط مخملي أسود اللون انتثرت عليه ذرات لامتناهية من غبار الماس، وتقصد بها النجوم. أما الأرض فتراها ككرة زرقاء بهية اللون "لا تري حدودا تفصل بين دولة وأخري لا يمكنك أن تعرف أين تبدأ حدود دولة وتنتهي حدود أخري، لا توجد حدود سوي تلك التي تفصل بين المياه واليابسة". اهتممت كثيرا بتجربة انوشي ولا أزال، ليس فقط لفكرة إصرار شخص علي أن يحقق حلما صعبا كهذا، أو حتي للتفاصيل الكثيرة الخاصة بالإعداد البدني والذهني لهذه الرحلة، بل أساسا لأسباب تتعلق بفكرة رؤية العالم من بعيد، أن تتأمله ككل إنساني بعيدا عن الجزئيات والتفاصيل، كمكان تنتمي له بوصفك إنسانا، بلا تحيزات طبقية أو دينية أو طائفية. أن تمنح ذاتك فرصة رؤية العالم من موقع آخر في الكون اللانهائي لتعرف أنك جزء من عشرات الملايين من أصغر ما يحتويه الكون، وأن تضخم الذات المفرط للبشر ليس سوي وهم من أوهام عدة تغذيه محدودية الإدراك البشري. ثم لأهمية التجربة في استعادة فكرة الزمن، الذي يأخذ منحي آخر تماما، فلا يصبح زمنا سطحيا مستقيما كما نفهمه علي الأرض بحواسنا المحدودة، وإنما يصبح مركبا، ذا أبعاد مختلفة، زمن داخل زمن، وتعقد لفكرة الماضي والمستقبل. كنت أفكر عما يمكن ان يحدث لذاكرة شخص يمكن له أن يعبر بين الماضي إلي المستقبل أو العكس. هل تظل له نفس قدرات الذاكرة المحدودة التي نعيش بها؟ أم تصبح أيضا ذاكرة مركبة لاستيعاب هذه الرحلة في أكثر من زمن؟ يدهشني، مثلا، أن ذاكرتي تتعامل مع مناطق زمنية بعيدة من الطفولة كأنها ذاكرة فوتوغرافية. كلما استعدت تلك اللقطات الطفولية تبدو لي كاستعادة مشهد من صورة قديمة مهترئة بالأبيض والأسود. تتحرك الذاكرة مثل كاميرا عملاقة مثبتة في قمر صناعي، وتسافر عبر زمني الخاص، الذي يصل الآن إلي نحو 40، عاما عبر البحر الأحمر وصولا للجزيرة العربية التي تعبرها الي الخليج فالمحيط، وتقترب من موقع البيت الصغير في مسقط، في روي، عابرة أرض المطار القديم التي تعرف الآن باسم CBD حيث عشت المرحلة الأكثر حساسية في طفولتي، بحكم هذا العمر، ما بين 5 سنوات وحتي 9 سنوات. يحدث كل ذلك في زمن ومضة، وتقرب العدسة مشهدا لي نائما علي فراشي، أفتح عيناي علي صوت أمي وتربيتاتها الحنون، فأنهض علي ابتسامتها التي لا يعادل جمالها إلا ابتسامتا ابنتيَّ؛ ليلي وعالية. أتعلق بها محتضنا إياها دافنا رأسي في عنقها. ثم تلاحقني لقطة ذاكرية أخري أري نفسي فيها واقفا بجوار السرير ذاته وأمي تصرخ فزعا، لكنها لا تخبرني بما رأت، وتبعدني عن الفراش ثم تجمع الملاءة بارتباك وتلمها، وتسرع صوب المطبخ وتعود بعد لحظات وهي تحمل مقشة، ثم تأخذ في ضرب الملاءة بعنف. ولن تخبرني إلا لاحقا أنها شاهدت عقربا صغيرا يمرح علي الملاءة يبدو أنه كان في طريقه إليَّ، لكن الله سلّم. وبنفس الترتيب عادة ما تستدعي كابوسا أري نفسي فيه هاويا من هوة جبل بدفعة من صبي لئيم، ابن أحد أصدقاء العائلة لم اكن أحبه كثيرا، ويعاودني الهلع وصوت صراخي المدوي والإحساس الكئيب بعدم السيطرة علي جسدي الذي يسقط من شاهق فوهة جبل أقرب للجبال البركانية . ثم تلتقط الذاكرة مشهدا لي جالسا في السيارة ليلا، بصحبة أبي وأمي بينما أتأمل القمر، وأناجيه حائرا بوصفه أقرب صورة لله كما أدركها وعيي الطفل، بذاك التعبير المبهم الذي يرسمه القمر علي محياه. هكذا تعود الصور متتابعة، كلما قررت استعادة طفولتي تقريبا؛ مشاهد ولقطات ثابتة، تزداد ثباتا وتجليا كلما مر الزمن. بينما الصور التي تخص وقائع أقرب كثيرا زمنيا تخاتلني، وبينها صور كثر تبدو غائمة، بينما اليوم قد لا أستطيع تذكر تفاصيل مما حدث لي قبل أسبوع لا أكثر. مع ذلك فألاعيب الذاكرة أكثر من أن تعد، وهي في استدعاءاتها للثوابت تباغتني كثيرا بمشاهد كدت أظنها لم تحدث لي أو اندثرت. أدركت أيضا أن الذاكرة تتعامل مع الشخصيات بذلك الشكل البدائي، الذي يشبه تعامل الذاكرة مع مشاهد الطفولة الراسخة، فحين كنت أكتب في نص "ابتسامات القديسين" مونولوجا روحيا متبتلا علي لسان عماد؛ الشبح الميت العائد الي الحياة دون أن يراه أحد، اكتشفت أنه حين يستدعي السيد المسيح في مناجاته فإنه يناجيه بصورته التي نعرف، رجلا وسيما في منتصف الثلاثينات علي الأرجح، بينما كان عمر المسيح الحقيقي في لحظة كتابة هذا العمل كان قد تجاوز الألفي عام بثلاثة أعوام تقريبا!