لم يتوقع أحدٌ من سكان شارع مراد، في ستينيات القرن الماضي، أن الطفلة الشقراء، النحيلة، التي كانت تحب اللعب في الشارع، والتي كانت تتردد قبل أن تتفوه باسمها، ستكون الشرفة التي عبرها سيطل القارئ اليوناني علي أدبنا ولغتنا معاً. أتحدث عن بيرسا كوموتسي، اليونانية التي أتي جدودها إلي مصر أثناء الحرب العالمية الأولي، حيث استقروا المدة الأطول من حياتهم في مدينة الإسكندرية، مسقط رأس أمها، أما هي فولدت في الجيزة عام 1960، بالتحديد في شارع الهرم، الذي قضت فيه سنوات طفولتها ومراهقتها وبدايات شبابها. تلقت بيرسا تعليمها في المدارس اليونانية، التي كانت منتشرة آنذاك في مصر، والتحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة، حيث درست الأدب الانجليزي، والأدب العربي أيضاً. وكانت الطالبة الأجنبية الوحيدة هناك. الطالبة التي واجهت سخافات بعض زملائها من المتشددين سياسياً. وفي عام 1982 تقريباً، قررت بيرسا -كمثل أي يوناني في ذلك الوقت- السفر إلي بلدها الأصلي. بلدها الذي لم تكن تعرف عنه شيئاً. لتبدأ حياتها الفعلية بصراع داخلي وتمزق روحي. لم تتأقلم بيرسا في سنواتها الأولي باليونان علي الهوية الجديدة، وظلت تبحث عن طريقة مناسبة للعيش، إلي أن وجدت ضالتها، حين سمعت عن رغبة إحدي دور النشر، تُدعي (بسيخويوس)، في ترجمة أعمال نجيب محفوظ إلي اليونانية. وجدت بيرسا في ذلك فرصة كبيرة لها، إذ رأت أنها الأولي من غيرها بكاتبها المفضل، ومُعلّمها الأول، وبالفعل بدأت مسيرتها في ترجمة الأدب المحفوظي، برواية (السكرية)، التي جرت ورائها أعمالاً أخري ترجمتها، مثل (المرايا، وقصر الشوق، وزقاق المدق، وخان الخليلي، والحرافيش، وليالي ألف ليلة). لا يعود الفضل لبيرسا فقط أنها من قدمت للقارئ اليوناني نجيب محفوظ، وجعلته مشغولاً به ، وإنما في أنها جعلت اليونانيين يعرفون أن للمصريين وللعرب أدباً مغايراً، إذ يصل مجمل عدد الأعمال العربية التي ترجمتها إلي 40، لمحفوظ طبعاً النصيب الأكبر منها، حوالي 18 عمل. بيرسا أيضاً روائية. صدر لها حتي الآن سبعة أعمال، كان أشهرها بالنسبة لنا رواية (في شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ). فهي تكتب دائماً عن مصر. بلدها الأول. وتختار غالبية أبطالها من المصريين، وليس فقط من أبناء الجالية اليونانية. في هذا الملف، نحاول الاقتراب من بيرسا كوموتسي، من خلال حوار أجريته معها في الإسكندرية، إذ زارت مصر لأجل المشاركة في عدة فعاليات، و الاحتفاء بروايتها الأحدث (أصوات سكندرية في شارع ليبسوس)، التي يعكف الآن علي ترجمتها د. خالد رؤوف، والذي خصنا بجزء من فصلها الأولي الذي يتحدث عن قسطنطين كفافيس.