حمزة قناوي شاعرٌ مِصريٌ شاب، مقيمٌ في الخارِج، غادَرَ مِصر منذ نحو عَشر سنوات، وواصَلَ مَشروعَهُ الإبداعي هُناك، عامِلاً في الصحافة الثقافيةِ والكتابة الحُرَّة والدراسات النقدية في صُحفٍ ومجلات عربيةٍ متعددة، أنتج ثماني مجموعاتٍ شعريةٍ، وروايتينِ ومجموعةً قصصيةً واحدةً. شارك قناوي في مؤتمرات ومهرجانات شعرية دولية بين فرنسا والمغرب وتونس والجزائر والكويت والبحرين ولبنان والإمارات وغيرها، ووصَلَت مجموعته الشعريةُ الأخيرةُ »لا شيءَ يوجعني» إلي القائمةِ الطويلةِ لجائِزةِ الشيخ زَايد العالمية للكتاب، فرع المؤلّف الشاب. ورغم إعلان القائمة القصيرة وخلوها من اسمه، إلا أنه لا يعتبر نفسه خاسرا، فله وجهة نظر مختلفة في الجوائز، وحسابات أخري يفصلها في هذا الحوار.. - كيف تنظر للجوائز بشكلٍ عام، وهل صارت تمثّل في وقتنا الحالي غايةً للمبدع؟ الجوائز لا يمكن أن تكون غايةً للمبدعِ الحقيقي، هي اعترافٌ ضمنيٌ بمنجزِه، ضمنَ وسائلَ تقييمٍ أخري، وبعضها أهم من الجوائز، كالقراء، ومدي تأثير إبداع الكاتب في مجتمعه وقرَّائِه، وحتي ريادته المجال الأدبي الذي يُبدِعُ فيه أو الإضافة الجمالية ذات الخصوصية التي يُمكِنُ أن يُقدِّمها في حقلِه، الجوائز علامات علي الطريق ولكنها ليست الطريق نفسه، والمبدع الذي يكتُب علي قياسِ جائزةٍ معينةٍ سيفقدُ شخصيته الأدبية مع الوقت. المشهد في عالمنا الأدبي اليوم، يتوافق مع طبيعة العصر الذي أوجَدَ معطيات منظومة إنتاج العمل الأدبي وتلقيه وذيوعه، مقدماً معايير كثيرةً علي معيار أدبية العمل، أو قيمته المضمونية، أبرزها الجوائز، والميديا، وال Best Seller، عوامل كثيرة صارت معياريةً عند تلقي عملٍ ما من قِبل القارئ، فالجائزة مساحة ضوء كبيرة مُسلَطة علي العمل قبل أن يتلقاه القارئ، وصارت من المعايير المُكرِّسة لذائقة وتوجُّهات نقاد المؤسسات التي تمنحها، وهذا ينعكس بالتالي علي خلق نوعيةٍ خاصة من المتلقين الذين يتحمسون لتيارات كتابية بعينها، ومدارس إبداعية محددة، وهو أيضاً يتجاوز ذلك أحياناً إلي تحديد الهوية الأدبية للعصر القائم، من خلال ترسيخ مفاهيم لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة: الذيوع والشهرة والانتشار والمقروئية، رغم أنها يفترض أن تكون تابعةً كنتيجةٍ للأساس الأهم: الإبداع والفرادة وتجاوز النمط. - ما الذي تفكرُ فيه الآن وقد كنت علي أعتابِ الفوزٍ بجائزةٍ كبيرة، ما الذي يشغلكَ؟ لست موفور الحظ في مسألة الجوائز- خاصةً القوائم الطويلة- لهذا لا أحلم كثيراً. ولا أراهن علي اكتمال شيء، فعلتُ ما بوسعي، ولا أفكر فيما هو أبعدُ من ذلك، ما يشغلني حالياً لا علاقة له بالجوائز، تشغلني التجربة الطويلة التي عشتها ووقفت فيها علي أفكارٍ كبري، مازالت تثير تساؤلاتي وحيرتي في الكثير من الأحيان: العقل العربي وموضع العرب من العالم الحر والتقدمي اليوم، النقد العربي الذي يتأرجح بين مغريات الجوائز وأصالة المنهج، النقَّاد الذين يحددون المسارات الفكرية للحركة النقدية العربية بناءً علي عوامل خارجة عن رؤيةٍ موضوعيةٍ أو صدقٍ فكري في حقلٍ ملأته تحالفات المكتسبات الصغيرة والافتقار للقيمة، ازدواجية الإنسان حينَ يتأرجح بين خيطي ذاته الحقيقية وكل ما هو خارج جوهره ولا ينتمي لحقيقته. يشغلني الاختيار، عشتُ حياتي علي يسارِ كل سلطةٍ ثقافيةٍ تمنح وتمنع، لهذا لم ألتحق وظيفياً بأي مؤسسة ثقافية طوال حياتي، مؤثراً الحريةَ والقدرة علي الرفض وقتما أريد دون الخوف من خسارة شيء. ورفضت الاندماجَ في الخطاب الجمعي المهادن للمؤسسة ولمثقفي المصالح، لا أتمني أكثر من أن أظل ثابتاً علي مواقفي، ألا تغيرها مغريات، يشغلني أن أواصل الكتابة وأن أواصل مسار حريتي وأن أسافر أكثر. تشغلني فكرة الاختيار، وأنا الآن أقف في قلبِ اختبارها الصعب، وأؤكد لك أنني اخترتُ الرهان علي الشِعر وحده لا علي ما خارجه، وعلي الناس، وعلي الغدِ الذي أتمني أن يكون أكثر أمناً للخائفينَ وإشباعاً للفقراء. - لكنك قلت من قبل إن وصول مجموعتك الشعرية »لا شيء يوجعني» إلي القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد أنصفك .. ماذا عنيت بذلك؟ عنيتُ أن هذا الترشُّحَ أنصفني كشاعرٍ، بعد سنواتٍ طويلة من التجاهل النقدي المرير وتصنيفي- غير الموجود- بين أبناء جيلي من الشعراء، التسعينيات، في أي أنطولوجيا شعرية تظهر في مصر، سواء في كتاب أو دراسة أو مجلة متخصصة، وترشُّح مجموعتي إلي القائمة الطويلة لجائزة عالمية لها مكانتها اليوم في خريطة الجوائز الكبري، هو اعترافٌ بمنجزي في حد ذاته حتي عندما لم يُحالفني التوفيق بالفوز بها في النهاية، لكني حاولتُ، وانتزعتُ اعترافاً ما بقيمة ما أكتب وقدرته علي المنافسة، الكثير من النقَّاد والقراء يعتبرونني روائياً لأن لي روايتين كان لهما حظٌّ من الذيوعِ والجوائز أيضاً هما »المثقفون» و»من أوراق شاب مصري» والبعض الآخر يتابعني كناقد بعدما نشرت أكثر من ثلاثين دراسة نقدية في مجلات متخصصة عن مجموعات شعرية وأعمال روائية »في متنها القدس العربي التي أعتز بالكتابة شبه المنتظمة بها»، والآخر يعتبرني قاصاً أو كاتبَ مقالات، كل هذا موجود وفي متنِ منجزي، ولكني في الأساس شاعرٌ وبعدها أشرُف بأي قيمة أدبية تضاف إلي هذه الكينونة، فوصول المجموعة إلي القائمة الطويلة لهذه الجائزة كان تشجيعاً عميقاً لطريقٍ بدأته منذ اثنينِ وعشرين عاماً - هي أكثر من نصف عمري الفعلي- منذ نشرت نصي الأول في مجلة إبداع، والذي أرسله د. عبد القادر القط متحمساً إلي عبد المعطي حجازي وحسن طلب، وتلقياه بحفاوةٍ واهتمام، ومن يومها لم يغادرني الشعر يوماً وعشتُ له كينونةً وجوهرَ وجودٍ وسبباً كافياً للحياة. - إقامتك في الخارج منذ عشر سنوات، هل أثرت في حضورك الأدبي بمصر ووجودك الفاعل بها؟ رُبَّما إلي حدٍّ كبير، وربما ليس تماماً.. فمن جهةٍ أنا لم أتوقَّف عن الكتابة والنشر، حتي أنني أنتجت في الخارج ثمانية كُتب »روايتان ومجموعة قصصية وأربع مجموعات شعرية» منها »في موعد الغيوم» و»لا شيءَ يوجعني» و»الغريب- قصائد باريس» و»قصائد لها» و»باتجاه الطريق» وغيرها، وبلورت مشروعي النقدي في رسالتي الماجستير، عن صنع الله إبراهيم والتي نالت تقدير امتياز، والدكتوراة التي أضع آخر خطوطها حالياً عن الشعر المصري الحديث في ستينيات القرن الماضي وتحليله سيميولوجياً، من خلال تتبع العلامات واستقراء دلالاتها الجديدة لدي أبرز الشعراء المصريين، فلم أتوقف عن الكتابةِ يوماً خارج مصر، غير أن الضريبة الحقيقية التي أدفعها هي عدم حضوري »الفعلي والحي» بمصر، وعدم مشاركتي الدائمة في الفعاليات والندوات والأمسيات، وإن ظللت علي تواصلٍ قوي ومستمر مع الحركة النقدية والإبداعية في مصر، أتابع ما يكتبه النقاد والمبدعون وأكتب عنه أيضاً، وجودي خارج مصر عزَّز حضورها بداخلي، ووجدت أن هناك الكثير من الأقلام القيّمة التي كتب أصحابها عني دون أن نلتقي يوماً، وأشعر بالامتنان لنزاهتهم التي دفعتهم للكتابة عن أعمال كاتب لم يروه يوماً أو يلتقوا به مثل د.جلال أمين، ود.وحيد عبد المجيد، والكاتب الراحل الكبير علاء الديب، ود. محمد عبد المطلب، ود.ثناء أنس الوجود، ود.صلاح فضل، ود.آمنة الرميلي، ود.ثريا العسيلي، وغيرهم.. فقد استمرَّ تواصلي مع حركة النقد والإبداع رغم الغربة وظروفها. - تقول إنك شاعر في الأساس لكنك تكتب القصة والرواية، هل تعني أنك تجد نفسك في الشعر وحده؟ وهل تحديد نوعٍ أدبي واحد أفضل للمبدع؟ مسألة تنوع الأطر التي تحتوي الأجناس الأدبية يحدِّدُها الموضوع المتناول، المادة الإبداعية مستمدة من الحياة نفسها، الكاتب يحاول أن يجِد الصيغة الفنية الأكثر تناسباً وقدرةً علي التعبير وتطويع هذه المادة بما يُحقِّقُ رؤيتهُ ويخلق تجربته في إطارها الأنسب، هذا ما حاولت تقديمه علي الدوام، فالقصة بما تحويه من قدرة علي الالتقاط والاختزال والرؤية المعمَّقة في حيزٍ زمنيٍ مكثف، تجسدُ قيمة الاختيار- اختيار موقف أو زاوية من الحياة والاشتغال عليها فنياً بأدوات خاصة، لإبراز الجمال غير المرئي في الحياة رغم وجوده طوال الوقت. الرواية أيضاً لها تقنياتها- التي تطورت كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية- ولم تعد تكتفي بالشعرية فقط أو الأخذ من تقنيات السينما، إنما صارت توجِدُ قواعدَ فنيةً خاصةً بكتابتها تنفتح علي مختلف أشكال التجريب، بين تضمين التوثيق أو الاعتماد علي السرد المباشر، أو الجمع بين الخيالي والواقعي كما في الواقعية السحرية، الانتقال بين الأزمنةِ، تقديم مستويات متعددة من اللغة في العمل الواحد.. وغير ذلك، وهذا يمنح الروائي مساحاتٍ هائلةً يستطيعُ من خِلالها تقديمَ رؤيته في إطار حُر ومفتوح، ومتعدد المساقات والمسارات، ربما من هنا كان الإقبال علي كتابة الرواية أكثر من غيرها، لما تمنحه من إمكانات متعددة في الاختيار والتجريب والتجديد والقدرة علي الإدهاش. أما الشعر فيُعرَّفُ بنفسِهِ ولا يُعرَّفُ به! الشعر- في تصوري- أرقي وأنبل أنواع الفنون الكتابية قاطبةً، طاقةٌ جماليةٌ هائلةٌ مختزلةٌ في فنّ الممكن والمستحيل معاً، لغة الشعر تخلق جمالياتها بانزياحها عن اللغة المعجمية والواقعية والمتواضع عليها، وتجترح لغتها هي، ومفرداتها التي تخلقها من شفرتها الخاصة في القصيدة، وتمنح اللغةَ دلالاتٍ جديدةً عبر تشكيلاتٍ جماليةٍ خاصةٍ تعتمد علي الرؤية والحسّ والموسيقي والتآلف البنائي والرمز وتوظيف الأسطورة وتفعيل الخيال وإعادة بناء العلامات. وأنا تمثّلت العالم بأكمله وعبرت عنه شعراً، وأعتبر الشعر أساس تجربتي، وباقي الفنون النثرية الكتابية هي كل شيء آخر يأتي بعده.