مثّل الطاهر بن جلّون منذ ظهوره علي الساحة الأدبيّة العالميّة صوت المغاربيّين، مصدحا يقدّم بعض القضايا التّي تشغل تلك المجتمعات مثل وضعيّة المرأة وقضايا الإسلام السياسي وغيرها. مواضيع وإن خلّفت حولها جدلا في المجتمعات العربيّة عامّة والمغاربيّة خاصّة منذ حركات التحديث والإصلاح التّي مرّت بها تلك المجتمعات، جعلته يحصد شهرة عالميّة في محيط أدبيّ متشوّق لمعرفة بعض التفاصيل من الداخل عن هذه الشعوب بلغته، معادلة حقّقتها أعمال الطّاهر بن جلّون ابتداء من "طفل الرمال"، "ليلة القدر" و "تلك العتمة الباهرة" الخ . لقد محا الانفجار البركانيّ لما بات يعرف بالرّبيع العربي و هيجان الحريات التسوناميّ، منذ احتراق محمّد بوعزيزي يوم 17 ديسمبر 2010، كلّ القيود و أعاد لحاسّة الصّراخ بريقها. تدفّقات من الحبّ، الحقّ والحريّة ألهمت الأدباء والشعراء للكتابة، كونها ردّ فعل طبيعيّ علي التسونامي الدّاخلي الذّي اجتاحهم. من أوّل الأعمال التّي برزت بعد انبلاج فجر التحوّلات العربيّة، كتاب بعنوان "الشرارة: انتفاضات في البلدان العربيّة" و "بالنّار" للطاهر بن جلّون. الكتاب جمع بين مقالات للكاتب في الصحف الفرنسيّة وروايته الأحدث "بالنّار" التّي تسرد قصّة المقبس "محمّد بوعزيزي" أيّاما قبل اشتعاله، عن ترجمة لحسين عمر ونشر المركز الثقافي العربي. يستوقفك أوّل الأمر الغلاف الأسود للكتاب وصورة اليد المتوهّجة تفاجئك وسطاها بتحيّة عند تصفّحه. يقول بن جلّون في خاتمة تقديمه للكتاب "وإذا كان من الممكن اليوم أن توصف حركات التمرّد هذه علي أنّها "ثورات"، فلأنّها أوّلاً وقبل كلّ شيء منصبّة علي مطالب ذات طابعٍ أخلاقيّ ومعنويّ." صحيح أنّ هذه الثورات مشبعة بالايطيقا، لكنّها بحاجة للكتّاب القادرين علي إيصال صوتها الحقيقيّ لا تغليفها بثوب العهر الذّي تخيطه براغماتيّتهم ويزوّقه تزلّفهم للغرب. المقالان الأوّلان، واحد عن حسني مبارك الآيل للسقوط حينها والساقط حديثا بن علي يرسمان صورا كاريكاتوريّة عن الدكتاتوريين. الأوّل هوسه بالبحث عمّن يطلق النكات عليه مثلا والثاني عبارة عن مونولوج للرئيس التونسي بعد هروبه. قد يجانب الحقيقة ما ذكره في محضر تشخيصه لماهيّة ما حصل إن كان ثورة أم انتفاضة ، إذ يقول "هو رفضٌ مطلق وصريح للاستبداد وللفساد، لسرقة ثروات البلاد، رفضٌ للمحاباة والمحسوبيّة، رفض للإذلال واللاشرعيّة التّي تشكّل أساس الوصول إلي السلطة من قبل هؤلاء الزعماء الذين يسلكون سلوك المافيا." لكنّه غالط الرأي العام الأوروبي بتفسيره لصمت الشعوب بسببين واهيين، أوّلهما الخوف من قيام جمهوريّة إسلامية علي النّمط الإيراني وثانيهما إغراؤهم بالعقود والأعمال الدّسمة ما جعلهم يتغاضون عن مسائل حقوق الإنسان، متجاهلا حركات الرّفض والمقاومة التّي كانت موجودة أصلا في ظلّ الدكتاتوريّات وعمليّات القمع لها بتواطؤ مع الغرب، كحركة "كفاية" في مصر و أحداث الحوض المنجمي في قفصة، ما فنّدته أيضا نتائج الانتخابات في تونس، مصر والمغرب التّي تزعّمت نتائجها الأحزاب ذات الطّابع الإسلامي. يلخّص بن جلّون المشهد التونسي بمقالين، الأوّل مقارنة بين عهد بورقيبة و بن علي والثاني بعنوان "الشرارة" ربّما كانت أولي أفكار روايته ذات الخمسين صفحة. مجّد بورقيبة كثيرا ووصفه بالحداثيّ والتقدّميّ والسياسي البارع لكن المتسلّط، يقول "كان، رغم إصلاحاته، حاكما جائرا، خاصّة حيال الذّين عارضوا سياسته بطريقة ديمقراطيّة. ولكن هل كان ذلك سببا كافيا لكي يأتي بن علي، العسكري المتزوّج من مزيّنة، ويزيحه مثل هيكل عظميٍّ شائخ ينتظر الموت؟" أكّد الطاهر بن جلّون، أنّ بن علي واصل إصلاحات بورقيبة خاصّة في مجال التربية والتعليم و نقّي -كما عبّر- المناهج من الايديولوجيا الاسلاميّة المتعصّبة وهو أمر غير صحيح بالمرّة. فبن علي وبشهادة جميع الملاحظين للشأن التونسي، أنتج جيلا فقيرا معرفيّا وثقافيّا بعيدا كلّ البعد عن الذّين علّمهم بورقيبة، أمّا الايديولوجيا الاسلاميّة فقد تناسي الكاتب أنّ بن علي كان آخر عهده أصوليّا وبالوقوف إلي جانب صهره صخر الماطري الذّي استعمل قناع الدّين لغرز سمومه في التونسيّين عبر إذاعة "الزيتونة "الدينيّة ومصرفه الذّي يحمل نفس الاسم. يواصل بن جلّون عرض شطحاته فمحمّد البوعزيزي "مجازٌ بلا عمل" ثمّ في نفس المقال "اضطرّ للانقطاع عن دراسته، عند وفاة والده، العامل الزراعي" في خصوص نصيب مصر، يلخّص ما جري فيها بسرد سير ذاتيّة لكلّ من سيّد بلال، أيمن نور، اسراء عبد الفتّاح وحركة كفاية. كذا مقال أطول عن الاخوان المسلمين عبر سرد لحركتهم عبر التاريخ منذ تاسيسها من طرف حسن البنّا وتطوّرها، كذلك عمليّات القمع الممنهج لها في مصر و إبادتهم في سوريا عام 1980 في مدينة حماة. لم يمنعه تزلّفه للغرب من ايصال رسالة تطمين لمن يعانون فيه من أعراض الاسلاموفوبيا إلي أنّ الاخوان المسلمين في مصر لا يمثّلون ثقلا مستشهدا بنتائج بحث السوسيولوجي السويسري باتريك هايني أفاض ل"أنّ سيطرة جماعة الاخوان المسلمين علي ديناميكيّة أسلمة المجتمع المصري في تناقص" ويؤكّد بثقة تامّة "حتّي وإن حلم الإخوان المسلمون بجمهوريّة إسلاميّة، فإنّ الشعب المصريّ بغالبيّته لا يشاطره هذا الحلم." "الاخوان المسلمون موجودون ومنظّمون جيّدا ولكنّهم لا يغطّون كلّ المجتمع، خاصّة وقد تمّ تجاوزهم من قبل الشباب الذين أوصلوا رسالة غضبهم وتمرّدهم عبر الوسائل الحديثة التي أتاحها الانترنت" رسالة انقشع مضمونها مع نتائج الانتخابات ومع ظهور طرف أكثر تزمّتا وهم السلفيّون، لسائل أن يسأل من أين يأتي "عمّ الطاهر" بإحصائياته ومن وكّله للحديث عن الشعب المصري، الذّي يعرفه من خلال النزل الفخمة في زياراته القليلة أو من خلال حيطان الفايسبوك التّي تمدّه أيضا ببعض الكليشيهات "البايخة" التّي لا يجد حرجا في كتابتها وعرضها علي الفرنسيّين. المقال الوحيد عن الجزائر, لم يرتق إلاّ أن يكون عرضا برقيّا، للاستهلاك الفرنسي، لسيطرة الجيش علي السلطة و بعض من انتحروا علي شاكلة البوعزيزي ويبشّر بانتفاضة طويلة الأمد علي الجيش-لم تندلع إلي حدّ الساعة- مستندا علي معلومات من مواقع علي الشبكة العنكبوتيّة لا يعرف مدي مصداقيّتها هذا إضافة إلي تحيّزه إلي المغرب في حديث عرضه لنزاعها مع الجزائر التّي تدعم جبهة البوليزاريو الانفصاليّة و تستقبلها علي أراضيها. شاعر تونسي