أندريس نيومان خلع جدي ملابسه قطعة قطعة حتي بقي عارياً. نظر لجسده المريض والنحيف رغم استقامته. كانت مرآة الحمّام تزداد إظلاماً معه مع مرور السنين. الآن لا يتبقي فيها سوي صدأ قاتم في حوافها، ولمبة أربعون فولتاً من فوقها. طوي جدي ملابسه بعناية. تركها فوق غطاء التواليت. توقف لحظة معلقاً الشبشب الصوف بين إصبعيه، وقرّر أن يخرجه للممر. حينئذ أغلق الباب من الداخل. لم يكن الطقس بارداً. وهو عاري، شَعَرَ أنه أكثر راحة بكثير. بعدها شعر بالخجل وفتح الصنبور. بدأ السيراميك في الاختفاء. أدخل جدي يداً في الماء وحرّكه. ضبط الحرارة عدة مرات. جلس علي حافة البانيو لينتظر. توقف وابل ماء الصنبور عن هز سطح البانيو. وصار شفافاً بعد أن كان غائماً. وببطء، أدخل جدي قدماً بعدها الأخري، وبحث عن اتصال دافيء بردفيه. ظل جالساً في الماء بركبتين مثنيتين وذراعين يحيطان ساقيه. تنهد. جاءت علي ذاكرته أحداث قديمة: طفل بشورت فوق درّاجة، يوزّع الخبز؛ سيدة بدينة، راقدةً فوق سرير صغير، تعطيه تعليمات وتطالبه بالإفطار؛ سيد طويل وأشقر، يبدو أجنبياً بوضوح، يداعب شعره علي أحد أرصفة الميناء؛ سفينة ضخمة حمراء وبيضاء وسوداء تبتعد عن نظره؛ الحقل الأخضر، المفتوح، بيت بلا مدخنة؛ المكتبة الصغيرة التي كان يزورها ليلاً صبي منتصب القامة، بين صرخات السيدة البدينة؛ جنازة خالية، تابوت ضخم؛ بيت مختلف، به إضاءة أكبر، وفتاة جميلة تبتسم له؛ طفل بشورت، فوق درّاجة، لن يحتاج أبداً لتوزيع الخبز عند الفجر؛ طفلة أخري تذاكر في المطبخ؛ مصنع، عشرات من الظلال بلا أسماء وبعض وجوه قليلة لطيفة؛ صبي وصبية، بلا درّاجات، بلا كراسات؛ حفل زفاف؛ حفل زفاف آخر؛ بيت خال، وضوء خافت؛ صوت يرافقه، يبعث الطمأنينة؛ نزهات متشابهة لصباحات متشابهة؛ سَكينة حلوة مُرّة؛ زيارة عيادة؛ طبيب يقول هراءً؛ امرأة عجوز تخرج لشراء طلباتها؛ مظروف مستطيل مكتوب بخط اليد، بالحبر الأزرق، فوق ترابيزة الصالة؛ عجوز عريان، يجلس كما البيضة، محاطاً بماء هاديء. لم يكن يُسمَع إلا خرير ماء إحدي الصنابير. نقطة نقطة حتي وصل العدد لعشر، لعشرين، لثلاثين، لخمسين، وصل عدد القطرات لمائة. فك عقدة ذراعيه، رفع رأسه، أسند ظهره إلي الخلف حتي لمس رخام الحائط. تحت الماء، وبين انعكاسات غائمة، ضغط جدي جيداً علي شفتيه حتي لا يهرب من بينهما الهواء وظل بلا حركة. لكن حدث حينئذ شيء غير متوقع، شيء تخيلته أنا: فجأة، اقتحمت جسد جدي طاقة ما وبدأ يرتجف. صار وجهه مهشماً، وعيناه متورمتين وشعره مقنفداً؛ لكنه كان يتنفس لا يزال. لم تخطر علي ذاكرته هذه المرة أية صورة. كان وحيداً مع الماء، مع الصنابير، مع الرخام، مع البانيو، مع البخار والمرآة، مع جسده العاري. أعرف أنه في هذه اللحظة، مرتجفاً ووحيداً، كان جدي يرسم نصف ابتسامة ويشعر بسعادته الأخيرة. حينها نعم، ضسط علي شفتيه وجفونه من جديد، وأسند ظهره حتي شعر بالرخام خلفه. حينها كف جدي عن أن يكون جدي.