علي طريق مصر إسكندرية الصحراوي، وعلي بعد 100 كيلومتر تقريباً من القاهرة، في دير وادي النطرون، كنت أبدو مرتبكة وأنا أبحث عن مفردات لائقة بمخاطبة البابا شنودة الثالث، بطريرك الكنيسة الأرثوزكسية (صورة رجل الدين، ورجل الدين المسيحي تحديداً ترتبط بالقداسة، وربما بالخوف أيضاً).. رحت أردد بين الجملة والأخري (فضيلة البابا..) بينما زميلي المصوّر يشير لي بعصبية، ويتمتم (قداسة، قداسة).. اعتراض الزميل بدا لافتاً، فاضطررت للاعتذار: (عفواً قداسة البابا، زميلي يُنبّهني إلي عدم دقة مفرداتي، باستخدام لفظ فضيلة) .. ضحك البابا: (يُمكنك استخدام المفردات التي تُريدين، والكلام بالطريقة التي تروق لك..). كان يبدو بسيطاً، وبشوشاً، وضاحكاً، يُكثر من الاستشهاد بالشعر، وأحياناً آيات القرآن، وكان ذلك يدهشني.. في رواية (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو، كان رهبان القرون الوسطي يؤمنون (بأن المسيح لا يضحك)، ويعادون الضحك.. دسّ أمين مكتبة أحد الأديرة البنديكتية، السمّ في الكتاب الثاني من (فن الشعر) لأرسطو، والمخصص ل(الكوميديا) أو ل(الملهاة) ليموت كل من يقوم بتصفّحه، ذلك لخطورة الضحك علي العامة، وكمحاولة لمجابهته، لأن الضحك يحرّر الإنسان من الخوف، يُحطّمه، ويُحطّم الموت.. ولهذا لا يطالب به رجال الدين الحريصون علي جهامتهم، الحريصون علي إشاعة الخوف، خصوصاً الخوف المرتبط بالدين.. لكنّ البابا شنودة الثالث، كان يضحك وتمتلئ عظاته الأسبوعية، بالكثير من النكات والتعليقات الساخرة والدُعابة، مدركاً أن الضحك قوة المعرفة، وأنه سلاح الأقوياء وأحد أشكال المقاومة، ، عندما كان طالباً في كلية الآداب، كتب قصيدة ساخرة في كراهية مادة الجغرافيا،تلك بعض ملامحه وخصوصيته هي الروح المرحة التي لازمته حتي كرسي الباباوية.. البعد السياسي الوطني، و(مصر التي تعيش فينا) أيضا أحد ملامحه الأساسية، رابطاً الكنيسة بالوطن، محرّكاً محور القداسة من السماء إلي الأرض، ومتحولاً من أب روحي، إلي أب وطني، مضيفاً إلي المسيحية الروحية خصوصية سياسية بلون تُراب الوطن، لتصبح الكنيسة المصرية في عصره من أقوي مؤسسات الدولة المصرية، وبدلاً من الحديث عن البابا كفرد، أصبح الحديث عن الكنيسة كقوة، وتلك أيضاً أحد أشكال الصدام مع النظام المصري.. وأحد أسباب غضب السادات عليه، سحب منه اعتراف الدولة بانتخابه، وقام بتعيين لجنة بابوية مؤقتة من خمسة أعضاء لتولي مسئولية الكرسي البابوي، ثم عزله في دير الأنبا بيشوي 1970، بعد أن رفض البابا زيارة أقباط مصر للقدس رغم زيارة السادات.. عُزل البابا رسمياً، لكن سلطته الفعلية كانت أقوي من أن ينتزعها، أو يعزلها أحد.