تتدافع، في الشارع قبل شاشات الإعلام، ألفاظ: الثورة، المواطنة، التظاهرة، الحراك وغيرها، من دون أن يتم درسها كفاية، ولا درس الصلات بينها وبين التمدن والجمالية، ما أثيره في هذه الأسئلة: ماذا عن المواطنة لجهة علاقاتها بالجمالية؟ ماذا عن الفن بوصفه يعاين الوجود والكائن فيما يعبِّر عنه؟ وماذا إن طلب الفن استباق ما هو ماثل؟ طلبت الوقوف، بداية، عند التظاهرة بوصفها فعلاً، ظاهرة، قابلة للدرس، بما يدل علي بروز أو ظهور المواطن نفسه. وهو ما أعالجه من خلال مفهوم طالما عولت عليه في فهم أحوال مجتمعات عربية مختلفة، وهو: العلنية. فماذا أقصد بها؟ لطالما نظرت إلي المدن الإسلامية القديمة مثل بنية معمارية ذات تشكيلة اجتماعية وتعبيرات قيمية وعسكرية وجماعية، حيث تمثل المدينة مثل بيت له بوابات تغلق في المساء، ويبقي الغرباء خارجها حتي انبلاج الفجر: وللجنة أبوابها: ثمانية حسب البخاري، وتفتتح في كل أسبوع يوم الاثنين ويوم الخميس، حسبما روي مسلم؛ واتساع الباب فيها أربعون سنة لشدة الزحام؛ وفي الجنة خيام ونخل... وهي مدينة من بيوت لكنها تمثل الجماعة في وحدتها، ما وجدته في ما كتبه عنها ابن خلدون، إذ تحدث عن وظيفتي: "الاعتصام" و"التحصن بجدرانها"، ما يعني أن للمدينة وظيفة حفظ السكان مما يهددها من خارجها. وهو ما يمكن أن يُقال عن بنية البيت الإسلامي القديم، ولا سيما في أبنية الأندلسيين، بوصفها منغلقة علي داخلها، حيث إن جمالها يتعين في انبناء البيت علي وظائفه الداخلية. وهو ما يظهر بمجرد معاينة "قصر الحمراء" تحديداً، حيث أن بناء القصر من خارجه لا يشي أبداً بجماله، بل يبدو مثل حيطان مماثلة لغيرها من بيوت الفقراء أو الأغنياء. هذا ما تغير في المدينة مع توطن القوي الاستعمارية ومع نماذجها المعمارية فيها، وهو ما توقفت عنده في دراسة سابقة إذ درست وظيفة "الشرفة" فيه، أو بناء الشباك بدل "المشربية"... هذا ما جعل المدينة العربية-الإسلامية القديمة تتغير في شوارعها العريضة، من دون التواءات الأزقة والزنقات. وهو ما جعل المدينة مفتوحة علي خارجها، من جهة، وما جعل البيت المفرد منفتحاً بدرجات ما علي خارجه، من جهة ثانية. هذا ما أطلقت عليه تسمية: العلنية. وهي علنية لها وجوه أخري، تتمثل كذلك في هيئة الدكان المستجدة: تصف بعض كتابات المستشرقين أحوال بيروت والبيروتيين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتشير إلي شكل مختلف من الدكان، إذ بات يقوم علي واجهات خارجية يتم فيها عرض عينات من البضائع والسلع. كما تصف هذه الكتابات عادات جديدة داخلة علي السكان، وهي التنزه والتجول بغرض التبضع أو من دونه. وهو ما يختلف مع ما كان قد وصفه القنصل الفرنسي هنري غيز عن بيروت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر (أي قبل حدوث التغيرات): "أما المقاهي، وما أكثرها هنا (بيروت)، فهي عبارة عن غرفة مظلمة رديئة البلاط، تنتصب حولها مقاعد من الحجارة، مفروشة بحصير، تنتشر فيها عدة كراسي، علو الواحدة منها خمسة وعشرون سنتمتراً، يجلس عليها المتفرجون في داخل القهوة وعلي الطريق العام (...). أما في المساء فتكون المقاهي مطروقة جداً، وقلما تمتد السهرة إلي ما بعد العشاء، إذ تقام الصلاة بعد انقضاء ساعة ونصف من غياب الشمس. إنها الفترة القصيرة التي يقوم بها القصاصون العرب، ولاعبو الكراكوز، بتحريك مواهبهم وإلهاب قرائحهم". ثم يستكمل غيز وصفه بالقول: "لم يكن عند المسلمين مجتمعات حقيقية. فالأشخاص الأشد حباً للاجتماعات والمجالس ينسحبون إلي منازلهم عند غروب الشمس ليتعشوا فيها، ثم لا يبرحونها. قلما يسمحون لأنفسهم بالقيام بنزهة صغيرة علي الأقدام، وإن فعلوا فتلك النزهة لا تتعدي المدافن أو إحدي الزوايا غير البعيدة عن المدينة (...). فالأتراك يعدوننا مجانين حين يرون ما نبديه من الحركة النشيطة الفرحة عندما نفتش عن أسباب اللهو" ("بيروت ولبنان، منذ قرن ونصف القرن"، تعريب: مارون عبود، منشورات دار المكشوف، بيروت، الطبعة الثانية، 1949، ص 1، 30-31، ثم ص 2، 67-68.). التظاهرة شأناً نادراً واستثنائياً، لا يعبر عن توازن العلاقة بين السلطة والجمهور، بل عن اختلالها الكاسح لصالح السلطات هذا ما ينتبه إليه محمد علي بدوره، في شوارع القاهرة، وهو أن إيفاد بعض الطلبة للدراسة إلي أوروبا قد جلب معه عادات جديدة غير مناسبة، حسب تفسيره: هكذا يوجه ملاحظاته إلي أحد وزرائه بوجوب التنبه إلي بعض العادات التي جلبها معهم بعض "الأفندية"، أي الذين تعلموا في أوروبا: "لا يتورعون عن جر زوجاتهم معهم إلي أسواق الإسكندرية، وان المصلحة تقضي بتأنيبهم وتنبيههم إلي أن مصر بلاد إسلامية لا أوروبية لا يباح فيها هذا السلوك" ("المحفوظات الملكية المصرية"، وقام بجمعها وتحقيقها: أسد رستم، منشورات المكتبة البولسية، مجلد 3، ص 92). هذا ما تحدثت عنه في كتابي: "العربية والتمدن..."، في إحدي فقرات الفصل الأخير، إذ أشرت منذ العنوان إلي: "العلنية، النظر و...الزنا" (شربل داغر: "العربية والتمدن، في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة"، دار النهار للنشر بالتعاون مع جامعة البلمند، 2008، ص 199-204)، مستنداً إلي ما قاله الشيخ عبد الجواد القاياتي (1838-1902) عن خروج المرأة إلي الشارع: "بهذا الذي يظنونه تمدنا اشتبه الحال وزاد الاختلال، فلا يدري حال المرأة وهي مارة بالطرق، أهي مع حليلها أم خليلها (...). والعبرة بحفظ الباطن، وما دروا أن الظاهر عنوان الباطن، والنظر بريد الزنا والطريق إليه" (: "نفحة البشام في رحلة الشام"، دار الرائد العربي، بيروت، 1981، ص 52). التظاهرة جمالياً يستحق الوقوف عند التظاهرة من جهة حدوثها التاريخي، ومن جهة تعبيراتها ليس السياسية فقط، وإنما الاجتماعية والجمالية خصوصاً. ذلك أن حدوث التظاهرة صعب في ثقافة وسياسات طالما جمعت بين "الخروج" و"الفتنة" (بمعانيها كلها). هذا ما يصح في الماضي العربي-الإسلامي، كما يصح في العقود الأخيرة. وما كانت تتيحه بعض السياسات في المجتمعات العربية من خروج المرأة إلي الشارع (سافرة أو محجبة)، لم تسمح به حكومات عربية إلا في ظروف استثنائية، أو "انفجارية". لهذا فإن الخروج إلي الشارع لم يكن مسبوقاً، ولا محموداً، لأكثر من سبب وسبب... لكن دراسة التظاهرة تحتاج إلي معاينات متعددة بتعدد المقاربات المختلفة في العلوم الإنسانية: للتظاهرة أوجه سياسية: لم أقع حتي تاريخه (في حدود ما أعلم) علي دراسة تناولت تاريخ التظاهرات في العالم العربي، لا لقلتها وحسب، وإنما أيضاً لأسباب خروجها ومعانيه. فأن يتذكر القاريء، والطالب خصوصاً، التظاهرات "الوطنية" و"الجامعة" ضد الاستعمار (ما تعكسه بعض روايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، علي سبيل المثال)، أو تظاهرات "دعم" المقاومة الفلسطينية في أكثر من بلد عربي، لا يغيِّب حقيقة كون التظاهرة شأناً نادراً واستثنائياً، لا يعبر عن توازن العلاقة بين السلطة والجمهور، بل عن اختلالها الكاسح لصالح السلطات. وما يحتاج إلي الدرس خصوصاً، وفي صورة أوفي، هو "الهبات" الجماهيرية، التي اندلعت إثر فاجعة وطنية ("ثورة الخبز") أو سياسية (تظاهرات ضد غزو غزة)، أو حادثة سياسية كبيرة (استقالة جمال عبد الناصر)... وهو ما حصل في أوضاع تاريخية سابقة علي القرن العشرين في أكثر من ولاية أو بيئة عربية. يمكن القول إن تظاهرات الحراك العربي، منذ عام، لم تخرج عن سابق التظاهرات، وإن بدا فعل احتراق محمد البوعزيزي استثنائياً وشديد العلنية. إلا أنها تخرج عنه أيضاً، وإن في أفق غير جلي كفاية، أو خاضع لأفعال مفتوحة حتي أيامنا هذه: خروج تظاهرات ما بعد سقوط المستبد لرفع شعارات "تكميلية" أو "استلحاقية"... للتظاهرة أوجه اجتماعية ونفسية وسلوكية: تحرك وتستجمع قوي قد تكون طبقية، أو فئوية في طبقة، أو جامعة بمعني اجتماع طبقات مختلفة فيها؛ كما تستجمع التظاهرة في مسارب الوصول إليها، والمشاركة فيها، مسارات فردية خالصة، وإن التقت أحياناً في حلقات أو مجموعات حزبية أو جهوية أو في حي وغيرها. هذا يعني أن الإقدام علي التظاهر يصدر عن تهيؤات، عن استعدادات، عن مؤثرات ودوافع محركة تحتاج إلي تحليل يزيد علي القول الرائج: "كسر حاجز الخوف". هذا الخروج الصعب، "البري" في بعض تجلياته، يواجه حقيقة الأفراد المحدودة أمام قوة الأجهزة، والتي تعيد في حاصلها السياسة إلي معناها الأول: كيف للناس أن يصنعوا السياسة، أن يكونوا ذواتاً في السياسة، لا موضوعاً لها وحسب؟ إلا أن للتظاهر أوجه جمالية كذلك: ألا تكون التظاهرة مثل مشهدية يمكن النظر إليها بوصفها ذات تعبيرات دالة، فردية، وجماعية وفنية بالتالي؟ أليس للمتظاهر في المشهدية أداء بل أكثر، ما يجمع تعبيرات المتظاهرين، من جهة، وما يعددها وينوعها كتعبيرات فردية أيضاً، من جهة ثانية؟ فالتظاهرة لا تعدو كونها مجيء الكلام أو بروزه، وانكشاف الجسد، وتعالي التطلع، بعد الخفوت والتمتمة والكبت. بل أكثر من ذلك، هي: رفع الصوت، ورفع اليد، ورفع الجسد نفسه. وهذا، إذاً، أكثر من بروز؛ هو إزاحة، حيث تتدافع الأقدام مثل تدافع الحروف والألفاظ في جملة متجددة. هي مسرح، إذاً، هي عرض، علي أن ممثليها يدركون وجود جمهور يتوجهون إليه بالضرورة. ومن كانوا هامدين، صامتين، منصاعين يتحولون إلي صارخين، مطالبين ورافضين. ومن كانوا غائبين، مغيبين، ظهروا واحتلوا الشاشة، وإن بوجوه عمومية. هذا الظهور فجائي، انفجاري، مثل فضيحة، مثل شتيمة، مثل زلة لسان، مثل فعل أخرق يقلب جاري الأيام. كم من الأفعال مثل فعل البوعزيزي - كان لها أن تنتهي في وقتها، عند حصولها، بعد حصولها؛ وإن بلغت البعض فإنهم كانوا سيمرون أمامها لامبالين، أو متألمين وصاغرين. فما الذي جعل من فعلة البوعزيزي صرخة بحجم أمة؟! أن تفعل، أن تقول، أن تكون: هذا ما تجلوه التظاهرة. هذا "الخروج" يهدد "جسد" السلطان. وهو تمييز أعول عليه دائماً في دراسة السلطان السياسي العربي-الإسلامي، وأريد منه الحديث عن ملكية السلطان للرعية بوصفها جسده الممتد: تستوقف في العربية التداخلات بين ثلاثة ألفاظ تكاد أن تكون واحدة، وهي: الحُكم" بالمعني السياسي، و"الحُكم" بالمعنيين القضائي والجمالي، و"الحَكم" بالمعني القانوني، حيث أنها كلها تستجمع وتميز بين ملكات ثلاث ابتداء من جذر واحد. وهو جذر يتولد من إرادة البت والفصل في شؤون البشر، ما يمد أسباب صلة أكيدة بين الفن والسياسة والبشر، في النزاعات والاجتهادات والتطلعات. وهو ما يتجلي أكثر في ألفاظ: المَلك، والمُلك، والمالك، والمملوك والمَلكية والمُلكية وغيرها. ذلك أن ما نعرفه من أنظمة الحكم لم يتعد إلا في فترات وعهود استثنائية حكم السلطان؛ وهذا منذ أن انتهي، مع الخلفاء الراشدين، عهد "مجالس الصحابة". فما عرفناه بعد ذلك لا يعدو كونه عهود الأسر السياسية، وصولاً إلي الحكومات في العهود الاستعمارية المختلفة وعهود التوريث السياسي الأخيرة. الخروج يهدد الامتثال المطلوب، ولا يكون، في هذه الأحوال الصعبة، سوي "قومة" أو "ثورة" (بالمعني القديم أو الحالي)؛ وهو "الفتنة" في خطاب الحاكم وألسنته. التظاهرة، في قيامها، في إعدادها، في جريانها، في ما يتخللها من أقوال وأفعال وتعبيرات مختلفة، تصدر عن إحساسات ودوافع ومحركات و"آراء"، وتستدعي تدابير وخبرات، كما تَظهر في أشكال وإداءات، وتفضي إلي وقائع وحدوثات وأشكال تلقٍ وتقويم... التظاهرة، إذاً، بوصفها فعلاً جمالياً، في مجال الشراكة التي تقيمها السياسة مع الفنون في المجتمع وبين الأفراد: "الشراكة في الإحساس"، لو طلبت استدعاء عنوان كتاب معروف لجاك رانسيير (Jacques RANCIERE). المواطن أفقاً للفن ما يجد صعوبة في الخروج إلي الشارع، في الخروج من عباءة السلطان، كان قد وجد سبيله إلي الصفحة، إلي اللوحة، إلي الصورة الفوتوغرافية وغيرها. هذا ما تعين عربياً، منذ القرن التاسع عشر، في ظهور القاريء كما المتفرج. فما عاد الفن يتوجه إلي الأمير أو السلطان، بل إلي طرف جديد تمثل في "مُطالع" الجريدة والكتاب، وهو ما باتت تنعقد دورته في السوق، والمتحف، والمكتبة، لا في البلاط أو القصر وحدهما. هذا ما كتبته في كتابي الأخير في هذه الجملة المختصرة: "خرج الأمير من القصيدة..."، في "الشعر العصري" قبل الشعر الحديث؛ وهو ما أستكمله بالقول: خرجت القصيدة من البلاط، ونزلت بمعني ما إلي الشارع. هذا ما يمكن استعراضه في وجوه باتت أليفة في القصيدة، مثل: الفلاح، والعامل، والجندي، والشحاذ، والأعمي، والحزبي وغيرها الكثير. وهو ما اتسعتْ، في استعراضه وحكايته، روايات وقصص وسير متعددة؛ وهو ما صورتْه لوحات ولوحات: خرج الفن بالتالي من المسجد، والقصر، صوب شوارع وأزقة، ووجوه المعدمين والفقراء والمهمشين؛ وهو ما يصح في العارية والوجوه السافرة وظهورات الجسد الأنثوي اللاهي... هذا الخروج المتعدد لا يمكن فهمه، واقعاً، من دون تشكل المواطن مثل أفق لقبول الفن. هو ما يتوجه إليه الفنان (والأديب وغيرهما)، وإن لا يقصده صراحة. هذا ما يعول عليه الفنان بمعني ما طالما أن قيمة الفن، بمعانيها كلها، لا تتعين إلا في استقبال المواطن له. من يعود إلي كتاب ليونارد دوفنتشي، "نظرية التصوير" (ليونار دو فنتشي : "نظرية التصوير"، ترجمة: عادل السيوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995.)، يتحقق من أنه يصرف صفحات وصفحات للحديث عن كيفية تصوير: الهيئة (الشخصية)، والثياب، والجبال، والأشجار والنباتات، والسحب والأفق وغيرها. كما يرفق الحديث هذا بصفحات وصفحات عن تقنيات التصوير نفسها، وما لها أن تحدثه من ظلال ولمعان وأشكال وغيرها، فضلاً عن أفكار في علاقة التصوير بالفنون الأخري، ما يندرج في النظرية الصرفة، إذا جاز القول. هذا الكتاب عن "نظرية التصوير" لا يعدو كونه دفتراً عملياً (وثقافياً) أيضاً للفنان، علي أن الفن هو مجموعة من المباديء أو التدبيرات التي يُقاس بموجبها مدي نجاح الفنان أو توفقه أو تميزه. هذا يعني أن للفن قواعد يَحتكم إليها، ويُحاسَب عليها، وهو بهذا المعني كتاب في: بلاغة الصورة. أي يمكن قياسه علي مثال كتب البلاغة (بما فيها العربية) التي يعود إليها دارس الأدب لكي يحكم علي الناتج الأدبي. إن وجود مثل هذه البلاغة يفترض وجود قواعد جمعية مفروضة أو مرتضاة من قبل المبدعين، وهو ما يجتمع طبعاً في قول إجمالي، وهو أنه باتت للفن في هذه الثقافة أو تلك قواعد بل قوانين ناظمة. هذا ما قالته عن نفسها البلاغة في أقلام قضاتها ومحكميها ومقوميها الذين يعملون وفق مقتضيات جمالية البلاط، كما أشرح وأدافع. يتنبه قاريء بعض المراسلات بين فنانين في مدن إيطالية مختلفة وبين "زبائنهم" (من المطارنة أو السادة النبلاء وغيرهم) إلي قيام تراسل ذي طبيعة مختلفة، إذ يطلب صاحب "الطلبية" الفنية من الفنان لوحة وفق "إلهامه الخصوصي"، ما يعني أن للفنان مقداراً من التحكم والاقتراح في ما يفعل، وأن الزبون بات "ينتظر" لكي يتلقي ويتفاعل. فما كان يتم الكلام عنه بوصفه أحسن التمثيل لمعركة الملك الظافرة، أو لصورة حكمه، أو لجمال زوجته، بات يتعين في جمالات ذات مصادر واستهدافات أخري، تتمثل في ما يقترحه الفنان "وفق إلهامه الخصوصي"، وما يستثير في "نفس" الزبون من أصداء وانفعالات وتأثيرات. هذا يرسي العلاقة الإحساسية بالفن علي شبكات جديدة، لا يعدو "المواطن" (الذي هو قيد التشكل في الفنان) أن يكون أفقها الجديد. في هذا بات يمكن الحديث عن "عبقرية" الفنان، أو عن قدرته "الاستباقية"، ما وصل حتي حدود الخرق والفضيحة والدعابة والخروج بمعانيه كلها. الفن في صيغة استهلاكية هذه "الثورة" المنجزة أخرجت الإبداع من اقتصاد الملك-المالك للرعية وممتلكاتها، وأدخلته في النمط الرأسمالي السلعي بالضرورة. وهو ما يمكن إيجاد صور وأمثلة تصغيرية عنه، في: الأمير، والإقطاعي كما في حراسه من القضاة بأنواعهم المختلفة. هذا ما يمكن التدليل عليه بالخروج من البلاط إلي السوق، ومن القصر إلي فسحات فردية أو فئوية، قوامها: الصالة، أو الجريدة، أو الكتاب، أو اللوحة وغيرها. هذا ما بلغ في التجربة السوريالية، ولا سيما في "الكتابة الآلية"، حدوده القصوي، إذ بات اللامعني شريكاً في إنتاج المعني وعرضه، وعلامة دالة عليه، وإن في معرض إبطاله ونزع صفة "الفردية" أو "العبقرية" عنه. بسبب إنجاز هذه "الثورة" الإبداعية بات الصراع يتعين بين المبدعين، وفي نطاق الإبداعات المختلفة؛ وهو ما يفسر التوالي المتسارع لنزعات الفن ومدارسه وجماعاته وتعبيراته المتصارعة-المتخالفة-المتمايزة، التي تنهل من المصدر عينه وتصب فيه: الاحتكام إلي أفق الشراكة الإحساسية للتي للجمهور في تبايناته، أي للمواطنين فيه. وهو ما يصدر عن أحاسيس مبدعين وجدوا في ما حصلوه وخبروه وانتهوا إليه مادة لتعدياتهم ومقترحاتهم. وهو ما قام فيهم بالتفاعل مع ما تقترحه عليهم طروحات المعني المختلفة (من الفلسفة حتي اللغة)، أو أشكال ظهور الأحاسيس وتعبيراتها. هذه الشراكة التي تتعين في السوق، في التداول، تنتقل إلي آليات اشتغال جديدة في العقود الاخيرة، وبخطي سريعة لا تقل عن سرعة نقل المعلومة في الإعلام الجماهيري: هنا، والآن (hic et nunc)، في "بث مباشر" (on live). إلا أن هذا الانتقال يتعين أحياناً في تجارب وأعمال فنية تتوجه إلي المواطن بوصفه متفرجاً في المقام الأول، ولكن وفق منطق الدعاية وجاذبيتها. وهو ما بلغ تسمية وزارات الثقافة نفسها، شراكة بين فنان ومؤسسة عرض: معاً لا يقران بالفن، ولا يسعيان إلي تكريسه، بقدر ما يؤكدان ويُعليان من قيمة "ماركة" بعينها، التي باتت هي - لا الفن - محل التكريس: ماركة الفن، وماركة المؤسسة. حيث باتت تسمي في أكثر من حكومة (بما فيها حكومات عربية): "وزارة الثقافة والاتصال". هذا ما يتعين في علاقة باتت لازمة بين الفن والتواصل، بين الفن والإعلام الجماهيري. هكذا يبتعد الفن عن بنائه المادي المعقد والمركب لصالح لغة مبسطة: في الشكل عند بيرِن (BUREN)، أو في اللون عند كلاين (KLEIN)، أو في التعويل علي "مداعبة" صورة مارلين مونرو (وغيرها) عند وارول (WARHOL)، أو صورة أم كلثوم في أعمال أكثر من فنان عربي... وهي، في ذلك، تطلب من المتفرج صدمة بديهية تستدعي شراكة في السخرية، التي تعول علي الإحالات المختلفة علي "مبولة" أو علبة معدنية أو بانيو وغيرها. بل تستدعي من المتفرج أن يكون شريكاً وفناناً بما تيسر، من حيث لا يدري ربما، أو لم يقصد: مثل حال الماشي رغماً عنه فوق الجسر الباريسي بعد أن لفَّه كريستو (Christo) بأقمشة بيضاْء... هذا النقد الظاهر للفن، للاستهلاك، للمتحف، لاستديو الفنان، لمادية العمل الفني، لوسائل إنتاجه المعهودة، يعول واقعاً علي ثقافة تقليدية، علي ثقافة المستهلك، وينحو صوب نقد استسهالي، لا علي نقد مركب أو منهجي أو عنفي واقعاً ضد "بورجوازية الفن"، أو "صالونيته". وهو ما أثيره في عدة أسئلة: أيهدد مارسيل دوشان (Marcel DUCHAMP) فعلاً مؤسسة الفن إذ يضع "المبولة" في صالة عرض، أم أنه يطلب تواطؤاً بينه (كفنان معترف به) وبين مؤسسة التكريس؟ ماذا لو كان انتقل بمبولته إلي الشارع؟ أكان العابرون نظروا إليها نظرة المصدوم من جراء فعلة جمالية؟ وهو أكثر من تواطوء، إذ يعني شراكة بين فنان ومؤسسة عرض: معاً لا يقران بالفن، ولا يسعيان إلي تكريسه، بقدر ما يؤكدان ويُعليان من قيمة "ماركة" بعينها، التي باتت هي لا الفن - محل التكريس: ماركة الفن، وماركة المؤسسة. ذلك أن الخروج من الإستديو، ومن "الصالون"، نقداً لنظرية "بورجوازية الفن" (كما يقول دعاتها)، عني العودة إلي "دعم" الحكومة والبلدية والشركة الاقتصادية العملاقة؛ أما نقد "مالكي" الفن من البورجوازيين فعني واقعاً طلبَ "الدعم" و"الرعاية" و"المؤازرة" من المؤسسات العملاقة المذكورة، والتي لها نفع أوسع من نفع الفرد، البورجوازي أو غيره، من الفن. ما يستوقف، إذاً، في هذه الأعمال هو ابتعادها عن منطق الخروج السابق ذكره، وتعويلها علي منطق الدخول دخول الفن إلي سوق الرواج الأسهل والأسرع والأضمن والأقل عملاً. إذا كان دوشان طلب الخروج من "بصرية" الفن صوب "ذهنيته"، حسب قوله، ما اجتمع في "الفن الجاهز" (ready-made)، فإن من احتذوا سبيله الفني أقبلوا علي استهلاك ما هو "جاهز" في هذا الفن، وعلي التفنن في ممكناته التواصلية خصوصاً. وما يستوقف في هذه الأعمال هو قيامها علي سند ثقافي-كتابي؛ وهو أكثر من عنصر شرحي، أو واعز، أو ذريعة: إنه "كفالة" العمل في نهاية المطاف. ما يعني أن الفن بات يتكل علي "المرجع" (le référent)، كما يقال في اللسانيات الحديثة، وما عاد يتكل علي بناء الجملة فالنص، وهو ما كان الإبداع البصري واللغوي يقوم عليه طوال عقود وعقود. هذا ما قرَّب هذه الأعمال من العمل الدعائي تحديداً: "صدمة" العين الفجائية، والحاجة إلي سند "المرجع"، وبناء "نجومية" الفنان بوصفها "الماركة" الضامنة للعمل الفني. بات الفن في ذلك "بارداً"، "جافاً"، منقطعاً عن الإحساس، عن الراهن، لصالح ما هو ذهني، وما هو مصنوع... لا يعود العمل الفني في ذلك ناتج تجربة، ناتج جسد متموقع في اللحظة، في الحراك، في كلية الأحاسيس التي للفنان كما للمواطن أن يعايشها، أن يعبر عنها. فالشراكة الإحساسية السابقة تتعدل لصالح علاقة لها أن تطالع ما يقصده الفنان أو ما طلبه في "المرجع"، قبل أن تري، وبمعزل عما تراه. لا يعود العمل في ذاته، في بنائه، يستنفر تهيؤات المتفرج، وشبكاته الإحساسية كما المعرفية، للتفاعل مع ما يراه، علي أنه يري إلي عمل جديد ولكن بعدة مهيئة، مبنية. فيكون المتفرج أمام العمل الفني مثل المتكلم إذ يضع نفسه في وضعية مستقبل ولكن مسبوق، أي يكون المتفرج قابلاً علي استعادة المستقبل، علي تخيله، كما لو أنه يراه للمرة الأولي. وهي المرة الأولي التي تكون ممكنة لأن العين مدربة علي التلقي، وعلي الإحساس بتغيرات النظر المفتوحة. الحِجاج والأحكام بين السياسة والفن لطالما توقفت الفلسفة، منذ تعبيراتها الأولي، عند المحاورة بوصفها مجالاً يتشكل فيه الحجاج بلوغاً إلي الحقيقة؛ وهو ما جعل أفلاطون "يطرد" الشعراء من "الجمهورية الفاضلة"، وهو ما جعل الشعراء في النص الإسلامي "في كل وادٍ يهيمون..."، أي بعيداً عن الحقيقة الجلية والناجزة. إلا أن الجمالية أدخلت، ابتداء من كنط علي الأقل، الفنان من جديد إلي المدينة، وأقامته بين المواطنين، وجعلته موضوعاً لعلم يتعين في الإنسانيات لا في الإلهيات أو في الأخلاقيات. ألم يقل كنط إن جميع إشكاليات الفلسفة يمكن ردها إلي سؤال أول ووحيد: ما الإنسان؟ هذا ما سيبلغ منذ العام 1793 الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان. وهو ما سينتظم، عند جان-جاك روسو خصوصاً، في مفهوم "الإرادة العامة"، الناتجة عن التعاقد؛ وهي "إرادة" تتكفل بالإدارة والتمثيل بموجب تنازل كلي وجماعي عن الحرية الطبيعية وعن قوة كل فرد. هذا سيقيم علاقة جديدة تقوم علي التمثيل والعقد، ما يسقط بالتالي الملكية الحصرية في السياسة، وهو ما يجعل الفرد يتشكل بوصفه "مواطناً"، وصاحب "السيادة"، التي أوكلها إلي غيره علي أنها تبقي خاصته. إذا كان بعض الدارسين تبين وجود صلة، في التجربة الإغريقية، بين المدينة والسياسة، وغيرهم بين المسرح والحجاج، فإن أسباب الصلة هذه لا تتعين فقط، حسب حنة أرندت، في بناء السياسة، أو الديمقراطية، وإنما أيضاً في بناء الدولة. وهو ما يمكن اختصاره في القول التالي: اكتشف الإغريق الحرية في السياسة، أما الرومان فعملوا علي بناء أجهزة توسطية بين الإنسان والسياسة، فعالة وقابلة للديمومة. تقول أرندت: "علي الرغم من عظمة الفلسفة السياسية الإغريقية، فإننا لا نشك في أنها كانت مرشحة لفقدان طابعها المثالي، الملازم لها، لو لم يقرر الرومان، في سعيهم الدؤوب إلي التقليد والسلطة، استعادة هذه الفلسفة، والاعتراف بها بوصفها سلطتهم العليا في جميع أشياء النظرية والفكر" (في كتابها: "أزمة الثقافة"، 1972، ص 158). هذه القدرة علي التأسيس توفر نقلة في الفكر، يحدث فيها التباين إذا جاز القول بين السياسة والإبداع، أو الافتراق ربما: بين قدرة الإبداع المحدودة علي التأسيس المستديم، وبين سعي أعمال الإبداع إلي الإزاحة، إلي الاعتداء، إلي الفضيحة بمعني ما. وهو ما أصوغه عربياً في سؤال واحد: كيف للحراك العربي أن ينجح في بناء أجهزة توسطية بين الجمهور والسياسة بحيث تضمن لهم إمساكهم الحر والتعاقدي بشؤون عيشهم وسعادتهم ومستقبلهم؟ وقبل ذلك: هل يتشكل المتظاهرون وغيرهم في هيئة "مواطنين"؟ ذلك أنه يتم الخلط بين صيغ مختلفة، بين الإنسان والفرد والعضو في جماعة، وبين "المواطن"، الذي لا يمكن اعتباره معطي أكيداً، وإنما هو ناتج عملية تاريخية ذات موجبات وتغيرات متعددة. وهذه لا تتعين في الوعي وحده، وإنما في "التذرر" الاجتماعي والاقتصادي، الناشيء عن تفكك البني التقليدية، من جهة، وعن "التشكل" المستجد، من جهة ثانية: "المواطن"، بالتالي، علامة الخروج وعلامة البناء أيضاً. قد يختلف الدارسون في فهم الحراك العربي الراهن: ماذا فعل وماذا له أن يفعل؟ إلا أن الأكيد هو أن هذه اللحظة باتت معلماً في الإحساس كما في الفكر، ولا سيما عند شبان وشابات خرجوا من عتمة التواصل الحاسوبي إلي علنية مدنية قبل أن تكون سياسية. لا يسعي الدارس أن يغيب ما للتواصل الحاسوبي الحاصل من دلالات مدنية: فما كان يتعين في منشور أو في شعار فوق حائط انتهي إلي أن يكون فوق "جدران" (wall) إلكترونية (كما تسمي صفحة المدون الحاسوبي في "الفايس بوك")؛ وما كان يدور من أحاديث في مقاهٍ انتهي إلي أن يكون "دردشة" ("تشات") حاسوبية... ما يستوقف في أحوال هؤلاء الشبان والشابات هو تجلي شراكتهم مع غيرهم في الإحساس، في صنع السياسة وكشف الأفق، فيما لا يؤدي التواصل الحاسوبي، في أحوال أخري، إلي فعل، ولا إلي حراك. ما يستوقفني في هذا الخروج هو الذهاب صوب الآخر؛ وهو ما يوفره الخروج إلي الشارع، إلي الصفحة، إلي الملاقاة الغامضة والواعدة في آن. وهو ما يقوم به النص حيث الشاعر يتجه في عتمة الكلام إلي مناداة الآخر، الشريكِ في منتهي المعني. هذا الذهاب له وجهة، لا نهاية مبرمجة؛ له ألق التجربة وتعثرها واكتشافاتها البهيجة؛ له عجلة في الأقدام، وعراك في الأيدي ولهفة في العيون. هذا يسرِّع الخطي كما لو أننا نفتح بوابة المستقبل، فيما لا نقوي واقعاً إلا علي التموقع ورفع الصوت ابتداء من فسحة الحالي. فالمستقبل علي ما أزعم لا وجود له إلا افتراضياً، كما في صيغة الفعل الفرنسية التي تتحدث عن مستقبل مسبوق (futur antérieur)، وهو ما يتعين ابتداء من لحظة الحاضر التي ينطلق منها الكلام: هنا والآن، ما يجعل المستقبل فعلاً، جملة، فوق شفاه الراهن.