في أسيوط، آخر أيام الثانوي، كنا نتسلل من المدرسة لنتصعلك في الجامعة التي أصبحنا قاب قوسين أو أدني من أبوابها الرسمية. أول مرة فعلتها وقفت أمام بوابة الجامعة، أوقفني الحارس وطلب تحقيق الشخصية، ورفض دخولي باعتباري لا أمتلك صفة تمنحني حق دخول "الحرم". حاولت إفهامه أن أمثالي يملأون ساحات الجامعة بالداخل، لكنه أصر علي تطبيق "القانون"، وبعد مفاوضات ومداولات فوجئت بالحارس "الأمين" يخبرني بالسر الخطير، قال: انظر يسارك، علي بعد مائة متر بالضبط يوجد باب فرعي، هو باب كلية الهندسة، هذا الباب بلا حرس، يمكنك أن تدخل منه إلي ساحة الجامعة كما تشاء. ظننته يهزل، قبل أن أفاجأ بأنه يتكلم بجد لكنه إلي الهزل أقرب، دخلت من باب الهندسة، ودرت لأذهب إلي الحارس الذي أشار لي بإبهامه علامة أن "كله تمام". تذكرت وقتها نكتة: لا يوجد فراخ، لكن ما رأيك في النظام؟ هذه النكتة التي تحولت إلي منهج تفكير، ونمط حياة. وكأن القوانين مجرد حواجز خشبية نضعها ليصير القفز بالجواد من فوقها أكثر إثارة. 2 فجأة تحول المصريون إلي شعب عف اللسان، لا يقبل العيبة، يخجل من الشتيمة، خاصة باتجاه "الكبير"، وبمجرد استخدام النائب زياد العليمي للجملة التي أطلقها في بورسعيد، حتي اعتبر الجميع أن النائب جرح الحياء المصري، وتجاوز الأخلاق والقانون. سياسيا، لا أهتم بالأمر. وقانونا، لا أعرف إن كانت هناك عقوبات يستوجبها استخدام المثل بهذه الطريقة أم لا؟ وإنسانيا، أجدني في غاية الانزعاج من كمية الادعاء التي صاحبت الاعتراض السياسي، ومحاولة إقحام "الأخلاق" في الأمر. في السبعينيات كتب أحمد فؤاد نجم قصيدة يسخر فيها من السادات، رئيس الجمهورية، وكانت القصيدة واحدة من هجائيات نجم عابرة الأجيال، وتم تقديمه للمحاكمة. في المحكمة ترافع عنه طيب الذكر نبيل الهلالي، وقال إن القصيدة التي ألقاها نجم ليست بالضرورة موجهة للرئيس، وكان رد القاضي أن الشاعر استخدم لازمة من لازمات الرئيس بشكل متكرر، (يقصد كلمة "عيب" التي كان الرئيس الراحل يستخدمها بكثافة في خطبه)، فرد الهلالي بأن هذه أول مرة يعرف أن الرئيس "له لازمة". طربت الحياة السياسية وقتها للنكتة التي أرتجلها رجل القانون العريق، لم يقل أحد وقتها إن ما فعله نجم أو الهلالي يخالف الأخلاق، ربما لأن الخليج لم يكن قد قذف بعد بالعائدين الذين يرفضون لفظ "ابن الكلب" الذي أطلقته فاتن حمامة في أحد أفلامها، لكنهم يقبلون كل "أولاد الكلب" الذين ملأوا شوارع البلد. تماما كما يخرج مجموعة من "أولاد البلد" ليقطعوا الطريق علي فتي وفتاة، لمجرد أن يمينها تعانق يساره، باعتبار أن ما يفعلانه خروج عن "الأخلاق"، حتي وإن كانت رائحة السبرتو الخارجة من أفواههم تغطي علي رائحة العفن التي تملأ المكان. إنه نفس التواطؤ، نفس الازدواجية، نفس الطينة، التي لا تهتم إن كان هناك فراخ في الجمعية، مادام "النظام" قائما. 3 عندما رحل بن لادن، لم أتمالك نفسي من الغضب، لم يكن الغضب علي أمريكا التي قتلت "المجاهد"، ولا علي "الإرهابي" الذي ظن أنه سيحيل حياة أمريكا جحيما، فإذا به يعطيها السلاح الذي دهست به ديارنا. وإنما كان غضبا علي كمية التواطؤ التي خرجت تنافق المهاويس، فقبل مقتل "المناضل المثال" بشهرين فقط لا غير، كانت مصر منقسمة حول التعديلات الدستورية، وهو الانقسام الذي أسفر عن فوز أحد الفريقين المتصارعين بنسبة كبيرة زادت عن السبعة وسبعين بالمئة، وكان أحد سبيين رئيسيين لها التفوق الكبير هو الرغبة في "الاستقرار"، وكان الداعون إلي هذا الفريق (من قالوا "نعم" في وجه من قالوا "لا") يستخدمون الكلمة السحرية لتحديد مصير البلد. وكانت النتيجة المكتسحة علامة علي أن المصريين في أغلبهم مواطنون طيبون يسعون للسلم، ويستهدفون الحياة الهادئة الكريمة. وعندما أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، المغامر الذي ترك جنة الأرض في القصور ليطارد جنة السماوات في كهوف أفغانستان. كان من الغريب أن تجد شعبا تدعو أغلبيته للاستقرار أن تتأثر كل هذا التأثر بالمغامر الذي هز استقرار العالم كله. هذا التناقض يعيد إلي الذهن مشهدا حدث أمام سفارة إسرائيل بالقاهرة حين تجمع آلاف المواطنين أمام السفارة يهتفون ضد إسرائيل وسفارتها وسفيرها: "أول مطلب للجماهير: قفل سفارة وطرد سفير"، وغيرها من الهتافات التي رددناها جيلا فجيلا عن عداوة إسرائيل والصهيوني اللي لازم يتصفي. وقتها وقف أحد قادة الجيش امام الجموع، وقال لهم إن اقتحام السفارة معناه تنكيس علم إسرائيل، وتنكيس العلم المصري في تل أبيب ومن ثم إعلان الحرب، ثم سألهم: هل تريدون حربا مع إسرائيل، فأجابوا في نفس واحد: لأ! هل تتعجب؟ أنا لا أتعجب، فهذا هو جوهر منهج التفكير الذي يتبعه حارس جامعة أسيوط، ومدير الجمعية التعاونية. فالمصريون، عموما، يفصلون بين ما يؤمنون به وحياتهم اليومية، فالموظف الذي "يخطف الظهر" ثم يفتح الدرج لتضع فيه خمسين جنيها نظير قضاء مصلحته، هو نموذج مثالي لهذه الحالة، فالرجل يؤمن بالإسلام فيقيمه، ولكن بعيدا عن تفاصيل حياته اليومية، إنه يصلي ويرتشي، أخته تتحجب ولا تترك النميمة علي جارتها، أمه تؤدي العمرة بآخر مليم تملكه ولا تجد غضاضة في أن تكذب علي أبيه الذي يحج ويسب الدين. وقديما انشغل يوسف إدريس بهذه المسألة، خاصة في رواية "العيب"، وكان تفسيره أن المصري له "دوسيهات" أخلاقية، بمعني أنه يضع كل فضيلة من الفضائل في دوسيه، فيلتزم بهذا ويترك هذا دون أن يخلط بين دوسيه وآخر. غير أن هذا "الوصف" لا يقدم تفسيرا لتلك الحالة التي تستحق مجهود دارسي ومدرسي علي الاجتماع، وحتي يقوموا بهذا الجهد فإننا سنحاول استكمال الرصد الذي بدأه إدريس، فنقول إن المصري الذي يقول في أمثاله إن ما يحتاجه البيت هو حرام علي الجامع، يطبق هذه النظرية حتي النهاية، فهو يضن حتي بأخلاقه إن احتاجها بيته. إدريس كانت له قصة أكثر تجذيرا في تشريح التواطؤ و"الصمت" في تمرير هذا التواطؤ، إنها "بيت من لحم"، هل تذكرونها؟ 4 كان أبي رحمه الله يقول لي: أنت حر ما لم تضر. كان أبي رحمه الله ماكرا؛ فهو قد أبرأ ذمته من تهمة القمع، وأعفي نفسه من رذيلة الديكتاتورية، وفي الوقت نفسه فقد قمعنا وأفرغ فينا غريزته الإنسانية العادية في الديكتاتورية وتسلط الرأي. فالأب يستخدم جملة محكمة شكلا، فارغة مضمونا. فقد منحنا الرجل حريتنا، لكنها "قيدها" بعدم الضرر، وترك تحديد الضرر للظروف، وبالطبع فإن التجارب أثبتت أن كل ما يحبه لا يسبب ضررا، والعكس بالعكس؛ فالضرر كل الضرر هو أن تفعل شيئا لا يحبه. ودعوني أعترف بأنني لا أعترف بإلحاق أية صفة للحرية، فلا توجد حرية مسئولة، ولا حرية مشروطة، ولا حرية في إطار القانون، ولا حرية ملتزمة، ولا إسلامية ولا مسيحية ولا يحزنون. الحرية تعني الحرية أي أن يفعل الإنسان ما يريد وقتما يريد سوفما يريد مع من يريد، وعليه فإنها مستحيلة الحدوث فضلا عن رأيك فيها، فحتي إذا افترضنا حدوث معجزة ما تمكن البشر من التعايش سويا، وأن يكون بمقدور كل منهم فعل ما يريد، فإنه سيصطدم بصراع نفسي حول حقيقة ما يريد، ولنا في المدمنين مثال، وربنا يكفيكم شر صراع القدرة والإرادة. قولوا آمين. 5 أنا أعرف، وأنت تعرف، وهم يعرفون أننا نعرف، لكن المعرفة تبقي بلا قيمة، مادام كل منا يؤدي دوره في المسرحية. وبجوار شارع قصر العيني هناك رجل استطاع بطريقة ما أن يسيطر علي مساحة من الرصيف، وإمعانا في إعلان سيطرته علي تلك المساحة، وضع لافتة: مقهي الأمانة، بالطبع لم تكن هناك مقهي ولا أمانة، غير أن الرجل وضع تحت اللافتة بابًا من الصاج، وضعه مباشرة علي الحائط، والغريب أن مقهي الأمانة، التي هي خمسة كراسي علي رصيف مغتصَب، حصل علي ترخيص. لا أعرف لماذا تستدعي قصة الصاج علي الحائط، قصة أخري عنوانها: "جنيه مش جنيه، وجبنة مش جبنة"، فمن المؤكد أن سيادتك تذهب إلي البقال، تحمل في يدك جنيهات، خمسة مثلا، تطلب منه شراء جبن بجنيهاتك القليلة، فيعطيك ورقة بائسة بها قطعة من الجبن. هو يعرف تماما أن ما أعطيته إياه لا يساوي قيمته، فقد أتي التضخم علي قيمة الجنيه، حتي لم يعد يستحق طباعة الورقة التي تحمل قيمته، وجنيهاتك الخمس أصبحت خمسا بالاسم فقط، لكنه يأخذها. وأنت تعرف تماما أن الجبن الذي أعطاك إياه ليس جبنا، لقد تم خلطه بأصباغ ومساحيق ومكسبات طعم ورائحة (علي الأدق مفقدات طعم)، لكنك تأخذها. أنت والبقال تحاولان التظاهر بأن لا شيء تغير، لا شيء يعطل سير الحياة، لا شيء يهدد استقراركما، المستمر للأبد. هذه المسرحية "عرض مستمر"، يعوض غياب المسرح المنكوب، انظر حولك، أب يستخرج لابنه شهادات مرضية طوال العام، لأنه يكتفي بالدروس الخصوصية، وكل من يستخرجون له الشهادات يعرفون هذا، وهو يعرف أنهم يعرفون، والكل ملتزم "بالأخلاق" التي تحتم علي الجميع ألا يقفوا في وجه أب يحاول الحفاظ علي مصلحة ابنه. فريق عمل كامل في جريدة يتعاون علي إصدار خبر جميعهم يعرفون أنه ليس صحيحا، لعدم إحراج زميلهم رئيس التحرير. فريق كامل من الموسيقيين والمؤلفين ومهندسي الصوت يتعاونون (ليس علي البر والتقوي) وإنما علي مداراة عيوب الصوت لمطربة إرضاء لخاطر المنتج. مجلس الكلية الذي يقبل أن يحافظ علي "نسبة نجاح" ضرورية، حتي وإن كان تسعون بالمئة من الطلاب لا يستحقون دخولها وليس التخرج فيها. "كتاب" وصحفيون لا يجيدون أبسط قواعد الإملاء. روائيون وشعراء يحصلون علي جوائز وهمية، فتصفق لهم الأقلام قبل الأكف. نقاد يكتبون عن الكتب قبل قراءتها. مترجمون لا يجيدون اللغة التي ينقلون عنها. سائقون يحصلون علي رخصة القيادة قبل أن يتعلموها. مناضلون كل تاريخهم عبارة عن حوارات تلفزيونية متفق عليها. ودنييييا. 6 إنني في الحقيقة مندهش، مندهش من أولئك الذين يندهشون، ويرفضون فكرة "الرئيس التوافقي". إنها في الحقيقة الفكرة الأخلاقية الأنسب، رئيس توافقي في بلد كل ما فيها يسير "بالتوافق". أم أنه علي الأعمي حرج؟!!