لم يكن صديقاً فحسب، وإنما كان بالنسبة لي- رغم تقارب العمر الزمني- أستاذاً ومعلماً.. الصديق والأستاذ صفتان لايمكن أن تفرق بينهما إذا كان الحديث عنه.. كانت صفة (الاستاذ) في علاقتي به هي الأسبق، لكن صفة (الصديق) ما لبثت حتي طبعت هذه الأستاذية بطابعها، ليصبح الأستاذ الصديق.. وليصبح من المألوف، بل المقطوع به، أن أحضر مع عدد غير قليل من مريديه المعجبين بعلمه وخلقه، أن نحضر مناقشاته لطلاب الماجستير والدكتوراه في آداب للقاهرة، كلما حضر إليها.. مصادفة نادرة أن أكتب هذه الكلمة يوم السبت، الأول من مايو 0102، بعد أن أفقت من صدمة الخبر برحيله.. لأتذكر انه في مثل هذا اليوم -السبت - وهذا التاريخ- الأول من مايو- لكن في عام 6791 وفي الساعة العاشرة صباحاً.. جاءت إلي الوجود ابنتي الوحيدة، تم الوضع- في أحد مستشفيات الدقي، ووسط الجو المعتاد في هذه المناسبة -صوت القادمة الجديدة وصوت الأم المختلط بآلام عملية الوضع، وزحام بعض الأقارب وتداخل أصواتهم -وجدتني، وفي العاشرة والنصف، أو تزيد قليلاً، أتسلل متعللا ببعض الأعذار، لأنطلق إلي قسم اللغة العربية بآداب القاهرة حيث عملي.. كان هناك موعد، لا علي غداء أو شاي.. أو.. أو.. إلخ.. كان الموعد علي حضور مناقشة يشارك فيها الدكتور الراجحي، وكان الموعد في الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم. لم يكن هناك ما يمكن أن يزحزحني عن جوار وليدتي وزوجتي في اللحظة التي وصفتها سوي سبب مهم.. ولم يكن هناك من سبب أهم من مقابلة الراجحي والاستماع إلي مناقشاته، التي اتصلت سعادتي بها عندما أعرت إلي جامعة أم القري بمكة المكرمة ما بين 0891،5891، حين كان يزرورها أحياناً قادما من جدة أو الرياض ليناقش رسالة أو يلقي محاضرة عامة هنا أو هناك. كان لهذه الجولات مايبررها في فكر الراجحي ، لقد كان يؤمن بأن زكاة العلم هي نشره وتعليمه، وبأن عليه- وقد رزقه الله سعة في العلم والثقافة- أن لايضن بعلمه وخبرته علي راغب فيهما. أما عطاؤه في التأليف.. فقد ترك العديد من الكتب ونشر العديد من البحوث في مختلف فروع علم العربية علي مستوي النظر والتطبيق، فكتب في اللهجات العربية والقراءات والنحو والصرف، وفي اللغة والمجتمع، والاثر الارسطي علي النحو العربي، والتراث العربي ومناهج علم اللغة الحديث، كما كتب في علم اللغة التطبيقي وفي تعليم العربية لغير الناطقين بها، جامعا في كل ذلك بين عمق المعرفة بالتراث والاطلاع علي مختلف المناهج الحديثة، هذا بالاضافة الي عدد من المترجمات في موضوعات شتي. وليس من الوارد في هذه العجالة أن أحصي جميع ما ألف، حسبي القول ان مؤلفاته من الكثرة بحيث لايفوقها الا عدد طلابه المنتشرين في معظم الجامعات العربية، والذين يواصلون نشر رسالته واذاعة علمه وفضله. وكما صبر الراجحي علي العلم وصابر تحصيلاً ودرساً واذاعة ونشراً.. صبر علي قضاء الله وابتلائه حين امتحن في السنوات الأخيرة بفقد ولده محمد الطبيب المتميز في جامعات المانيا، ثم بفقد شقيقه الدكتور شرف الدين الراجحي الاستاذ بالجامعات المصرية.. لقد احتسب مصابه فيهما عند ربه، ثم هاهو ذا يحتسب حياته وآلامه وجهاده في سبيل رسالته ايضا عند ربه، وها نحن أولاء بدورنا نحتسبه- بكل ما حباه الله به من فضله علما وخلقا وتواضعا ونبلا-.. نحتسب ذلك كله عند الله، مرددين ما قاله رسولنا الكريم »إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولكنا لا نقول إلا ما يرضي ربنا«. أيها العالم الجليل: أيها الصديق الصدوق: أيها الناصح الأمين: لقد عشت حياتك طاهراً نقياً ورجعت الي ربك راضياً مرضياً، فكن علي ثقة من انك باق في قلوب محبيك وعارفي قدرك، الذين نهلوا من بحار علمك، ورتعوا في رياض فضلك، ونعموا في ظلال رعايتك، وانما عزاؤهم انك ارتحلت الي خير دار واصبحت في اكرم جوار.