وكيل أوقاف الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد ناصر الكبير    محافظ القليوبية يوزع الورود على الزائرين بمنطقة الكورنيش ببنها    السيسي يهنىء المصريين بعيد الأضحي المبارك    محافظ القليوبية يقدم التهنئة للمسنين ويقدم لهم الهدايا والورود - صور    وسام أبوعلي: سأكون خائنا إن لم أشارك في مباراة فلسطين وعمان    الأهلي يوجه رساله لجماهيره في أول أيام العيد    590 ألف مصلٍ يؤدون صلاة عيد الأضحى بمراكز شباب عروس البحر المتوسط    محافظ الإسكندرية يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد سيدي جابر بنطاق حي شرق    أخبار مصر: المصريون يحتفلون بالعيد، ماسك يفتح الملف الأسود ل ترامب، زيزو يطير لأمريكا، الأرصاد تحذر من طقس أول أيام العيد    إقبال واسع على شواطئ ومنتزهات جنوب سيناء في العيد (صور)    آلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى في 214 ساحة بسوهاج (فيديو وصور)    مجازر القاهرة تفتح أبوابها مجانا لذبح الأضاحي طوال أيام العيد    محافظ جنوب سيناء يؤدي صلاة العيد بشرم الشيخ ويوزع عيديات على الأطفال    فرحة العيد تملأ مسجد عمرو بن العاص.. تكبيرات وبهجة فى قلب القاهرة التاريخية    بالصور.. آلاف المصلين يؤدون صلاة العيد في المنصورة    محافظ بورسعيد يتفقد مستشفى الحياة عقب صلاة العيد ويقدم التهنئة للمرضى والأطقم الطبية (صور )    أوكرانيا تتعرض لهجوم بالصواريخ والمسيرات أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص    الرئيس السيسي يغادر مسجد مصر بالعاصمة بعد أداء صلاة عيد الأضحى المبارك    فى أحضان الفراعنة ..آلاف المواطنين يؤدون صلاة العيد بساحة أبو الحجاج الأقصري    أهالي مطروح يؤدون صلاة عيد الأضحى بالمسجد الكبير    بعد صلاة العيد.. شاهد مظاهر الاحتفال بعيد الأضحى من محيط مسجد مصطفى محمود    10 صور ترصد أكبر تجمع للمصلين بالإسكندرية لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك    إصابة 10 أشخاص في انقلاب سيارة أجرة بالبحر الأحمر    موظفون في البيت الأبيض سيجرون اتصالًا مع إيلون ماسك للتوسط في الخلاف مع ترامب    هبة مجدي: العيد يذكرني بفستان الطفولة.. وبتربى من أول وجديد مع أولادي    تدخل عاجل بمجمع الإسماعيلية الطبي ينقذ شابة من الوفاة    متحدث الأمين العام للأمم المتحدة: نحتاج إلى المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبت في غزة    «علي صوتك بالغنا».. مها الصغير تغني على الهواء (فيديو)    محمد صبحي: بذلنا قصارى جهدنا لإسعاد جماهير الزمالك    «محور المقاومة».. صحيفة أمريكية تكشف تحركات إيران لاستعادة قوتها بمعاونة الصين    خليل الحية: حماس لم ترفض مقترح ستيف ويتكوف الأخير بل قدمنا تعديلات عليه    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 6 يونيو بسوق العبور للجملة    عيدالاضحى 2025 الآن.. الموعد الرسمي لصلاة العيد الكبير في جميع المحافظات (الساعة كام)    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك للرجال والنساء في العيد (تعرف عليها)    محافظ القليوبية يتابع استعدادات وجاهزيه الساحات لاستقبال المصلين    خاص| الدبيكي: مصر تدعم بيئة العمل الآمنة وتعزز حماية العاملين من المخاطر    «زي النهارده» في 6 يونيو 1983.. وفاة الفنان محمود المليجى    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    عبارات تهنئة رومانسية لعيد الأضحى 2025.. قلها لحبيبك فى العيد    أبو الغيط: الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار بلبنان تهدد بتجدد العنف    وفاة الإعلامية والكاتبة هدى العجيمي عن عمر 89 عاماً    الفرق بين صلاة عيد الأضحى والفطر .. أمين الفتوى يوضح    طرح البرومو الرسمي لفيلم the seven dogs    كيفية صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 في البيت وعدد التكبيرات في كل ركعة    الأوقاف: صلاة الرجال بجوار النساء في صف واحد مخالفة صريحة للضوابط الشرعية    مسجد نمرة.. مشعر ديني تُقام فيه الصلاة مرة واحدة في العالم    بعد التتويج بالكأس.. الونش: الفوز بالكأس أبلغ رد على أي انتقادات    رسميا.. نهاية عقد زيزو مع الزمالك    خلال حفل إطلاق خدمات الجيل الخامس.. «مدبولى»: معًا نبنى مُستقبلًا رقميًا واعدًا تكون فيه مصر مركزًا إقليميًا للبيانات والبرمجيات    محافظ قنا يستقبل ممثلي الأحزاب ونواب البرلمان للتهنئة بعيد الأضحى    كيرلي وقصات شعر جديدة.. زحام شديدة داخل صالونات الحلاقة في ليلة العيد    بعد طرحها.. "سوء اختيار" ل مسلم تتصدر تريند " يوتيوب" في مصر والسعودية    سعر طن الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 6 يونيو 2025    خطوات عمل باديكير منزلي لتحصلي على قدمين جميلتين في عيد الأضحى    صبحي يكشف سبب حزنه وقت الخروج وحقيقة سوء علاقته مع عواد    قطر تهزم إيران بهدف نظيف وتنعش آمالها في التأهل إلى مونديال 2026    جامعة كفر الشيخ ترفع درجة الاستعداد بمستشفى كفر الشيخ الجامعى خلال العيد    في وقفة العيد.. «جميعه» يفاجئ العاملين بمستشفى القنايات ويحيل 3 للتحقيق (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وثائق الأزهر وأزمة الدولة المصرية!
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 02 - 2012

صار الحديث عن وثائق الأزهر ملازماً لمرحلة التطور التاريخي التي تمر بها مصر بعد ثورتها، أو هي إن شئنا الدقة - ملازمة لمرحلة التطور التاريخي العكسي التي تمر بها الدولة المصرية الحديثة وهي تعود - بعد أن شاخت - إلي مشاهد البدايات التي كانت قبل أكثر من قرنين من الزمان؛ ففي لحظة أزمة حضارية وسياسية ضاغطة خلفتها وراءها الحملة الفرنسية علي مصر، بكل ما لها وبكل ما عليها، قرر المصريون بقيادة السيد عمر مكرم الثورة علي أوضاع متردية فرضتها علي البلاد تبعية ممتدة لدولة الخلافة العثمانية، ومن ثم أجبرت القيادات الدينية المصرية حينها الباب العالي علي تنصيب محمد علي والياً للبلاد نزولاً علي إرادة الأمة المصرية.
بدأ محمد علي مشروعه التحديثي دون تلكؤ ودون تردد، وأخذ يخطو خطوات واثقة علي طريق بناء دولة عصرية ما لبثت أن اصطدمت رؤاها ومصالحها مع رؤي ومصالح القوي الإقطاعية المملوكية، فضلاً عن أفكار وتطلعات القوي المؤسسية الدينية التي اعتبرت نفسها صاحبة الحق في تشكيل الدولة علي أسس تتوافق ومرجعياتها التراثية؛ ونعلم جميعاً كيف تخلص محمد علي من مناوءة كلا القوتين التقليديتين في مصر، وكيف أسس لمشروعه السياسي الحضاري الذي لم بكن أبداً مشروعاً محض حداثي، ولا هو كان مشروعاً محض تقليدي؛ وإنما أخذت دولة محمد علي شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك، وبقيت منذ أسسها رأس الأسرة العلوية تتأرجح دون قاعدة واضحة بين المرجعيتين اللتين بقيتا متعايشتين، وإن عملتا منفصلتين عن بعضهما البعض، فلا هما تفترقان إلي حد الخصومة والصدام، ولا هما تجتمعان معاً في كل متسق ولحن متناغم.
إحدي المرجعيتين اللتين اعتمدتهما دولة محمد علي هي المرجعية الإسلامية السنية، التي ربما اكتست ببعض مسوح الحداثة المدنية، دون أن تنجح الرؤي الحداثية المدنية في إعادة صياغة بنية الفكر الديني؛ أما المرجعية الثانية فهي المرجعية المدنية الحداثية، التي ربما حرصت بدورها علي احترام وقبول الإسلام السني، وعلي قدر من التسامح مع العقائد الدينية الأخري، دون أن تنجح الرؤي الدينية التقليدية علي تنوعها - في النفاذ إلي شرايين بنية الفكر المدني الحداثي؛ وبقيت بنية الدولة المصرية منذ ذلك الوقت مجرد حاصل جمع بسيط لهاتين البنيتين، البنية الدينية التقليدية والبنية المدنية الحداثية، دون أن تمتزج البنيتان في كل غير متنافر نري فيه المرجعية الدينية حاضرة في مرآة المرجعية المدنية الحداثية، كما نري فيه المرجعية المدنية الحداثية حاضرة في مرآة المرجعية الدينية.
هذا الخلل الواضح في بنية الدولة المصرية الحديثة قلل من أثره عبر نحو قرنين من الزمان مخزون حضاري مصري مكَّن المصريين من التعايش حتي مع ما شاب هاتين المرجعيتين المتنافرتين من قيم سلبية، فتشكل في الضمير المصري العام توجه مدني حداثي لا يقطع مع القيم الدينية العليا، ولا هو يقطع حتي مع حضور الشعائر ومفردات الخطاب الديني في الفضاء العام؛ كما تشكل في نفس الضمير الحضاري المصري إسلام سني يعلي من شأن آل البيت، وينسب إليهم عن حق أو عن ادعاء تراثاً علمياً يحمل كثيراً من القيم المدنية الحداثية التي تعلي من شأن العقل وترفض التعصب الديني، وتندد بقوي الاستبداد والممارسات الظالمة التي صار الحسين رمزاً للمعاناة منها علي يد الدولة الأموية رغم سنية الإسلام المصري؛ بل وتشكل داخل نفس الضمير المصري زواج حضاري بين مكونات إسلامية ومكونات مسيحية تعبر عن خصوصية مصرية لا تعترف بأطر التصنيف التقليدية لما هو محض إسلامي وما هو محض مسيحي!
ساهمت مؤسسة الأزهر ولا شك في صقل وتأصيل هذا الإحساس الشعبي العام بقيمة العلم والعلماء، وبقيم الحرية والتسامح والتعددية، حتي وإن غاب العلم والعلماء عن المشهد العام في مراحل الانحطاط الحضاري التي مرت بها مصر قبل وبعد تأسيس دولة محمد علي، وحتي مع غياب أجواء الحرية تحت وطأة التشوهات الاستبدادية التي أصابت مسار التاريخ المصري قديمه وحديثه؛ فقد كان الأزهر هو المؤسسة العلمية الوحيدة في مصر قبل الحملة الفرنسية، ومكانته عند المصريين مكنته من أن يلعب "دوراً" فاعلاً في السياسة، كما في القضاء والتشريع، حظي بقبول شعبي عام كما حظي بقبول لدي المؤسسة الحاكمة التي اعتبرته في فترات كثيرة غطاءً شرعياً لممارساتها التنفيذية.
عن قصد أو عن غير قصد، إذن، قام الأزهر بدوره في حماية الدولة المصرية الحديثة وضبط إيقاع نموها في مرحلتها الجنينية، وجال بحضوره القوي دون وقوع التنازع والصدام بين القيم الدينية التقليدية وبين قيم الحداثة المدنية، حتي وإن بقي الأزهر في معظم المراحل غير قابل للأخذ بهذه القيم المدنية الحداثية في إعادة تشكيل أطره الفكرية ونقد مرجعياته التراثية؛ غير أنه يمكن القول بأن الأزهر قد نجح إلي حد كبير في أداء هذا الدور في وقت لم تكن قد تبلورت فيه مؤسسات الدولة، ولا كانت قد اكتملت فيه الأطر التنظيمية التي تضبط العلاقات بين هذه المؤسسات، من جانب، ولا تلك التي تضبط العلاقات بين هذه المؤسسات وبين مفردات الحياة اليومية للمصريين، من جانب آخر؛ وقد كان يمكن للأزهر أن يواصل عطاءه الحضاري هذا، وأن يتطور بما يناسب تطور الدولة المصرية، وأن يتفاعل مع معطيات العصر الجديد كما تفاعلت معها الدولة بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل؛ غير أنه لم يكن بإمكان الأزهر أن يبقي محتفظاً بمكانته بل وبدوره كضابط للإيقاع الثقافي والحضاري للمجتمع إلا بقدر نجاحه في طرح القضايا الكبري، وبقدر نجاحه في تقديم أطر نظرية ومناهج فكرية تناسب معطيات غير المعطيات التي كانت قائمة وقت ولادة الدولة الحديثة في مصر.
لم ينجح الأزهر إذن في التكيف الكامل مع التطورات التي طرأت علي بنية الدولة المصرية عبر قرنين من الزمان، وإنما أصابه ما أصاب غيره من المؤسسات التقليدية الجامدة، حتي تجاوزته الأطر الدستورية الحديثة للدولة، كما تجاوزته حركة مجتمع لم يعد يخضع لنفس القوالب الفكرية والسلوكية القديمة؛ وبقي الأزهر أسير دوره القديم الذي لم يعد يطلبه أحد: فلا الدولة عادت بحاجة حقيقية له في ممارسة وظائفها التنفيذية، ولا هي عادت تطلب خدماته حتي في التشريع والقضاء؛ وليته كان قد انحسر دور الأزهر فقط في علاقته بالدولة، وإنما رأيناه وقد انحسر دوره خلال العقود الثلاثة الأخيرة حتي في تشكيل الوعي الديني للمجتمع الذي صارت له مرجعيات دينية وفقهية أخري غير المرجعية الأزهرية.
قبل قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير إذن كان الأزهر قد غاب عن دائرة التأثير في الفضاء العام، ثم بعد أن فرضت الثورة إرادتها علي أرض الواقع المصري وجد الأزهر نفسه خارج مشهد سيطرت عليه قوي أخري، لديها قواعدها الشعبية، ولديها مواردها اللوجيستية التي مكنتها من فرض شروطها علي أرض واقع لم تعد تحكمه نفس الدولة التي كان يعمل الأزهر تحت رايتها وتحت حمايتها؛ فقد أصاب الدولة المصرية الحديثة خلال ثلاثة أو أربعة عقود ما أصاب الأزهر خلال نفس الفترة، كما تكشف للجميع أن مشروع الحداثة المدنية الذي كان قد أسسه محمد علي إنما صار عليه تحمل ثمن التشوهات التي صاحبت بناء الدولة المصرية الحديثة، وتبين لكل ذي بصيرة أن قيم الحداثة والقيم المدنية لم تكن إلا قشوراً لم تنفذ إلي عمق البنية المجتمعية، بل علها تكون قد أفسدت بسبب هذه القشرية نظام المناعة الحضارية المصرية في مواجهة كتل حضارية بعضها يعبر عن إرادات مناهضة لوجود واستقرار الدولة المصرية، وبعضها الآخر لا يعدو كونه إفرازات طبيعية لحالة التحلل الحضاري التي صاحبت ممارسات تفكيك الدولة المصرية طوال أكثر من ربع قرن.
هذا التفكيك المنظم للدولة المصرية، وما صاحبه من تحلل حضاري، لا يمكن تجاهل أيهما عند محاولة تقييم وثائق الأزهر، ولا هو يمكن إبعاده عن فهم طبيعة الأزمة التي تختفي عن العيون عند إصدار مثل هذه الوثائق؛ ولنبدأ من تعريف الدولة فهو ضروري، إذ ليس صحيحاً ما تتداوله بعض الكتابات من أن الدولة هي شعب وأرض وسلطة، فهو تعريف مخل بمعني الدولة، كأن يعرف كاتب هذه السطور نفسه بأنه رأس وصدر وكبد وطحال ... إلخ! الدولة ليست حاصل جمع بسيط لمكونات جسدها المادي، وإنما هي في الحقيقة كائن ميتافيزيقي، نتمثله ولا نراه؛ فالدولة بهذا إنما تتواري بمعناها وسمتها وراء الطبيعة المحسوسة، شأنها شأن كل الكائنات الميتافيزيقية، فلا نري منها
إلا بصمة تتركها علي الأرض حيث قامت وحيث أثرت؛ وكي تضع الدولة بصمتها الأرضية هذه فهي بحاجة لأن تتجسد، دون أن يكون الجسد هو حقيقتها، ودون أن تكون مبررات وجود الجسد بالضرورة هي مبررات وجود صاحب الجسد؛ فالجسد قد يستغني عن صاحبه جنوناً أو موتاً، وصاحبه قد يستغني عنه كما كان يستغني زيوس عن صورته في الميثولوجيا الإغريقية فلا يعرف أحد لصورته حقيقة يتفق عليها الناس.
الدولة تحتاج أرضاً تقوم عليها، وتحتاج شعباً يتمثلها ويجسد ملامحها، وتحتاج سلطة تعبر من خلالها عن إرادتها؛ بيد أن عنصراً رابعاً يسقط عادة من الناس وهم يتحدثون عن الدولة، وأعني به عنصر السيادة؛ إذ قد يقع البعض في فخ اعتبار السيادة مجرد مرادف لغوي للسلطة، فلا يتنبه إلي أن ثمة عنصراً معنوياً في بنائية الدولة هو الذي يربط بين وجودها المادي ووجودها الميتافيزيقي؛ فإذا ما فقدت الدولة سيادتها صارت ممارسة أجهزة الدولة للسلطة مجرد تمرد أو اغتصاب أو علاقة لا روح فيها بين قوي وضعيف؛ ومع هذه التحولات يتحول الشعب في علاقته بالأرض التي يستوطنها إلي مجرد ظاهرة تصنع تاريخاً طبيعياً لكنها لا تصنع تاريخاً حضارياً، وتنحدر الدولة نفسها من مرتبة الكائن الميتافيزيقي الذي يحلق في السماء إلي مرتبة الكيان العابر الذي لا يعي علاقته بالوجود؛ وقد حدث شئ من هذا كله للدولة المصرية خلال العقود الماضية، فقد صار الشعب لا يأبه بما يحدث للأرض، وصارت الأرض تضيق بالشعب، وصارت السلطة تضيق بالاثنين ولا تعبأ بأيهما، ولم يعد للحديث عن الطبيعة الميتافيزيقية للدولة بعد كل هذا التفكك أي مدلول يمكن أن يجتمع عليه المصريون.
خلال العقود الماضية توحشت السلطة في مصر حتي صارت كالورم السرطاني الذي يضحي بكل عناصر الجسد السياسي من أجل بقائه، غير عابئ بأن موت هذا الجسد يعني موت السلطة التي توحشت؛ وكان أول ما أهدرت السلطة بتوحشها سيادة الدولة ووعيها بطبيعتها الميتافيزيقية؛ ومع إهدار هذه الطبيعة الميتافيزيقية للدولة، أهدرت السلطة كل عناصر القوة الناعمة، وأبقت فقط علي عناصر قوتها الخشنة التي اعتمدتها مرجعية تلجأ إليها لإدارة كل شؤونها، فتحولت قضايا الدولة إلي قضايا محض مادية: أراضي، وأموال، ومأكل وملبس، وكرة تستحوذ علي الحواس، فلا يكاد يدرك الشعب سواها من مظاهر اجتماعهم الإنساني، حتي لقد صارت وحدها أو كادت تجسد وجودهم كأمة لا تعي من تاريخها إلا تاريخ هذه الكرة التي تركلها الأقدام، ولا هي تعي من منطق وجودها إلا الانتصار بالحق أو بالباطل لأصحاب هذه الأقدام!
لم تجد مؤسسة الأزهر نفسها وحيدة إذن وقد فقدت عناصر قوتها التي كانت لها عند بدايات تأسيس الدولة، وإنما شاركها بؤس الصراع من أجل البقاء بعد ثورة يناير مؤسسة الدولة ذاتها التي كانت قد فقدت هي الأخري كل عناصر وجودها الميتافيزيقي؛ وساهم هذا الفراغ المزدوج في أن يجد الأزهر نفسه عاجزاً عن التأثير في الضميرين الديني والحضاري في الشارع المصري، وشاركته في هذا العجز كل التيارات الليبرالية واليسارية التي دفعت جميعها ثمن اعتمادها أفكاراً لم يبذل ناقلوها عن الغرب ما يكفي من الجهد لمراجعتها وإعادة صياغتها بما يجعلها تُستولَد من رحم الواقع المصري، علي عكس ما واظب عليه الناقلون لثقافة الجوارين المكاني والزماني عبر عقود نجحوا خلالها في إعادة تشكيل الوعي الحضاري للمصريين، ثم نجحوا بتحكمهم في هذا الوعي الحضاري، وعبر قنوات الربط بين هذا الوعي وبين حاجات الناس وتوقعاتهم، أن يعيدوا تشكيل الدولة المصرية ذاتها، أو هم في طريقهم لوضع اللبنات الأولي لهذا الشكل الجديد للدولة.
هذه الدولة الجديدة التي تتأسس علي أنقاض الدولة المصرية الحديثة إنما تتمتع بالغطاء الميتافيزيقي الذي يسمح لها بالتعامل مع مصر باعتبارها وطناً لا دولة، وبتوظيف النظامين الجمهوري والديمقراطي كستارة دخان تخفي وراءها مخططاً كاملاً لاغتيال الدولة القومية والنزول بمصر إلي مستوي الولاية الخاضعة لدولة الخلافة، وهو مخطط معلن منذ سقوط الدولة العثمانية سجله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي جعل الخلافة شعيرة إسلامية، وجعل الوطن معرفاً بالعقيدة لا بأي شئ غيرها، وهو ما عبر عنه المرشد الحالي لجماعة الإخوان حين أعلن أن موقع المرشد أرفع من موقع رئيس الجمهورية! ودعونا لا ننسي في زحام التفاصيل أن الجماعات "الدعوية" التي تسيطر علي السلطة التشريعية اليوم إنما تنتظم جميعها في تنظيمات دولية هي صاحبة الرأي الفصل في جميع شؤون هذه الجماعات!
حين أقرأ إذن وثائق الأزهر فإنني لا أهتم بكل ما يملأها من حديث قشيب عن حرية العقيدة، وعن حرية الرأي والتعبير، وعن حرية البحث العلمي، أو حرية الإبداع الأدبي والفني؛ وإنما أقرأها لأحكم لها أو عليها بمعيار قدرتها علي منح الدولة المصرية مكوناً ميتافيزيقياً يؤسس للحريات ويدعم الاستمرارية الحضارية للأمة المصرية، لا بمعيار قدرتها علي منح الدولة المصرية مكوناً ميتافيزيقياً يؤسس عن قصد أو غير قصد للاستبداد الديني! وقد نلاحظ في هذا الشأن أن هذه الوثائق إنما يوقعها دائماً فضيلة شيخ الأزهر، دون أن يعرضها علي جمهور المشايخ، مما يجرح طبيعتها المؤسسية! هذه الطبيعة المؤسسية للأزهر - بعيداً عن شخص الشيخ الطيب - هي ما يجب أن نتوقف عنده، وإلا فما معني أن تتسابق "فلول دولة الخلافة" التي تروج لنفسها باعتبارها تياراً "إسلامياً" علي إقرار مبدأ الاحتكام للأزهر، في الوقت الذي تنص فيه وثيقة الأزهر الأولي علي أن يكون الأزهر هو المرجعية التي يحتكم إليها الجميع في تحديد علاقة الدين بالدولة؟
هذا السؤال الأخير يدفعني للإشارة إلي ما يروج له الشيخ "جمال قطب"، أحد أقوي الوجوه في المؤسسة الأزهرية، من مشروع "سياسي"، لم يكتف صاحبه بالحديث عنه في الندوات المغلقة، وإنما خرج به علينا لترويجه علي إحدي الفضائيات الخاصة؛ فهو لا يتحدث في مشروعه عن "الدعوة" وإنما عن "الدولة"، ويحدث مشاهديه عن عناصر الدولة التي لا يريدها برلمانية ولا رئاسية، وإنما هو يدعو لإسقاط مفهوم السلطة أصلاً، ومن ثم فلا مجال للحديث عن سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، ولا عن توازن بين هذه السلطات، بل تدار الأمور من خلال "مجلس للعلماء"، يكون "فوق الدولة"، وتكون له وحده السيادة التي لابد وأن تحظي بالقبول العام كونها توافق شريعة الله الأدري بطبائع عباده! لست أعترض هنا بطبيعة الأحوال علي كون الله هو الأدري بطبائع عباده، لكنني أعترض علي أن يكون مجلس "العلماء" هذا هو الأدري بعلم الله بشؤون عباده!
رجاءً مقارنة الحديث أعلاه بالعبارة التي تصدرت وثيقة "الحريات العامة وحقوق الإنسان" التي صدرت تحت رعاية فضيلة شيخ الأزهر إذ تقول: "يتطلع المصريون والأمة العربية والإسلامية"، وقد كان علي المثقفين الموقعين علي الوثيقة الإصرار علي تعبير "تتطلع الأمة المصرية والأمتان العربية والإسلامية"! ثم لنتوقف عند الحديث عن "علماء الأمة ومفكريها المثقفين"، التي فسرتها عبارة "العلماء الأزهريين والمثقفين المصريين"! من هم "علماء الأمة"؟ وما هو المقصود بالعلماء، وما هو المصود بالأمة؟ ثم هذا التأكيد في متن الوثيقة علي تعبير "الديانات الإلهية الثلاثة" دون أن نعرف من الذي جعل الديانات ثلاثة، ولا من الذي سيقرر إن كان الدين إلهياً أو غير إلهي؟! غير أن أكثر ما يستوقفني في الوثيقة هو أن وثيقة عن الحريات العامة وحقوق الإنسان لا يكون موضوعها "إقرار الحريات العامة" وإنما "إقرار جملة من المبادئ والضوابط الحاكمة لهذه الحريات"! فهي إذن وثيقة لكبح الحريات لا لإطلاقها! وهذه المفارقة الأخيرة هي التي تدعوني للتساؤل عما إذا كانت مثل هذه الوثائق علي ما فيها من مجهود طيب تسهم في بناء الدولة المصرية التي تأخذ بنا علي طريف المستقبل، أم هي تضع قيوداً علي حركة المثقفين مستقبلاً إن هم خاضوا يوماً معركة الحريات؟!
كنت أتمني أن لا تنساق جماعة المثقفين إلي المشاركة في إصدار مثل هذه الوثائق، وأن يكتفوا فقط بالإشادة بالأفكار الإيجابية التي تحتويها الوثيقة، مع التحفظ علي ما هو سلبي في بعض صياغتها أو في بعض توجهاتها؛ كما كنت اتمني أن لا يختار المثقفون الطريق السهلة، قانعين بما تيسر من حماية شيخ الأزهر للحريات؛ وقد كنت أود أن يعترفوا في لحظة صدق مع الذات بفشل مشروع التحديث الهش الذي انتهجته الدولة المصرية الحديثة علي امتداد أكثر من قرنين من الزمان، وأن يبدأوا في البحث عن هذا الكائن الميتافيزيقي الذي أفلت منا كي يتمكن متي وجدناه من مقاومة هذا الكائن الميتافيزيقي الشرس الذي أحكم قبضته علينا؛ فالميتافيزيقا لا تخاصم العقل بالضرورة، ولا هي تؤسس بالضرورة لاستبداد ديني، وإنما هي صارت ضرورة لحماية الدولة من خطر الطغيان عليها، ولحماية العقل من زحف الجهالة عليه، وحماية الضمير من سيطرة الأوهام علي بوصلته التي أفسدتها الأيام!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.