في البدء كان الفرعون حاكمًا إلهًا. وكان الكهنة نخاسين يبيعون الشعوب للحكام. فأصبحت الشعوب عبيدًا للإله الذي يملك السيف، والكاهن الذي يمنح أو يحجب الخلود. ثمَّ أتي حين من الدهر، عبد الناس إله السماء، فنصَّب السلاطين أنفسهم خلفاء للرب علي الأرض؛ وكان فقهاء السلاطين؛ ألسنة القهر وأداته. وبقيت الشعوب عبيدًا للحاكم شبيه الإله، وللفقيه لسان السلطان. شهد العصر الحديث علاقات متذبذبة بين الخطابين السياسي والديني؛ تراوحت بين الاستغلال والاستقلال. غلب علي هذه العلاقة استغلال بعض رجال السياسة للخطاب الديني كأداة لتعزيز هيمنتهم وفرض سطوتهم علي الناس. واستغلال بعض الشرائح الدينية للخطاب الديني للوصول إلي السلطة أو السطوة؛ سواء لحساب أنفسها كما في حالة جماعات الإسلام السياسي، أو لحساب الغير الذي يُلبي مطامحها؛ كما هو الحال في المؤسسات الرسمية مثل الأزهر. عادة ما كان يحدث هذا الاستغلال بواسطة المزج بين الخطابين السياسي والديني؛ إما بواسطة وضع قناع ديني علي الخطاب السياسي؛ أو توجيه الخطاب الديني ليُنجز وظائف سياسية. وهكذا ظهر في مصر نوعان من الخطابات التي تمزج بين الديني والسياسي. النوع الأول أسميه »خطاب التأسلم السياسي«، الذي تُنتجه جماعات دعوية تمارس السياسة تحت غطاء الدعوة، وتستغل الأساس الديني لخطابها في تحقيق طموحاتها في السيطرة علي السلطة والاحتفاظ بها وإضفاء الشرعية عليها. وهي الجماعات التي حظيت بقوة كبيرة بعد الثورات العربية. والثاني أسميه »خطاب السياسة المتأسلمة«؛ أي الخطاب الذي تُنتجه أنظمة حكم أو مؤسسات سياسية، وتستغل فيه النصوص والحجج الدينية لفرض سلطتها وتعزيزها، وإضعاف قوة معارضيها. وسوف أتعرض فيما يأتي لبعض سمات هذين الخطابين. وأستشهد علي الأول بخطاب الجماعات الدينية المهيمنة علي المشهد السياسي المصري في الوقت الراهن، وعلي الثاني بأبرز الأمثلة التاريخية لهذا النوع من الخطاب، وهو الخطاب السياسي للسادات. خطاب التأسلم السياسي: حروب العقائد وغزوات الصناديق رسمت ثورة يناير خريطة جديدة للقوي السياسية الفاعلة علي الساحة المصرية. في هذه الخريطة سيطر »المتأسلمون« علي مساحات شاسعة من القوة، وازاءها حضور طاغ في الخطاب العام. وعلي الرغم من أن كثيرًا من شرائح »المتأسلمين«؛ اتخذت موقفًا عدائيًا من الثورة في بدايتها، وهاجمتها لصالح نظام مبارك، فإن »المتأسلمين« اعتبروا أن نجاح الثورة هو بشارة عصر التمكين. بدأت ملامح هذا العصر في التشكل علي هيئة تحالفات وموازين قوي في الاستفتاء علي المبادئ الدستورية، الذي تحول من اختيار سياسي إلي استقطاب عقيدي. وكان تعبير »غزوة الصناديق«، الذي صكه أحد مشايخ الفضائيات مؤشرًا علي بدء علاقات جديدة بين القوي السياسية ينتقل فيها التنافس علي السلطة من حقل الصراع السياسي إلي حقل الحروب العقيدية. وتوشك أن تتوالي »الغزوات« التي يتقنع فيها بعض راغبي السلطة بأقنعة السلف الصالح، في معاركهم علي الكراسي والنفوذ. ويستخدمون سيف الترهيب بالويل والثبور، والتلويح بالجنان الملأي بالحور، أداة لحفز الناس علي اختيارهم دون غيرهم للجلوس علي مقاعد الحكم العتيدة. نادرا ما يسعي الخطاب السياسي لغزوات الصناديق إلي استلهام القيم الإيجابية التي يتضمنها الخطاب الديني؛ مثل قيم الإخاء والعدالة والمساواة والحرية والشوري ومقاومة العسف والظلم وعدم الخضوع إلا لله. بل غالبًا ما يستهدف تقوية سلطة الفرد أو الجماعة السياسية التي تستخدمه في مواجهة المخالفين، وتعزيز قدرتهم علي إسكات المُعارِض وتقييد المقاوم، وينتج عن ذلك إهدار قيم الحرية والشوري، ومن ثم زوال إمكانية تحقق الإخاء والعدل والمساواة. فالسياسي الذي يسعي نحو التقنع بصورة الإله، لا يترك للمواطنين إلا منزلة العباد وربما العبيد أيضًا. يقوم خطاب غزوات الصناديق علي دعوي مصادرة الحقيقة؛ فالحق يوجد فحسب في صف المتأسلمين، أما الآخرون فلا يمثلون إلا الضلال. وهكذا فإن هذا الخطاب هو خطاب تمييزي، يفصل بشكل حدي بين »نحنب« و»هم«. وفي حين يعزو أصحاب »النحن« لأنفسهم صفات الملائكة، لا يحظي الآخرون إلا بنعوت الشياطين. إن خطورة هذا التمييز أنه يُمارَس علي المنافسين السياسيين أيًّا كانت معتقداتهم وأفكارهم. ولعل الصراع العنيف بين المتأسلمين أنفسهم هو تجل آخر للحروب العقيدية. ونظرة سريعة علي المعارك اللفظية ذوالمادية أحيانًا- بين مرشحي الأحزاب ذات المرجعية الدينية، والاتهامات المتبادلة فيما بينهم تُعطي مؤشرًا علي مخاطر تحول التنافس السياسي إلي اقتتال عقيدي بين المتأسلمين أنفسهم. هذا الخطاب الراهن يجد جذوره التمييزية في خطابات قديمة، لعل أبرزها خطابات الأنظمة الحاكمة التي استغلت الخطاب الدينية كوسيلة لتدعيم سلطتها، وزيادة شعبيتها. ولعل خطاب نظام الرئيس المصري الراحل أنور السادات خير ممثل لها. خطاب السياسة المتأسلمة: الرئيس المؤمن وكتالوج النصائح الأمريكية للمستبدين لقد حاول السادات إضفاء مسحة دينية علي شخصه، لكي يقترب من الصورة الذهنية الشعبية ل(المتدين المؤمن). واستخدَم في سبيل تحقيق ذلك علامات لغوية وغير لغوية. تشمل العلامات غير اللغوية؛ زبيبة الصلاة البارزة في وجهه، وتتكون من دال (زبيبة الصلاة) ومدلول (شخص دائم الصلاة، رجل متدين...إلخ). وهي تمثل علامة مزدوجة؛ فهي علامة إشاريةindexical sign ؛ لكونها مؤشرًا علي عكوف صاحبها علي الصلاة. وهي في الوقت ذاته يمكن أن تمثل علامة رمزية symbolic sign؛ لأنها -غالبا- ما تُعد سمة ملازمة للمتدينين. ومن العلامات غير اللغوية أيضًا فعل أداء الصلاة التي تمثل الشعيرة الدينية الأبرز في الإسلام. ويذكر عبد العليم محمد في كتابه المتميز (تحليل الحقل الأيديولوجي للخطاب الساداتي أن الصحف المصرية علي مدار سنوات حكم السادات اخصصت الصحف اليومية مكانا مهما لصلوات الرئيس وصوره في المساجد الكبري والصغري مع معاونيه ومستشاريه، ونقل التليفزيون المصري وقائع هذه الصلوات مباشرة«. وقد نقلت عزة عزت في كتابها »صورة الرئيس« خبرا يؤكد ذفي حال صحته- أن السادات كان يحرص حرصا شديدا علي أن تنقل شاشات التليفزيون وقائع صلواته العامة كاملة. تقول »أسر إليَّ رئيس سابق لقطاع الأخبار بالتلفزيون ..أن الرئيس السادات كان يلومه علي أنه لم ينقل كل ركعات صلاته في قريته، إذ كان يكتفي باستعراض صور للمسجد من الخارج والداخل، ويركز علي ركعة واحدة تعكس خشوع الرئيس وهو يصلي. فكان السادات يؤنبه علي ذلك، فيعتذر وهو يداري تعجبه، متعللا بأن الركعتين صوِّرتا، ولكن في المونتاج اكتفي مخرج التنفيذ بواحدة؛ لأنهما في الحقيقة شيء واحد، أو متشابهتان... لكن السادات كان يؤكد له أنهما مختلفتان« غالبا ما كان الرئيس يرتدي في هذه الصلوات (خاصة تلك التي يؤديها في مسقط رأسه بقرية ميت أبو الكوم) العباءة، وتتدلي المسبحة من يده، ويجلس في خشوع وورع تنجح كاميرات التصوير في نقلهما بجلاء للمصريين. وفي كثير من الأحيان كان السادات يؤم المصلين بنفسه. وقد توازي حرص السادات علي إذاعة صلواته مع تزايد حرصه علي حضور المناسبات الدينية، وإلقائه خطبا فيها. في هذه المناسبات كان يقدم خطابا ذا طابع ديني مهيمن. ويؤدي هذا من ثمَّ إلي التماهي بين دورين اجتماعيين مختلفين؛ الأول دور رجل الدين، الذي يقوم خطيبا في الناس في هذه المناسبات، ودور رئيس الدولة. ويسهم هذا التماهي في توجيه إدراك عامة الناس لرئيس الدولة، ليصبح الوجه الديني محورا لهذا الإدراك. أما العلامات لغوية مثل المفردات التي تنتمي إلي الحقل الدلالي للخطاب الديني الإسلامي، واستخدام الدين أداة للحجاج، كما يظهر من خلال نسبة الأفعال والنتائج إلي الله. إضافة إلي أشكال التناص المتعددة مع االقرآن الكريم»، وبناء الخطب السياسية علي نمط الخطب الدينية. وشيوع لقب (الرئيس المؤمن) للكناية عن (الرئيس السادات). وهو لقب أطلقته عليه وسائل الإعلام وتداولته علي نطاق واسع. يختزل هذا اللقب مجمل صفات الرئيس في صفة واحدة هي (المؤمن). وينطوي اللقب علي توجيه قوي للطريقة التي يدرك بها المواطن المصري العادي السادات. ومن العلامات اللغوية أيضًا استخدام شعار »دولة العلم والإيمان« الذي يوجز المكونات الجوهرية للدولة المصرية كما كان يراها السادات، ويؤكد ضرورة وجود طابع ديني لمصر. وقد عبر السادات بوضوح عن أن هذا الطابع الديني هو أبرز خصائص الدولة المصرية في عهده؛ فقد كان يُعرِّف نفسه بأنه ارئيس مسلم لدولة مسلمة»، وبحاكم مسلم لدولة إسلامية»، وبولي أمر مسلم لدولة مسلمة»، وبحاكم مسلم أحكم دولة إسلاميةب. وقد وردت الاقتباسات الأربع في خطبة واحدة أُلقيت في 14 مايو 1980، إثر بعض أحداث العنف الطائفية بين الأقباط والمسلمين. وقد أثرت هذه العبارات ومثيلاتها بدرجة ما في إضعاف الوحدة الوطنية. وهو ما يمكن تلمسه من حالة الاحتقان الطائفي التي نبتت في تربة الخطاب السياسي، وما زالت مصر تجني ثمارها. ربما كان من المصادفة أن طريقة بناء السادات للصورة الرمزية له بوصفه امسلمًا متدينا ورعًاب تتلاقي مع انصيحةب سرية كانت الحكومة الأمريكية قد قدمتها لأحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط في ذلك الوقت؛ أعني شاه إيران. نص االنصيحةب هو أن: االشاه يجب أن يعطي اهتماما كافيا للمسائل الدينية ويستعمل عبارات ودلالات دينية، ويجب أن يظهر باعتباره حامي الدين، وينتزع هذه المكانة من آيات الله في »قم«، كما أنه لابد أن يظهر كثيرا لأداء الصلاة في المساجد، خصوصا في الأعياد والمناسبات«. (نقلاً عن محمد حسنين هيكل. »المقالات الممنوعة«، المصري اليوم 15/01/2008. عدد 1311). وقد جاءت هذه النصيحة في إطار حرص أمريكا علي تدعيم سلطة الشاه في ظل وجود معارضة داخلية قوية لنظامه كان أبرز تجلياتها »ثورة مصدق« . ويُلمح هيكل -في نفس المقال- إلي أن شاه إيران ربما يكون قد قدم هذه النصيحة -بمعية نصائح أخري- إلي السادات بعد أن توطدت العلاقة بينهما، ويقترح أن يكون ذلك قد حدث تحديدا أوائل عام 1975. ويبقي مثل هذا الرأي مجرد تخمين. وتظل العلاقة بين التوصية الأمريكية، والتأسيس العلاماتي لشخصية السادات تزامنية وليست عِلِّية؛ حتي يتكشف جديد. تتعدد الوظائف التي يحققها هذا الحقل الرمزي من العلامات الدينية؛ فهو أولا يستهدف توجيه إدراك المواطن المصري للسادات بوصفه »متدينًا« يوشك أن يكون رجل دين. إضافة إلي ذلك فإن هذه الصورة كانت ذات تأثير حاسم في توجيه الطريقة التي كان من الممكن أن يستجيب من خلالها المصريون لخطب الرئيس. وأعتقد أن الطريقة التي تشكَّل بها خطابه أسهمت بفعالية في تحقيق بعض هذه الأهداف، وذلك من خلال إنتاج خطاب سياسي يتماهي ويتضفَّر مع الحكي الشعبي الديني والخطبة الدينية حينا والنص القرآني الإلهي حينا آخر. وقد أدي هذا النفاذ إلي الخطاب الديني، بمساعدة حقل متكامل من الرموز الدينية، إلي إعادة تنظيم عملية تلقي خطابه السياسي ليتم تلقيه بوصفه خطابا دينيا. علي الرغم من الاختلاف الجذري بين الخطابين السياسي والديني، خاصة الخطاب الإلهي المقدس. في البدء كانت الثورة. فهل يختار المصريون بإرادتهم أن يصنعوا نسخة جديدة من عهد الكهنة والفراعين، أم يتحرروا من ربقة استبداد ديني وسياسي، جثم علي صدور الوطن لزمن طويل.