قادتني أمي وأنا في الرابعة الي الشيخ »همام« شيخ كتاب مقام سيدنا حنظلة النوام، الذي هزم الكفار في موقعة »كفر الجبل«، وأصاب زعيمهم بالهطل والخبل، وذلك أنه ربطه مدة ثلاثة أعوام، وفضحه بين سائر الأنام، حتي أصبح هدفا للفساق واللوطيين، بعد أن كان من الفحول المعدودين، وفي ذلك يقول شاعرنا القديم في درته المشهورة، بعد الصلاة علي خير المعمورة: أتزعم أنك الوتد المتينا وأنت الآن شيخ القارحينا هجمت بجيشك العاصي علينا فكان مصيركم خلا وطينا ألم تعلم بأن الشيخ حنظل يري في الضرب منهاجا ودينا فلا نوم النهار يفل عزمه ولو بلغ الشخير الرافدينا أتاك رباطه والوقت عرس فصرت بربطه ردفا بدينا وكان المنشدون يروون سيرة شيخنا »النوام«، في مولده كل عام، حتي حفظها القاصي والداني، وتربعت علي عرش الأناشيد والأغاني، حتي ان الشيخ همام، جعلها في مقدمة درسه كل صباح، ويعلق في الفلكة من ينساها من الغلمان، ولو كان أبوه من السادة الأعيان، لهذا كنت أرتعد وأرتعش، وأبربر وانكمش، وأمي تنهرني مرة بالقول ومرة بالصرخ ومرات بالضرب، حتي اجتزنا الدرب، ووجدتني أمام الشيخ كالفريسة بين فكي الأسد، وهو يقول اللهم اكفنا شر حاسد إذا حسد، وعينه تدور بيني وبينها، حتي استقرت علي صدرها وبطنها، فأدرك الخبيث أن بعلها غير موجود، أو أخذته السلطة خارج الحدود، فتبسط معها في الكلام قائلا سأكون كالأب لهذا الغلام، فليس همي الأجر أو المنة، لأن تحفيظ القرآن سبيلي الي الجنة، وما عليك سوي غسل عمتي كل أسبوع، مع رغيفين اثنين فلست بالمفجوع، وهكذا ظلت أمي كل أسبوع تغسل عمته، وكل شهرين لباسه وجبته، واذا ظفرنا في الموسم بالظفر، كان يهبط علينا كالقضاء والقدر، فيقعد علي الصينية ولايتركها إلا نظيفة مجلية، وهو يبسمل ويقول ألم تسمعوا بقول المصطفي المعصوم: عجلوا يامعشر المسلمين باللحوم، ثم يعطف علي المرق بالبصل، وبعده علي العصيدة بالعسل، ثم ينهض مدعيا القيام إلي صلاة العشاء، وهو يظرط من أمام ووراء، وما تحملته كل هذا الدهر، إلا لعلمه الغزير، وحربه ضد أصحاب الأوكار والمواخير، وصوت أمي وهي تلهج بالدعاء، أن يضمني الله في زمرة العلماء. وهكذا أنهيت مع الشيخ حفظ الكتاب، وسمحت لي أمي بمغادرة الكتاب، والتوجه الي الأزهر الشريف ومجاورة الشريف وابن الشريف فمكثت في الأزهر حتي أدركني الحلم، وصرت فقيها في الشرع والعلم، وتركت عالم الصبية والغلمان، وصرت من أصحاب المكان، كما أصبح تلاميذي من أهل البندر، الذين ليس فيهم صميدة ولا بعجر، وغدت شلتي من الشيوخ الشبان، الذين لايهابون الكلام عن النسوان، وكان شعارنا هذه الأبيات التي كتبها زميل قديم منذ سنوات. ويقول فيها: وماذا يضير العليم الشريد من السطو يوما لأكل الثريد فما يطلب الناس من علمه سوي حفظ هذا الكتاب المجيد وما ضر قوم اذا عالم له معدة مثل فرن الحديد أيأكل ابن الزواني الوراك ويترك للشيخ أكل القديد ويلهو رقيع بسيارة ونعلو التكاتك مثل الهنود فسحقا لهذا الزمان الردي وسحقا لآبائه والجدود وكان شيخنا واستاذنا يكني بكامل الأوصاف، لانه من أصحاب الأطيان والأوقاف، كما يكره الشعراء والكتاب، لانه من تلاميذ الإمام عبدالوهاب، فاستدعاني في أحد الأيام، فمثلت بين يديه كما الجندي امام القائد أو الأبن امام الوالد، وكان فضيلته ناسكا لايأكل الكفتة والكباب، ولا يلبس سوي القبقاب، ويرتدي طول العام، صوف الإبل والغنم، ويمنع علي مريديه الورقة والقلم، لأنهما من بدع الفرنجة الكفار، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وكان يصيح فينا: العلم موطنه الكتاب، والكتاب محفوظ في الصدور يحفظه الصغير والكبير، لهذا جعلوا لي شلتتي تحت هذا العمود، وجعلوكم تأخذون العلم وانتم علي البساط قعود، فهل نقلد المخانيث والسفهاء، الذين هم أنف في السحاب واست في الماء، ونهدم هذا الرواق ونحرق هذه المقصورة، ونأتي بالدكك والكراسي والسبورة، أم نسير سيرة السلف الصالح، ونقتلع ما ابتدعوه من النظارات والمصالح، ونعود الي الفطرة السليمة، ونجعل الآخرة هي الغنيمة، ونعمل لرفعة الإسلام، ونصبح نحن اصحاب الأعلام، ام نتركها للفسقة والرقعاء، ونجلس في بيوتنا كما النساء، ثم سحبني من جبتي، ونزع عني عمتي وانشأ يقول: أراك تنط لي نط الذئاب وتأكل لحمتي وكذا شرابي وتجمع حولك الصياع جمعا كأن البيت وكر للقحاب وتهمل حزبنا الحر المبارك وتحلم بالفرار من العقاب فإن رمت الغنيمة والعطايا فسافر للكويت علي حسابي فتدخل جبهة فيها المعالي وتضمن جنة المسك المذاب وما ان انتهي من الانشاد حتي سأله الحضور: وماهي الجبهة يامولانا؟ هل هي غير ما نملك بين العينين والعمة؟ فبادرنا غاضبا اصابتكم المصائب والغمة، لان الشيطان قد غشي عقولكم بغشاوته فاصبحتم لاتفقهون، ليتني مت قبل اليوم وتركتكم تنهقون وتبرطعون، الجبهة يعلم امرها الأطفال في المهد، وهي اجتماع اهل الحل والعقد، للزود عن الإسلام والمسلمين، وارساء دعائم الدين، وهذا تكليف من الله خالق الانس والجان، الذي ميزنا عن الحيوان باللحية والعمة والعزيمة وعلو الهمة، فاستعدوا للسفر باكر وهاكم التذاكر.