حكاية الروائي والقاص اليمني وجدي الأهدل مليئة بالدراما، هي باختصار حكاية كاتب يحمل قضية في ظل حكم ديكتاتوري، ولأنه يعشق الكتابة، ولأنه عنيد، خسر الكثير مما لم يكن يتوقع فقدانه. هو أحد الذين يمكن أن يُقال عنهم اطالته لعنة الكتابة. بدأ الأهدل في الكتابة عام 1995، وفي عام 2002 طاله مقص الرقيب بمصادرة روايته قوارب جبلية وقامت الدنيا بعدها حيث أغلقوا دار النشر وأحالوا الكاتب إلي النيابة للتحقيق معه في الخطايا الكبري التي ارتكبها!! اتهموه بالتطاول علي الذات الإلهية، دون أن يوضحوا هل الذات الإلهية هي الله أم الحاكم؟ وشن التيار المحافظ ضده حرباً كانت نتيجتها أن غادر بلده وحُكم عليه غيابياً، وأصدر المحافظون حكماً بإهدار دمه. في المنفي الاختياري بسوريا، بينما كان ينتظر خبراً بمولوده، جاءه خبر آخر: وفاة زوجته. أثناء كل هذا العبث، وصل نبأ منفاه ومطاردته إلي الكاتب الألماني الحائز علي نوبل جونتر جراس، الذي قرر مساندته وطالب الرئيس اليمني بإسقاط الدعوي القضائية المرفوعة ضده، وإغلاق ملف القضية، ما استجاب له الطاغية مخافة تقليب الرأي العام العالمي عليه. رؤيته للرقيب كانت مدخلي إلي الحوار معه. قال الأهدل: »الرقيب يشبه الدودة التي تنخر الثمرة. نحن نعلم أن الثمرة تكره الفساد الذي تلحقه بها الدودة، ولكن من جهة أخري للدودة مبررات تتحجج بها في عملها التخريبي، ومن المؤسف أن غالبية الناس تنحاز إلي صف المعتدي وتؤمن بسلامة منطق الدودة!. وهل تنتظر أن يختفي الرقيب بعد الثورة؟ أجاب متشائماً: نجاح الثورة في اليمن لن يغير الصورة كثيراً، لأن الثورة قامت علي النظام ولم تقم علي طريقة تفكير النظام. من المؤكد أن النظام سيذهب ولكن طريقة تفكيره ستبقي. وهذا يذكرني بأمر يشبه أن يكون كوميديا سوداء: في عام 1962 قامت الثورة اليمنية الأولي التي أسقطت نظام الإمام واستبدلته بنظام جمهوري، ولكن المفارقة أن الجمهوريين كانوا أشد تمسكاً بالعادات والتقاليد من الإمام الذي ثاروا عليه! لذلك ليس لديّ من الأسباب ما يكفي لكي أتفاءل بمستقبل الثورة في اليمن. وأخشي ما أخشاه أن يكون الثوار الجدد أشد رجعية وتمسكاً بالعادات والتقاليد من علي عبد الله صالح! يستدرك: لكن هذا لا يلغي مساحة الأمل، لأن الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا ستمنح شعوب هذه البلدان فرصة ذهبية للخلاص من منطق الدودة، واتخاذ فكر جديد، أي التفكير بمنطق الثمرة. تتجه أعمال الكاتب اليمني بشكل عام نحو السياسي، ما يوحي بأنه كاتب قضية بوسعه، أو من طموحاته، أن يغيّر العالم. يقول الأهدل: مهمة الكاتب أن يقول الحقيقة بطريقة فنية، والحقيقة المقصودة هنا ليست ذاك الوعي السياسي البسيط، وإنما أن نعبّر عن حقيقتنا الداخلية بصدق. لست أطمح أن أكون كاتب قضية أو أن أغير العالم، ما أطمح إليه هو أن أبلغ أعماقي الداخلية وأنتشل منها حكايات وشخصيات، ولا يهمني ما يحدث بعد ذلك. أسأله: ألهذا السبب تتنوع في كتاباتك ما بين القصة والرواية والمسرح؟ يقول: »بشكل عام، تميل نفسي إلي الكتابة الموجهة للجمهور مثل المسرح والدراما التلفزيونية، ولكن عوائق الرقابة وسيطرة الجهاز الأمني علي المؤسسات الإعلامية تجعل تحقيق هذه الأمنية يكاد يكون مستحيلاً، مع أن بلدي، اليمن، في حاجة ماسة إلي النصوص المسرحية والدرامية المحلية، وبسبب فوبيا السلطة من المثقفين، حُرمت نخبة اليمن من تقديم نتاجها الثقافي عبر وسائل الإعلام الجماهيرية«. تسير كتابات وجدي الأهدل مع تيار الواقعية، ربما لهذا صوردت أعماله لأنها تصطدم بالسلطة صراحة، لذلك أسأله: ألا تعتقد أن الواقعية التي بسببها صودرت أعمالك تقلل في الوقت نفسه من قيمة العمل الأدبي وجمالياته؟ يقول: »هناك لغط كثير حول الواقعية وتصادمها مع جماليات الكتابة.. وفي رأيي الأهم هو أدبية النص، وهل هذا النص نص أدبي أم مجرد نثر عادي؟«.. فعندما أكتب قصة عن إسكافي يقوم بتلميع الأحذية فهذا نثر عادي، ولكن إذا كنت قد بنيت قصة مجازية أقصد بها رؤساء تحرير الصحف الذين يقومون بتلميع سمعة الزعيم فهذا سوف يكسب النص صفة »الأدبية«. ثم تتفاوت الأدبية من كاتب لآخر بحسب القدرة علي »البناء الفني« للنص. يبدو واضحاً في كتابات الأهدل نيته في هدم الموروث الاجتماعي، ربما إلي هذا استند المحافظون في دعواهم بتطاوله علي الذات الإلهية. يقول صاحب »حمار بين الأغاني« :»تطاولي علي الذات الإلهية محض اتهامات كاذبة لا يقوم عليها دليل، كان الهدف منها تحريض العامة. فقد دأب النظام في اليمن علي استخدام سلاح التكفير لإرهاب مخالفيه في الرأي ومن يتجرأون علي توجيه النقد إليه. وهو سلاح ذو حدين، ففي السنوات الماضية تم تكفير العشرات من المثقفين اليمنيين، وكانت هناك قوائم سوداء لاغتيالهم، ثم انقلبت الآية وصدرت الفتوي بإهدار دم الرئيس وأعوانه، وبالفعل جرت المحاولة الشهيرة لاغتيال كبار قيادات الدولة وهم يصلون الجمعة في المسجد. والآن سؤالي هو: كيف يمكنك أن تتحاور مع شخص أو تنظيم قام مسبقاً أو سيقوم لاحقاً بإهدار دمك؟ المصادرة والمطاردة وإهدار الدم، ثم موت الزوجة في كل هذه الظروف، تشعر الكاتب أحياناً بعبء الكتابة، وفي أحيان أخري تؤدي للسؤال حول جدواها. أسأل الأهدل عن شعوره وقتها، فيقول: »كثيراً ما شعرت باليأس، ولكن الأزمات كانت تزيدني تشبثاً بخيار الكتابة. عندما تعرضت رواية »قوارب جبلية« للمصادرة تداول آلاف الناس نسخاً مصورة من الرواية، وكل نسخة كانت تتداولها العديد من الأيدي سراً وكأنها مخدرات، وعندما أفكر أن الناس كانت لديهم ردة فعل عكسية علي قرار المصادرة تمثل في الإقبال علي قراءة الرواية، أؤمن بأن الكتابة لها شأن خطير في المجتمع، وأنه من حسن حظي أن أتكلم بلسان المستضعفين الذين عانوا من عسف السلطات والمتنفذين الأقوياء. تصبح الكتابة عبئاً في حالة واحدة فقط: عندما نريد أن نكتب شيئاً لا ينبع من داخلنا«. والخوف أثناء ذلك؟ يقول: كنت أشعر بالخوف وبالظلم الهائل، لأنه في بلدي يتمتع القتلة وقطاع الطرق بالحرية ويضعون أنفسهم فوق القانون وتعجز السلطات عن الإمساك بهم، بينما يجري التنكيل بكاتب لأنه كتب، لاحظ أنه كتب فقط كلاماً لا يروق للبعض. تخيّل مجرماً يزهق الأرواح ويسطو علي الممتلكات ويجري التساهل معه وربما تكريمه بوضعه في منصب حكومي رفيع، بينما الأديب إذا قال شيئاً لا يرضيهم أقاموا عليه الدنيا وطاردوه شر طرد. في وطن كهذا يفضّل الكتاب الهجرة لبلاد أخري، وقد فعل ذلك كتاب آخرون، لماذا لم تهاجر؟ يجيب الأهدل: هناك فرق هائل بين أن تهاجر بإرادتك وبين أن تكون مضطراً.. لقد جربت المنفي وعرفت مشاعر المنفيّ ومقدار ما يحسه من ألم وتمزق روحي يكاد يصل به إلي حضيض الجنون. أساله عن تلقيه لخبر فوز توكل كرمان بنوبل في السلام، وهل سيغير ذلك من اليمن في شيء؟ يقول: فوز كرمان مفاجأة سارة، وحدث تاريخي كبير، وما أتمناه هو أن يساهم هذا الفوز في إحداث تغيير في ذهنية اليمنيين التقليدية وطريقة نظرتهم إلي المرأة. اليمن دولة خنقتها العادات والتقاليد، وأكثر فئات المجتمع تضرراً من هذا الخنق هي المرأة. ومن المؤكد أن لجنة تحكيم جائزة نوبل للسلام عندما منحت جائزتها للناشطة توكل كرمان قد وضعت نصب عينيها تحفيز حضور المرأة في المجتمع اليمني المحافظ. أسأله: أيكون لذلك تأثير في النظر إلي الأدب اليمني؟ يقول: »أعتقد أنه من المبكر التنبؤ بنوع الاهتمام الذي ستجلبه الجائزة لليمن وأدبها. ومن يدري .. قد تصبح توكل كرمان بمثابة تميمة حظ للأدب اليمني. المشهد اليمني في الأدب مضبب تماماً، لهذا أسأله ككاتب شاب كيف يري اليمن الثقافية. يقول: شهد الأدب اليمني نهضة لافتة في تسعينيات القرن الماضي، وبلغت هذه النهضة ذروتها في عام 2004، وهو عام اختيار صنعاء عاصمة للثقافة العربية، حينها أصدرت وزارة الثقافة 500 عنوان، وأصدر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 220 عنواناً، وعشرات العناوين الأخري صدرت أيضاً عن مؤسسات حكومية ومستقلة، وكانت هناك فعاليات ثقافية معظم أيام الأسبوع. لكن هذا الحماس خبا بالتدريج مع تصاعد القلاقل الداخلية، فظهرت حركة التمرد الحوثية في الشمال، وحركة الاحتجاجات المطالبة بالانفصال في الجنوب. وفي وقتنا الحاضر تكاد تكون الحركة الأدبية في اليمن مشلولة. جميع المؤسسات الثقافية الحكومية والمستقلة أوقفت أنشطتها، وحركة الإصدارات توقفت تقريباً (الكتب، المجلات، الملاحق الأدبية). في ظل هذا الركود، هل هناك حضور لكتاب مهمين؟ يقول وجدي الأهدل »أعتقد أن الذين طبعوا أعمالهم في مصر ولبنان قد تحقق لهم حضور متميز، ومنهم علي سبيل المثال: أحمد زين، علي المقري، سمير عبد الفتاح، نبيلة الزبير، نادية الكوكباني، حبيب سروري. ويستدرك: لكن حال القراءة لا يسر مثقفاً، فالكهرباء لا تتوافر سوي ساعة واحدة في اليوم، والقراءة علي ضوء الشموع ليست مبهجة. ومن ناحية أخري تم إلغاء معرض صنعاء الدولي للكتاب في عامنا هذا، والمعرض هو المنفذ »الوحيد لوصول الإصدارات الجديدة إلي اليمن«، وهذا يعني أن عزلة اليمن الثقافية ستزداد إلي حد بعيد.