كنت أظن وما زلت أعتقد ان الثورة هي أبغض الحلال السياسي والوطني، ولا ينافسها في هذه الصفة إلا الحرب العادلة؛ فكلا الفعلين لا تلجأ إليه أمة من الأمم المتحضرة باعتباره فعلاً يرتجي لذاته، أو لإحراز فخر تتباهي به الأمة إن هي أنجزته، وتشعر بالخزي إن هي لم تقدم عليه! وإنما الثورة والحرب العادلة خياران تلجأ إلي أحدهما أو كليهما الأمم الواعية بمأزقها التاريخي لتحرك مياه التاريخ الراكدة، حين لا تجد هذه المياه التي أسنت ما يحركها إلا فعل ريح عاتية أو زلزال عنيف، يكشف كلاهما عورة واقع ميت علي منسأته، لكنه لا يسقط، ويحكم بشرعية أيام استطالت حتي اعتادها الناس فتصوروها قدراً لا يرتفع أبداً؛ وقد كنت أظن وما زلت أعتقد أن أي ثورة لا تحقق أهدافها إذا لم يمتلك الشعب إرادته الحرة، والإرادة الحرة لا تكون إلا إذا تحرر العقل وتحرر الضمير وتحرر الجسد: تحرر العقل من سلطان الجهل، وتحرر الضمير من سلطان الوهم، وتحرر الجسد من سلطان لقمة العيش؛ فإذا لم يتحرر هؤلاء الثلاثة فقدت الأمة إرادتها الحرة، وصار فعلها الثوري وبالاً عليها، فإما أن تكون الفوضي التي تجلب معها الانحطاط والخوف واليأس من جدوي السعي في البناء، أو أن يكون الاستبداد الذي يتضاءل بجانبه ما ثارت عليه الأمة من استبداد قديم. كنت أظن إذن وما زلت أعتقد - أن الثورة يجب أن تحدث في العقل وفي الضمير أولاً، لأن الأمة التي لا تجرؤ علي مواجهة الجهل الذي تسلط علي عقلها، والأوهام التي استبدت بضميرها، إنما تقوم بثورتها لحساب هذا الجهل ولحساب هذه الأوهام التي تتسلط عليها، وهي بكل تأكيد ستعجز عن بناء مستقبل مغاير للماضي الذي زرع شجرة هذا الجهل في عقل الأمة، وبسط شباك الوهم ليروض بها ضميراً لا يريده أن يأتي بيوم جديد حتي وإن ثار العقل والضمير كلاهما علي ما تقادم من الأيام؛ فإذا أضفنا إلي أزمة العقل وأزمة الضمير أزمة جسد أهلكته الأيام، واستبدت به لقمة العيش، حتي صار يعتقد صاحبه أنه بالخبز وحده يحيا الإنسان، فإن احتواء الثورة أو اختطافها إنما يكون مصيرها الأرجح الذي تنتهي إليه، ما لم تتبع موجة الثورة الأولي علي صاحب المنسأة موجة ثورة ثانية علي أسباب العجز التي جعلت المنسأة القائمة تعمي العيون الكليلة عن رؤية الجسد المتهالك عليها، وجعلت دابة الأرض تدرك وحدها من حقيقة صاحب المنشأة ما لم يدركه من اعتادوا العذاب المهين. بيد أن الثورة في الحالة المصرية لم تكن هي أبغض الحلال، وإنما أحسبها صارت قبل اندلاعها بأسابيع قليلة الحلال الوحيد المتاح أمام الأمة؛ إذ وقف صاحب الأيام التي ولت يسخر من كل ناطق بغير لغة المياه الآسنة، وقرر بلغته الفجة، وبنظرات عينيه التي طالما عبرت عن احتقارها لكل أسباب الحياة في مصر، أن يترك أصحاب ما بقي من الأنفاس لا ينشغل بهم ولا بأنفاسهم، وأوصي بطانته قائلاً: "خليهم يتسلوا"! ... ساعة أن نطق بها علمت وأحسبها كانت الإشارة التي تلقاها الجميع بأن الثورة قادمة لا محالة، بكل رياحها الطيبة وبكل رياحها الخبيثة، ما دامت لغة "الكلام" قد صارت في وعي وضمير صاحب المنسأة مجرد "تسلية"؛ فلا هو صاحب عقل يتلقاها ليقرأ بها خريطة واقع يحكمه، ولا هو صاحب ضمير يزن الكلمات بموازين الحكمة مستخلصاً منها ولو ومضة نور تضئ له طريق خلاص لم يعد يعبأ بوجوده أصلاً؛ لذا رأيتني وقد انضممت للثورة، وأيدت ما تعد به من تحولات، رغم جزعي مما كانت تنذر به من مآلات لا شأن لها بوعود التحولات؛ وأعتقدني ما زلت أنحاز لوعود الثورة هذه، مؤمناً بها، رغم كل الأخطاء التي ارتكبها وما زال يرتكبها -بعض أصحابها، ورغم كل صور الانتهازية التي جعلت البعض يطمع في ثمار الشجرة أن تكون له وحده، بل وفي أن يستأثر بمفاتيح الحديقة كلها، ورغم كل أشباح الماضي التي أراها تتجسد من جديد لتحتوي كل شئ، وتجهض كل شئ، وتفقد "الناس" إيمانها في كل شئ؛ فما زلت متفائلاً بشأن المستقبل، حتي وإن لم يكن الحاضر مريحاً؛ وأجد مقبل الأيام مبتسماً، حتي وأنا أري حاضر الأيام عبوساً يحكمه انعدام الكفاءة، وانعدام الصدق، وانعدام الأمانة، وانعدام الهمة والرغبة في الإنجاز وصناعة التاريخ. حتي لا يكون حاضر الأيام التعس هذا حاكماً لما هو مقبل منها علي المرء أن يدرك كون حديث "الثورة المصرية" قد صار حديثاً مخادعاً: فميادين التحرير كان فيها من يريدون إسقاط النظام لإقامة نظام بديل يخاطب المستقبل: فيحرر العقل ويحرر الضمير ويحرر الجسد سعياً نحو تحقيق الكرامة الإنسانية، كما كان في نفس الميادين من يريدون إسقاط النظام لإقامة إرهاصات دولة أخري لا مجرد نظام آخر تستجيب بنائيتها لنداء الماضي ولا تخاطب المستقبل إلا علي مستوي اللفظ دون العقل ودون الضمير؛ أما ميادين مصر الأخري فكان فيها كما كان علي أطراف ميادين التحرير نفسها قوي تعمل علي الإبقاء علي النظام الذي أرادت الثورة إسقاطه، بعضها تحركه المصالح التي ارتبطت بمنظومة الفساد القائمة، وبعضها الآخر تحركه هواجس الخوف علي الدولة المصرية من السقوط إذا ما سقط النظام الذي نجح في أن يربط مصير الدولة المصرية بمصيره، أو هكذا أراد للأمور أن تستقر في نفوس الكثيرين. أحد كعبيّ أخيلا في الثورة المصرية هي اتخاذها وضعاً مقلوباً داخل رحم التاريخ، فخرجت منه بقدميها لا برأسها، ومازال الشباب وقود أي ثورة متمادين في هذا الاعتقاد الشارد الذي يرضي "الأنا" المتمردة دوماً عند الشباب بأنهم حققوا ما لم تحققه الأجيال التي سبقتهم، متوهمين أنهم لو كانوا قد نزلوا إلي الشوارع منذ عشر سنوات، أو حتي منذ سنة واحدة، كان يمكن للثورة أن تنجح، أوأنه كان يمكنهم الإطاحة بالخيمة دون خلخلة أوتادها علي مدي سنوات سبقت الثورة. مما يدعو للأسف أن بعض الشيوخ بفعل الحماسة الزائدة، أو بفعل الجهل بحقيقة ما كان يجري في الواقع المصري، أو بفعل الانتهازية ومحاولة ركوب أمواج الثورة قد عززوا شعور الزهو هذا لدي الشباب، حتي تحول هذا الشعور من ظاهرة صحية، تحفز الهمم وتستعيد ثقة الشباب بنفسه وثقة الأمة بشبابها، إلي ظاهرة مرضية جعلت المولود يتنكر تماماً لكونه كان جنيناً قبل أن يخرج للحياة، فتحولت الثورة من ثورة سياسية تحمل عناصر نجاحها إلي ثورة جيلية تمتلئ بكل عناصر الفشل الذي من شأنه أن يصيب الشباب أنفسهم بالإحباط، وقد رأينا لهذا الإحباط الشبابي نماذج تعلن عن نفسها علي بعض الفضائيات، في حين كان الأمل هو لغة الشيوخ الذين وضعهم الشباب علي الشاطئ الآخر من الثورة التي جعلوها "جيلية"، أو هم وقعوا في فخ من أرادوهم أن يجعلوها كذلك. علاج هذا الكعب الأول لجسد الثورة المصرية ليس ممكناً إن لم يوازن الجهاز العصبي للثورة بين استمرار الإحساس بقدميها اللتين تسيران علي الأرض وبين استعادة الإحساس بالرأس التي ربما تكون قد خرجت من رحم التاريخ متأخرةً عن القدمين، لكنها تبقي جزءاً رئيساً وقائداً لجسد الثورة، إذ بدون هذه الرأس يموت الجسد مهما كان عنفوان القدمين ... والمشكلة الأكبر هي أن لديّ مخاوف من أن يكون التاريخ قد اكتفي بخروج القدمين إلي الحياة بينما الرأس مازالت مختنقة داخل عنق الرحم بعد أن استغنت عنها صاحبة القدمين!!! كعب أخيلا الثاني في الثورة المصرية هو الجنوح في تصنيف التناقضات القائمة بين القوي السياسية بعد الثورة، فقد استقر الشباب والشيوخ دون تفرقة تكاد تذكر علي أن ثمة فلولاً للنظام السياسي يتناقض وجودها مع استمرار الثورة في الحياة، وعلي أن ثمة انقساماً للقوي الثورية بين إسلامية ومدنية لا يخلو بدوره من تناقضات أقلها صريح وأكثرها مكتوم لا يريد أصحابه الإعلان عنه؛ بيد أن غياب رأس الثورة عن جسدها جعل الجميع يتفقون علي أن التناقضات بين القوي الإسلامية والمدنية هي تناقضات "ثانوية" يجب تنحيتها أمام التناقضات "الأولية" بين القوي الثورية وبين فلول النظام! رغم وجاهة هذا التصنيف الذي يكاد يستريح إليه الجميع إلا أنه يقود جسد الثورة إلي فخ لا يقل في خطورته عن فخ العودة إلي النظام القديم، فليس كل من تظاهروا في ميادين "التحرير" كانوا من دعاة التحرير، ولا هم يقبلون به، وهو ما يذكرني بكتاب "أشعيا برلين" الشهير عن مفهوميه للحرية: فهناك "تحرر من" وهناك "تحرر إلي"، والخلط بين تناقضات "التحرر من" وتناقضات "التحرر إلي" إنما يقود مصر للوقوع في قبضة استبداد "تتحرر" إليه هو في حقيقته أبشع من الاستبداد الذي تحررت منه! وفي غياب "الرأس"، أو في رفض القدمين لها وعدم إحساس جسد الثورة بها، يكون من السهل اصطياد الثورة في فخ هذا الاستبداد الجديد ... فالتناقضات الرئيسة لا تحددها طبيعة ما اتفقت القوي السياسية علي التحرر منه، وإنما تحددها طبيعة ما تتفق القوي السياسية علي التحرر إليه، أو طبيعة ما تختلف عليه. إذا كان الهدف من ميادين "التحرير" هو التخلص من نظام مبارك وعائلته وبطانته المقربين، فإن التناقض "الأوَّليّ" يكون بين الثورة وبين فلول النظام، أما إذا كان الهدف من ميادين "التحرير" هو تحرير العقل من سلطان الجهل، وتحرير الضمير من سلطان الوهم، وتحرير الجسد من سلطان لقمة العيش، فإن التناقض "الأولي" يكون التناقض بين القوي الساعية لهذا "التحرير" وبين القوي المناهضة له؛ ومن ثم فقد أري عبثيةً تكتنف كل المواقف السياسية التي تسعي لتشكيل ائتلافات والدخول في تحالفات لا تطرح سؤال "التحرير" بشكل صريح لا تقية فيه، إذ مهما كانت الخسائر "السياسية" المرحلية، نتيجة العزوف عن الانضمام لمثل هذه التكتلات التي تسير علي قدمين بلا رأس تحدد اتجاهات الطريق، فإنها تبقي خسائر محسوبة ومقبولة تاريخياً إذا ما قورنت بالخسائر غير المحسوبة التي سيتسبب فيها حتماً ترحيل سؤال "التناقضات"، أيها "أولي" وأيها "ثانوي"، إلي مائدة ال"من" السهلة المرتبة بدلاً من مائدة ال"إلي" الصعبة غير محددة المعالم. "التحرير" ليس مكاناً تقوم فيه الثورة، لكنه "حالة" تستهدفها الثورة وتؤسس لها؛ ومن لا يدرك هذه الحقيقة يسهل اصطياده، ومن ثم فعلي من لا يريد أن يكون صيداً سهلاً أن يطرح علي صائديه أو علي مشاريع صائديه - الأسئلة الصعبة بشكل مباشر وصريح: ما موقفكم من تحرير العقل من سلطان الجهل؟ وما موقفكم من تحرير الضمير من سلطان الوهم؟ وما موقفكم من تحرير الجسد من سلطان لقمة العيش؟ فإذا ما راوغ "المسؤول" في الإجابة، وبقي يسبح في العموميات دون أن يتعامل بوصفه ملاكاً - مع شياطين التفاصيل، فإنه يكون صاحب التناقض "الرئيس" و"الأوَّليّ" لا غيره، يتساوي في هذا من كان صاحب التناقض الثانوي أثناء مرحلة "التحرر من" ومن كان صاحب التناقض الأولي قبل الدخول في مرحلة "التحرر إلي"؛ فطبيعة التناقضات تتغير بتغير المراحل، وهي حقيقة تدركها الرأس ولا تدركها بالضرورة القدمان؛ غير أن الرأس مازالت مختنقة داخل رحم التاريخ، وتاريخ الثورة مازالت تكتبه علي الأرض أصابع القدمين، بالأصالة عن نفسها وبالإنابة عن الرأس المرفوعة مؤقتاً من الخدمة!! وعفواً، أصحاب الأقدام التي تسير في الأرض مرحاً، وتتعجل اللهو في الحديقة: فالرأس مازالت عالقة داخل الرحم، وهي إن نسيناها داخله اختنقت ومات الجسد، ولا عزاء لصاحبة الكعبين!!