عندما سألت عنه قالوا إنه يجلس دائما علي كافيتريا "هوريزون" في وسط البلد ، ذلك الحي الراقي الذي يختلف عن كل الضواحي التي تحيطه.لما سمعت ذلك حسبته شخصا مهماً ليجلس علي ذلك مقهي في وسط البلد. كل شيء مختلف هناك،الناس، أصوات أجهزة التكييف،أضواء النيون للمحلات الجديدة ،ضجيج السيارات... والازدحام الخانق.سألت عن ذلك المقهي في ميدان طلعت حرب ولكن لم يعرفه أحد.نصحني أحدهم أن أسأل البوابين فهم يعرفون ذلك المكان أكثر من أي شخص.حتي البوابين في ذلك المكان يختلفون عن أقرانهم في باقي المدينة،ملابسهم نظيفة ومكوية بعناية.يحدثونك بإسلوب مهذب حتي لو لم تعطهم قرشا. سألت أحدهم لكن طريقته في الحديث قد تغيرت بعدما عرف أسم المقهي أشار لي ناحية النادي الدبلوماسي،رأيت سيارات سوداء قريبة من المدخل الرئيسي،وحراس ضخام يقفون أمام الأبواب،خفق قلبي وفكرت في التراجع عن الفكرة كلها.ولكن البواب قال: - ستجدها داخل العمارة خلف النادي مباشرةً - داخل العمارة؟!! فهز رأسه مؤكدا علي ذلك وجدتها ...علي غير ما توقعت .كانت أقرب لغرزة تحتل بدروما قديما للعمارة.يجلس عليها العمال وباعة الفاكهة والباعة المتجولون.سألت عنه ،وجدته يجلس في ركن مظلم..عينان أسفنجيتان ووجه من الرخام.أخبرته أنني بحثت عنه كثيرا ،لم يبال،قلت له فجأة"علمني فن الحياة" . قام فجأة من مكانه وخرج الي الشارع،تبعته،ظل يمشي وهو يتابع المارة والمحلات ثم هبط إلي مترو الأنفاق وأنا وراءه. اجتاز محطة واحدة ثم خرج في السيدة زينب.أخذ ينظر وراءه وكأنه يبحث عني.ظهرت له.فقبض علي يدي وهو يشير إلي بائعي الكبدة ،ومحطة المواردي وشارع الرشيدي وقال" أتري الفرق بين المكان الذي كنا به وذلك المكان القذر"، قلت " هذه هي الحياة". هز رأسه رافضا،ثم مسكني من رقبتي وهمس في أذني بغضب " الحياة أن يفصلك نفق مظلم بينهما." ظل يمشي ثم ألتفت لي فجأة مرة ثانية ،قال"هل تطير؟!! " لم أفهم فردد وهو يفرد ذراعيه ويحركهما في الهواء:: "هل تطير ،تطير؟!".... نظرت له بدهشة وقلت بإستخفاف "نعم أطير، بالطبع"..... فقال "أتبعني "... ثم فرد ذراعيه أكثر فأكثر،وانطلق يجري في وسط الشارع بكل قوته، لا يبالي الإصطدام بالناس أو بالعربات. ظللت أركض وراءه ، ولكن المسافة بيننا كانت تزداد، تاه مني، وضاع في الزحام، لم أعد أراه،ولا أعلم كيف سأجده مرةً أخري. ثم فجأة من بعيد رأيت السيارات تتعطل، وتقف وراء بعضها،المارة كذلك،مؤكد أنه هو من يسبب ذلك،جريت نحو هذا المكان،كلما اقتربت اتضح لي أكثر،كان يقف في منتصف الطريق رافعاً جناحه أو ذراعه، تعجبت لماذا يقف ،ولكني فرحت عندما وجدته. اقتربت أكثر بدأت أستشفه من وسط الزحام، وفجأة ،انتهت تلك الوقفة للسيارات والمارة، وهربت وراء بعضها، لتدع لي نظرة نقية عليه عن قرب ..... ثم فجأة اكتشفت أنه لم يكن سوي عسكري المرور الرافع ذراعه من بعيد..... السويس