برؤية إنسانية كلية، لاتبعد عن (هنا) و (الآن)، وبلغة تأملية رائقة وغير ملتبسة، وببناء سردي متدفق يعرف الطريق إلي قلب قارئه ليثيره، فيوقظ عقله ليجادله حول ما رسخ بأعماقه، تقدم الكاتبة الكويتية الشابة »سعداء الدعاس« روايتها الأولي بعنوان لافت هو (لأني أسود)، طارحة فيه قضية الاندماج في المجتمع، فيما بين فرض التماثل علي الآخر وإذابته في معتقداتنا، والاعتراف بحق هذا الآخر في الاختلاف دون نبذه من محيطنا، وذلك عبر سياحة متنقلة بين الكويت كنموذج مجتمعي عربي، وإحدي الولاياتالامريكية كنموذج مجتمعي غربي أو إنساني. تنطلق الرواية بلسان الشاب »جمال« ابن العربي/ الكويتي المسلم »فوزي« والأمريكية المسيحية »جوان«، وقد بلغ التاسعة عشرة من عمره، عاش معظمها في وطن أبيه، الذي توفي في حادث سيارة في بأمريكا، حيث كان يدرس للحصول علي الدكتوراه في الإخراج المسرحي، وكان لزاما أن يكون »جمال« هو السارد بلسانه لحكايته وحكاية أبيه وأمه مع مجتمعات مغايرة لهوية كليهما، فهو وليد »نطفة التماثل اللوني« لأم أمريكية سوداء وكويتي أسود أيضاً، وهو في نفس الوقت هجين من اختلاف الانتماءات والالوان والحضارات والرؤي للعالم، غير أنه سرعان ما يترك أمر السرد بلسانه، عقب افتتاحية تأملية مذيلة بتوقيعه ومكانه وتاريخه المتقدم، لتحل محله الراوية العليمة ببواطن الأمور، والمتدثرة بالضمير الثالث الحيادي، والمرتدة بنا مع أول ترقيم لصفحات الرواية لنحو ربع قرن خلت، في (فلاش باك) طويل، تقدم لنا عبره السياقات الاجتماعية والثقافية المتباينة التي شكلت وعي هذا الشاب مختلط الأنساب، بادئة بمدينة (شيكاغو)، لتستعرض لنا حياة الأم التي تعاني من سواد بشرتها، في مجتمع شديد العنصرية، غرس بعقلها وعياً يدفعها لعدم البحث عن الزواج برجل أبيض، فهو معجزة لا تحدث لفتاة سوداء وفقيرة مثلها، فتكتفي بالحلم ب (بعض) من الاختلاف الذي لا يخرجها كلية عن السياق الذي اعتادته، فتمنت أن يكون مشروع زواجها من رجل »اسمر« يمنحها طفلا (وسط) بين اللونين المضادين، فيمتلك فضيلة (التماثل) مع اهله، وحق التسلل لعالم البيض ب (شبه تماثل) يقربها من وسط الدائرة الذهبية، التي اعتاد سكانها البيض النظر للسود باعتبارهم عبيدا. تلتقي »جوان« بالفتي »فوزي« القادم للدراسة بمركز اللغات الذي تعمل به، تمهيدا لدراسته الجامعية العليا فنجده »اسود« مثلها، فضلا عن اختلافه العرقي والديني، مما يتناقض تماما مع (مشروعها) في الحصول علي (شبه المتماثل)، غير أن قلبها يتعلق بوسامته ورقته وطموحه، فتتزوجه ليأتي ابنهما »جمال« ليتسلم راية السرد بنفسه، بداية من الثلث الثاني من الرواية، وليحكي في صفحات قليلة عن حياة والده القصيرة في امريكا، فسرعان ما يموت في حادث سيارة، انحرف بها عن جادة الطريق حتي لايصطدم بغزال شارد، فيغيب جسديا عن الأحداث، لكنه يظل حاضراً بأفكاره طوال الرواية، التي تدفع بالزوجة للعودة بابنها إلي وطنه، وهو في الثامنة من عمره، أسود مثلها ومثل أبيه، في مجتمع يبدو لتدينه أنه ليس عنصريا، لأنه يحقق الاندماج قسرا تحت راية الدين، فيصوم الكل شهر رمضان، حتي من هو غير مسلم، ويرتب داخله الوظائف بناء علي جنسية الأشخاص، فيعمل الآسيويون في الأعمال الدنيا، ويدير غير الكويتيين دولاب العمل، ويظهر الكويتيون الأثرياء في المولات، ويستخدمون السود من مواطنيهم في أدوار المجاميع الراقصة في العروض المسرحية و(الكومبارس) الفرد الذي يسخر منه نجوم العرض. لاتستطيع »جوان« أن تتماثل مع مجتمع ينظر إليها بذات النظرة التي نظر بها مجتمعها الأول، فضلا عن غياب حرية الحركة التي كانت تتمتع بها هناك، وكمنت المأساة الأكبر عندها في اكتشافها أن مثلها الأخلاقي والعقلاني »فوزي«، كان مزدوج الشخصية والفكر والسلوك، فهو المسلم المتزوج من مسيحية، والذي طلب في وصيته دفن جثته في مقابر الشيعة، معترفا بأنه شيعي مثل أمه »الشيعية في باطنها، السنية في ظاهرها«، لم يكتف بإخفاء شيعيته، المتسللة في ثنايا الرواية بوضوح، بل ورفض ان تتزوج أخت له من شاب شيعي، فاغتال حاضرها ومستقبلها، ومنع ابنة أخت أخري له من الالتحاق بمعهد المسرح، رغم أنه خريج هذا المعهد، لكنه كالكثير من مثقفي هذا الوطن العربي الكبير، الصحراوي الفكر، يقول ويدعي ويمنح لنفسه حقوقا يمنعها عن غيره. تعود »جوان« لأمريكا بعد أن فشلت في التكيف مع مجتمع رأته غارقا في الزيف والادعاء، ويبقي »جمال« بالكويت ليدخل تجربة عاطفية تثبت له أن ما استقر في الوعي الجمعي للمجتمع أقوي من أية رغبة فردية لتجاوز ما استقر بعمق هذا الوعي، وصاغ ذاته في صورة تقاليد وعادات مدمرة، فتفشل علاقته بمعشوقته المثقفة، التي ارتعبت لحظة الإقدام علي الزواج برجل، سيصبغ أولادها بصبغة سوداء، في مجتمع مقتنع ب »أن كل أسود عبد« أو (كومبارس) في عرض الحياة.