كان بورخس عاشقاً لغرناطة، قرر ذات يوم أن يصحب ماريا كوداما إلي هذه المدينة، فأصابها الفزع لما تخطت عتبة واحد من أبواب قصر الحمراء. كانت هناك لوحة تقول:" ما من ألم أكبر من أن تكون أعمي في غرناطة". حينها لاحظ بورخس ضيقها فكان رد فعله سريعاً:" لا تشغلي بالك، ستريني المدينة بعينيكِ اليابانيتين". كان الكاتب الأرجنتيني يعرف اللوحة: قرأها في شبابه. واليوم تحكي كوداما حواديت معايشتها العبقرية لمؤلف "الألف" في مركز الفن الحديث بمدريد حيث يسلمونها نسخاً من طبعات فاخرة حديثة النشر من "الأخت إلويسا" و" عائلة ريبيرو"، في الاحتفال بمرور 25 عاماً علي وفاة بورخس. هل تقرئين لبورخس كل يوم؟ - نعم أقرأ له باستمرار، لأنني ألقي محاضرات عن أعماله. هكذا أعيد قراءته والتفكير فيه ودراسته... وبعد الكثير من دراسته والبحث في أعماله والحياة معه أثناء إبداعه، هل تجدين أعماله غامضة؟ - هالة الغموض دائماً تصحبها. إنها مثل الموسيقي، أقصد رهافة إيقاع نثره وقصائده، الفريدة والتي تسيطر عليك، وهذا ما يجعلني أقرأها باستمرار، ليس فقط من أجل المحاضرات. وما الأعمال التي تقرئينها أكثر وتعجبك أكثر؟ - هناك قصص كثيرة تأسرني. قصتي المفضلة "الأطلال المستديرة". كما أقدّر كثيراً "الخالد" و"الميت" .. ومن القصائد "النمر الآخر" فهي تثير بداخلي مشاعر رائعة. عندما كان يملي عليكِ، هل كان يطلب أو يسمح اقتراحات أو نصائح؟ - كان يسألني عندما يتردد بين كلمتين. وكنت أقترح عليه أيهما أفضّل وأسباب اختياري، فيجعلني أسجلها علي الهامش، بعدها كان يفعل ما يرغب، يقبلها أو لا. هكذا كانت اللعبة. وأحياناً كان يسألني عن أفكار تخطر بباله لقصائد. ما هي في رأيك مساهمته الرئيسية في تاريخ الأدب؟ - إيجازه في استخدام اللغة. فلا يمكن أن تقص شيئاً من قصصه، لأن كل شيء فريد وأساسي في مكانه. من الهام أيضاً في قصصه الركيزة الفلسفية التي تعلمها من أبيه كلعبة في حياته منذ كان صغيراً. هنا تكمن قوة كتاباته. هل كان هناك تناقض يمكن ملاحظته بين بورخس داخل بيته وبورخس خارج بيته؟ - لم يكن هناك أي تناقض. أظن أن له ردود أفعال ذكية في التعامل مع المواقف التي تحدث له بالخارج. كان ساخراً جداً، وأحياناً حاداً جداً. لكن في علاقته معي لم يكن كذلك، بل رقيقاً ومسلياً. تقول القاعدة إن المثقف يلغي جانبه العاطفي... - ما هو فكري وما هو عاطفي طريقان، كانا يلتقيان عند بورخس لهذا كان مبهراً. لو لم يكن كذلك ما وصل بأدبه إلي كل هؤلاء الناس في ظروفهم المختلفة. نعم كانت في تربيته بقايا فيكتورية، من قرن آخر، لهذا لم يبرز مشاعره بتركيز. هل حقاً أول ما جذبك إليه خجله عندما قرأوا عليكِ وأنتِ في الخامسة "قصيدتان بالإنجليزية"؟ - نعم، السيدة التي كانت تعلمني الإنجليزية كانت تقرأ لي الكتب بصوت عال. وذات مرة قرأت عليّ نصاً لبرنارد شو عن قيصر وكليوباترا، وفي يوم آخر قرأت قصائد لبورخس كتبها لحبيبته. الأول جذبني بقوته والثاني بخجله، بهذا الحياء والوحدة. بدا لي حينها أنني سأفهم بورخس بشكل أفضل، لأنني كنت أيضاً خجولة وانطوائية. كان بورخس يمتدح استقلاله، لكن كيف يتفق هذا الملمح في شخصيته مع كونه اعتمادي جداً بسبب عماه؟ - الحق أنه لم يكن اعتمادياً. بالعكس: كان مستقلاً جداً. لم يكن يسمح لي مطلقاً بالخروج للبحث عنه، بل كان هو من يأتي ليبحث عني. كان يتعامل جيداً مع سائقي بوينوس آيريس(وكثيرون منهم كانوا أصدقاءً له). ودائماً كان يصحبني للبيت،"مثل فارس فيكتوري" هكذا كان يقول. يُحكي أيضاً أنك بجانبه كنتِ تعطينه شعوراً بأنك أنتِ العمياء. - خاصة عندما كنا نسافر بأوروبا لأنه تجول فيها في مراهقته، في فترة الاكتشافات. وذات مرة في غرناطة، المدينة التي كان يعشقها، وعند دخول قصر الحمراء، شاهدت لوحة تقول:"ما من ألم أكبر من أن تكون أعمي في غرناطة". شعرت بضيق، ماذا أفعل، وأصابني الخرس. لكنه قال لي:"اقرئيها ولا تشغلي بالك. فأنتِ ستُريني المدينة بعينيكِ اليابانيتين". ألا تخشين أن يؤدي تقديسك الزائد له إلي إقصاء الشباب عنه؟ - لقد كان مقدساً منذ كنت طفلة. ومسألة أنه صعب وغامض...كان يبعد عنه بعض الشباب، لكن البعض الآخر كنا يعتبره تحدياً. وسيستمر الحال هكذا. ما حدث أيضاً في سنوات الستينيات والسبعينيات، عندما اعتبره اليسار الشعبي والقومي "خواجة" بسبب دراسته الأنجلوسكسونية، أن الشباب بدأوا يقرأونه، بالتحديد لأنه كان كاتباً ملعوناً، كإيماءة تمرد. هل فتح لك من جديد منح جائزة نوبل لماريو بارجس يوسا جرح تجاهل الأكاديمية السويدية لبورخس؟ - بورخس لم يكن أبداً مستاءً من ذلك. ولو ضايقه أمر الجائزة لكان نقله. لكن كان هناك ألم قومي كل عام كلما تخطته الجائزة. ذات مرة قال له شخص إنه سيصلي ليمنحوها له العام القادم، فأجابه بألا يفعل ذلك، "فأنا أفضل أن أكون أسطورة اسكندنافية علي أن أكون رقماً في قائمة". لماذا اختار جنيف ليموت هناك؟ - هناك درس البكالوريا، في كوليدج كالفين. وعندما عاش في سويسرا اكتشف شيئاً أثر فيه مدي الحياة: الاحترام. خاصة الاحترام الذي استقبل به السويسريون لاجئي الحرب العالمية الأولي. عرف أيضاً بعد سنوات طويلة أن زملاءه في المدرسة طلبوا من المدرسين ألا يكونوا صارمين معه لأنه لا يجيد الفرنسية بطلاقة. وكان معجباً بعقيدتهم وذكائهم الذي جعلهم يؤسسون بلداً تتعايش فيه الديانات المختلفة واللغات المختلفة في سلام. هل كان بورخس هو "الألف"؟ - في الواقع كلنا "ألف". لهذا أراه مثيراً للشفقة عندما يحاولون حبسه في إطار. هو كان عدداً لا يحصي من الأشياء، ومن الكوميدي أن يقولوا إنه هذا الشئ أو الشئ الآخر. كان بورخس يربط الجنة بمكتبة، وأنتِ؟ هل هي مكتبة مع بورخس؟ - نعم نعم، مع بورخس(تضحك برقة، كما تفعل في كل إيماءاتها)