بينما كان صوت فيروز يقطع المسافات بين الثواني، ويمس شغاف القلوب، جاءت فتاة صغيرة لها جديلة وحيدة، ووقفت علي محطة الباص تنتظر. عندما جاء الباص، نزل بعض الراكبين، وصعد بعض الواقفين، ثم مضي ولم يأت فتاها. تعاقبت الفصول علي الفتاة، مر أولا الشتاء، غنت فيروز له: - رجعت الشتوية ثم جاءت رياح باردة، صفعت وجنتي الفتاة، وفرت، وتساقطت قطرات مطر من حافة المظلة، اصطدمت بكتف الرصيف، ارتد رذاذها ونام علي طرفي حذاءالفتاة المدببين، بينما ظلت فيروز تغني، وظلت الفتاة تنتظر. وكلما جاء باص، راودها الأمل، وكلما مضي ترقرقت دمعة وتجمعت، التقطتها الفتاة بمنديلها قبل أن تسقط فوق طرف حذائها. ثم أعقب الشتاء ربيع، لم يكن جميلا جدا، لكن بعض زهرات تفتحت في الحديقة المهملة للفيللا الغامضة المقابلة لمحطة الباص بنوافذها المغلقة دوما. جاء باص ومضي، وانطفأ بريق الأمل الذي أطل من عيني الفتاة، واختفي في طيات جديلتها الوحيدة. ثم جاء الصيف محمولا علي غناء فيروز الذي كان يصل للفتاة من مكان بعيد: - يا شام عاد الصيف. ورأت الفتاة الصيف ماشيا حاملا سلالا مملوءة بالفاكهة، وهي ترقب بطرف عينيها باصا جاء، ولم يأت أحد، التقطت الفتاة بمنديلها قطرة عرق ندت جبينها قبل أن تسقط علي طرف حذائها وأخفت حرجها عن العيون المتسائلة الجريئة التي كانت ترمقها. فاجأ الخريف الفتاة، ولما لم يكن للخريف موقف من الوجود، لذا جاء مرة باردا متغطرسا، ومرة حارا كارها، ومرت به وبها باصات كثيرة، توقفت، ونزل ناس كثيرون، وركب ناس كثيرون، لكنه بالتأكيد لم يأت الفتي. كذلك مضي عام بأكمله، وجاء عام جديد، والفتاة تمرح في الصيف بمنديلها، وفي الشتاء تقف محتمية بالمظلة، تتساقط قطرات المطر، تصطدم بحافة الرصيف، وتتطاير رذاذا ينام علي طرفي حذائها. حلت الفتاة جديلتها الوحيدة، فازدادت حسنا، هذا ما بدا لها في عيون النازلين من الباص، وهي ترمق ثدييها الناهضين في اعجاب، وأيضا في عيون المارة، لكن الفتي الذي تنتظر لم يجيء ولو مرة واحدة عابرة، وجاءت رياح عاتية، كنست الخطوات من الشوارع، وبعد أن هدأت الريح نامت الأشجار مبكرا، وأغلق الشتاء الدكاكين، ومضي ليغلق نوافذ البيوت. كان شتاء ذلك العام قاسيا جدا، ذلك ما أيقنته الفتاة، ربما لأنها لم تسمع فيروز تغني في فرحة - رجعت الشتوية وربما لأن الرجل الذي كان يدير المذياع، الذي كان يجيء بفيروز من لبنان إلي القاهرة، مات قبل أن يحل الشتاء، واشتجر ورثته علي الدكان، فأغلق لحين أن تبت المحاكم في أمره. ثم جاء ربيع زاهيا، ظنت فيه الفتاة أن الباص إذا ما أتي جاء معه حبيبها، ذلك ما ظنته في نفس اللحظة التي كان لودر المقاول يهدم الفيللا العتيقة الغامضة، ويزيح بقادوسه برام ورود شريدة كادت تتفتح في حديقتها. كانت الفتاة وهي تنتظر، ترقب البناء يعلو طابقا فطابقا، حتي أطلت عليها من شرفات الطوابق وجوه نساء ورجال متأنقين لم تعرها اهتماما. ثم مرت عدة سنوات، ولم تعد الفتاة جميلة، لأنها أصبحت امرأة جميلة، رمقتها عيون جائعة وهي تمسح في الصيف قطرة عرق تندي جبينها، أو تلتقط في الشتاء دمعة خائنة كادت تضيع في رذاذ المطر. لكنها مع ذلك ظلت ترقب الباصات وهي تأتي من بعيد وفي عينيها نفس البريق الذي سينطفيء عندما تمضي، دون أن يجيء أحد. لنذكر هنا إنها أصبحت أكثر قوة وصلابة وتجربة، وما يؤكد لكم ذلك إنها أصبحت تلبس معطفا ثقيلا في الشتاء، رمت به من شرفة عالية امرأة من اللواتي يسكن الطابق العاشر من البناية الجديدة الفاخرة التي أقيمت مكان الفيللا العتيقة الغامضة، أو بلوز وجوب في بقية الفصول رمي بهما إليها زوج امرأة غاضبة من اللواتي يسكن الطابق التاسع ضمن ما رمي من متاعها. ذلك ما جعل المرأة الواقفة علي محطة الباص، تنتظر وتنتظر، ولم تعد تعبأ بقطرات المطر، لأن حذاءها أصبح باليا، ولأن قطرات المطر لم تعد تجد مكانا لتنام فيه علي طرفي حذائها، كما إن المرأة لم تعد تلتقط حبات العرق في الصيف، ولا الدمعات الخائنة التي أصبحت تنزلق في سهولة علي خديها وتختلط بقطرات المطر لتنام فوق كتف الرصيف في الشتاء، لأن منديلها بات رثا مهلهلا. لاح من بعيد باص، ولمع بريق أمل في عيني المرأة، لكنه لم يقف، لأن كل شيء أصبح يمر سريعا، ولأن كل شيء يتغير، إلا صوت فيروز، الذي جاء من بعيد خافتا، جاء صاعدا من الدكان القديم، لأن الرجل الذي مات كان قد أغلق عليه الباب، ولأن أحد الورثة نجح في انتزاع حكم تاريخي من المحكمة، وعاد ليفتح به الدكان، وأضفي علي المحل القديم صبغة جديدة، لكنه عندما أدار مؤشر المذياع، لم تكن فيروز تغني، بحث عنها في كل محطات الراديو وأعاد دورة المؤشر، لكن فيروز لم تكن هناك. ذلك ما جعل المرأة الجميلة، لم تعد جميلة، بعد أن مرت عليها أعوام ورياح وأتربة وأمطار وعيون كثيرة، وهي واقفة تنتظر، تهدل خداها، وسقطت سنة من ضواحكها، جعلتها تلتزم الصمت وعدم الضحك. ثم جاء باص، رأته يتطوح من بعيد، ولم يعد بريق الأمل يطل من عينيها، كما أن جيبا من جيبي معطفها تمزق وتدلي أكثر وأكثر ليجاور الانتظار. توقف الباص بشدة، وحاذي طرفي حذائها، وبدأ الناس ينزلقون منه، وبعد ثلاثة أو أربعة أشخاص - أنا لا أذكر تماما - نزل الفتي الذي تنتظره الفتاة، لكن ما أذكره جيدا إنه كان فتي رائقا ألقا، أطل علي الفتاة وابتسم لها، فداعبت في خجل جديلتها الوحيدة، وابتسمت له، مد يده ، أمسك كفها، ومضيا معا، بينما كانت البناية الجديدة تتلاشي في الفراغ، أمام لودر المقاول، وعادت البراعم الشريدة تتفتح في حديقة الفيللا الغامضة المهملة العتيقة، بينما نجح الرجل الذي نجح من قبل في انتزاع حكم تاريخي بافتتاح المحل، في أن يدير مؤشر المذياع، ليقف عند صوت فيروز وهي تغني: - أنا لحبيبي وحبيبي إلي..