وسط الأحداث المتلاحقة التي تدور في مصر الآن، والتي لاتترك مساحة للحديث عن أي "شيء آخر"، أود هنا الحديث عن "شيء آخر"، عن كتاب جميل وممتع وثاقب قرأته عدة مرات خلال الشهور الستة السابقة، ألا وهو كتاب "مرحبا في صحراء الواقع" للكاتب السلوفيني سيلافوي جيجيك. يعتبر سيلافوي جيجيك واحدا من الثوار الحديثين في العالم الذين مازالت فكرة العدالة موجودة بقوة في تحليلهم لوقائع السياسة العالمية، وسط عالم حديث أصبحت فيه هذه القضية شديدة الضبابية، بل وفقدت الأدوات النظرية الجديدة لتحليلها والحديث عنها. ينتمي سيلافوي جيجيك لحقل معرفي جديد لما يسمي "بالدراسات الثقافية"، الذي يمزج في تناوله بين القضايا والاهتمامات الرفيعة والقضايا والاهتمامات الشعبية، فلا يوجد فاصل بينهما داخل هذا النوع من الدراسات. وكذلك يمزج بين علم النفس والفلسفة والأدب والسينما وعلم الاجتماع وعلوم اللغة في تناوله وتحليله لأي ظاهرة، وهو هنا يتتبع خطي الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي جاك لاكان. فيتكون عبر هذا التداخل"نص نقدي جديد" له حس إبداعي واضح ولغة تحليل ساحرة وثاقبة تصل أحيانا إلي مرتبة الشعر، الشعر بوصفه نصا حدسيا يختزن معرفة. فعبر "نص جيجيك" تصادف باستمرار تلك الاكتشافات اللامعة لما وراء الكلام، والروابط المهمشة بين الأحداث، القديم منها والحديث. إنه نص للتفسير والتحليل وليس للتنظير، لفض التشابك وتعرية واكتشاف النصوص الأخري اللاواعية والمضمرة التي تتحكم وتوجه ثقافتنا الحديثة. اكتشافات تضارع المفاجآت و "زلات اللسان" التي تحدث علي سرير التحليل النفسي وفي حياتنا اليومية، ولكن علي مقياس أوسع بالطبع. في كتابات لاكان كما في كتابات جيجيك، تذوب الفواصل بين العلوم، تُستخدم اللغة والاديان والرموز في التفسير، وكل هذا يخضع لقدرة المفسر أو المحلل علي الربط والتحليل والمزج بين تلك الأجناس والعلوم. يعود للنقد روحه الشخصية والفردية ولكن بحصانة جديدة. يقولون عن لاكان أنه "كان يحشد كل مصادر الثقافة لينير بيته". أيضا كان جيجيك يحشد كل مصادر الثقافة لينير بيته أو نصه. الجديد أن علم النفس، عند لاكان وجيجيك، أصبح ضمن أدوات رؤية ورصد نمو علاقات القوة الجديدة والسلطة المهيمنة علي العالم. وأن منتجي السلطة في العالم الحديث مازالت الأواصر ممتدة بينهم وبين الغرائز والدوافع النفسية العميقة ورموزها سواء علي مستوي الفرد أو الدولة أو الثقافة بوجه عام. أصبح للعالم "لاشعور" يمكن تحليله، أو كما يقول لاكان "أن اللاشعور هو صورة الاخر". كأن العالم بتعيقداته أصبح أحد المرضي النفسيين الذين يفتقدون للانسجام في حياتهم ويحتاجون للعلاج. تأثر جيجيك بلاكان جاء عبر عدة تقاطعات منها فكرة "الإحالة"، التي اعتمد عليها لاكان في تحليله ونظرياته؛ أي إشارة أو معني يشير أو يحيل لشيء آخر، لمرجع آخر، لمعني آخر، لكلام متوار خلف الكلام. يقول لاكان " لماذا يكون تأثير اللغة أكبر مايكون حين تقول شيئا من خلال قول شيء آخر". وبهذا ينفتح المجال أمام الفكر الانساني كي يختار بين عدة بدائل للمعني والكلام ولايكون مجبرا علي الإنصات فقط لنمط واحد من التفسير الذي يحيل دائما إلي "دوجما". تعرية الغطاء عن كل الظواهر السياسية الحديثة وفضحها حتي ولو كانت تحت مسمي "الديمقراطية". أيضا يستخدم جيجيك مصطلح "المنطق الكامن" ليوضح وجود رسالة عكس الرسالة المعلنة، مثلا في شكل طرح السؤال عندما يخيرك خطاب الغرب بين الديمقراطية وبين الأصولية الإسلامية. داخل هذه الاختيار الظاهري في السؤال إجبار كامن باختيار الديمقراطية. أخيرا أشكر أحمد حسان مترجم الكتاب علي هذا الاختيار والمجهود والزهد والصبر والدقة في اختيار ترجماته، وجميعها لها أهمية قصوي في تفسير ثقافة عالمية حديثة شديدة التحول والتعقيد والغموض ولايمكن تفسيرها بأي نظريات قديمة.