مثلما آمن الحداثيون الأوائل بأن حداثتهم هي نهاية التاريخ، وهي سرمدية وأزلية ومطلقة، يؤمن نظراؤهم من المثقفين الثوريين القدامي، بأن للثورات تعريفاً ثابتاً لايطوله التاريخ ولا الزمن ولا الاختلاف بين المجتمعات والثقافات، هكذا شعر العديد منهم بالارتياب تجاه الثورات العربية المتلاحقة، فهي ثورات غير عمالية، غير طبقية، تفتقر إلي قائد ملهم، وإلي ايديولوجية ثورية يؤمن بها الثوار، انها أشبه بانتفاضات »رعاع المدن« كما طرحها المفكرون الثوريون الكلاسيكيون، كهاوية لايجب أن تنزلق إليها الثورات، لهذا يحرص هذا النوع من الثوريين علي »الوطن« الذي هو أبقي وأغلي من الشعب، وعلي »الشعب« الذي هو خادم الوطن، ثم علي »الزعيم الدكتاتور« لأنه حارس الاثنين. لم يشذ »أدونيس« في رسالته إلي »السيد الرئيس« عن هذا الثالوث المقدس، فقد أنهي رسالته الاستجدائية يتمني التوفيق للثلاثي وبنفس الترتيب المقدس، معتقداً أن ايمانه بالثلاثة يؤكد ثوريته، ورفضه لهيمنة اللاهوت علي »تلك الأرض الجميلة الفريدة مبتكرة الأبجدية العربية التي اسمها سوريا«، سواء كان لاهوتاً دينياً أم حزبياً، وهو في استغراقه بالصلاة لهذا الثالوث إنما يغوص حتي الخاصرة، في وحل أبشع أنظمة اللاهوت التي ابتكرها الطغاة والقتلة. المفارقة أن »أدونيس« عاشق هذا الثالوث - السرمدي المطلق اللاتاريخي - لم يستطع العيش علي أرضه »الجميلة الفريدة«، وغادرها بمجرد دخول مرحلة المواطنة أي بمجرد أن أصبح مكوناً من مكونات هذا الكيان الغامض المسمي بالشعب، وهو ما يمكن أن يرشحه ليكون واحداً ممن يفقدون الزعيم قائد الشعب وخادم الوطن، لذا فهو حتي في منفاه لايمكنه الكفر بزعيم الحزب، ولكن يمكنه الكفر بالحزب، الحاد اسلامي شرقي، يكفر بالوسائط بينه وبين الإله، ولكنه لايستطيع الكفر بالزعيم الإله. فالزعيم لابد غافل، أو هناك من ضللوه بحيث لايعلم بجرائم حزبه، ولابفساد عقيدته، وهو »ممانع« و»صامد« و»مقاوم« رغم عدم ادراكه بأن جزءاً من أرضه »الجميلة الفريدة« قد فقد إلي الأبد واختفت معالمه تماماً، وأصبح مدناً ومتنزهات ومنتجعات اسرائيلية الشكل والجوهر. الاكثر مأساوية هو مخاطبة أدونيس لوارث الدكتاتورية باعبتاره »السيد الرئيس«، ليس هذا فقط بل يصفه بأنه »قبل كل شيء رئيس بلاد وشعب« و »بوصفك خصوصاً رئيساً منتخباً« فاذا كان »الأسد الولد« لايعني ما يدور حوله، فلابد أن »أدونيس« يعلم - مثله مثل كل من بلغ سن الرشد في العالم - أن »سيده الرئيس« ورث المنصب بملهاة كوميدية عندما اجتمع البرلمان السوري في جلسة طارئة - عقب موت الأسد الأب - للنزول بسن المستحق للرئاسة إلي »الرابعة والثلاثين«، وهو سن الأسد الولد آنذاك بالضبط، ليرث أباه ويصبح رئيساً للحزب وللبلاد، أي أنه لاشرعية له حتي يدعوه من يفكر في جائزة نوبل ب »السيد الرئيس« ولن نتحدث عن تولية فترته »الرئاسية« الثانية بملهاة اكثر سواداً من الاولي. لم يذكر أدونيس »رئيسه« بمسئولية الأخوة والاقارب (قادة الحرس الجمهوري والأجهزة الامنية) عن المجازر التي تفوق في بشاعتها مجازر النازيين والفاشست، بل حمل الحزب تارة - وهو في الحقيقة لا وجود له - والتطرف الديني تارة، والمحرضين تارة، اولئك الذين »تغلب عليهم نبرة »التهييج« و»الثارية« والدينية »الطائفية« أو »السلفية« مسئولية الفساد والمذابح وكأن تلك الكتائب »المدرعة« والطائرات المروحية والمدافع بعيدة المدي، كلها ملك لأولئك المحرضين، بل لم يذكر »رئيسه« بالجرائم المماثلة التي ارتكبها ذلك الجيش ضد الشعب اللبناني الذي عاش أدونيس فترة توهجه فيه، تلك الفترة التي يعيش علي عائدها حتي الآن. الأنكي أن »أدونيس« عندما ادَّعي أن »الأرض الجميلة والفريدة التي اسمها سوريا« قد ابتكرت للعرب أبجديتهم، فهو يضرب عرض الحائط بكافة الأبحاث اللغوية، التي افني مئات العلماء حياتهم في إنجازها، والتي تناولت نشأة العائلة اللغوية السامية، ومراحل تطورها، والتي تعد العربية آخر حلفائها، كما انه يعتبر لبنان ضمن »أرضه الجميلة المسماة سوريا« لأن الفينقيين ساهموا في نشأة الكتابة في منطقتهم، أي ساحل المتوسط مثلهم مثل سكان المتوسط أصحاب الحضارات القديمة كالمصريين، غير ان العائلة اللغوية السامية لها مسارها الخاص، و»أدونيس« في ظننا مازال يؤمن بمباديء حزبه القديم »الحزب القومي السوري« الذي لم يعترف يوماً بلبنان كبلد مستقل وبالتالي فهو يعتبر ابتكارات اللبنانيين هي ابتكارات سورية رغم أن الساحل اللبناني يختلف حضارياً وثقافياً عن بادية الشام التي تشكل معظم سوريا. الأمر الثاني - وهو ما نستبعده لسذاجته المفرطة - أن أهل الشام في العصور الاسلامية الأولي وخاصة في العصر الاموي، زعموا أن »أبا سفيان بن حرب« هو من جلب الأبجدية العربية من الشام إلي جزيرة العرب، وهو زعم انتشر إبان الحروب الدموية والفكرية بين رموز الاسلام الأوائل، رغم ايمان البعض به حتي الآن ونخشي أن يكون »أدونيس« أحدهم. ولابد في النهاية أن نذكر »أدونيس« لا »الأسد الولد« بأن عزوف الامريكيين عن التدخل في ليبيا أو اليمن أو سوريا له أسبابه لديهم، فهم لايخصون الفلسطينيين بالعداء دوناً عن الآخرين، ولكن لأن هذه البلدان مجرد »قبائل لها أعلام« و»أناشيد وطنية«، وان التدخل ضد حاكمها، يهدد بتفتتها، وهي تجربة عاشها الامريكيون وحلفاؤهم في العراق وافغانستان، ويبذلون كل جهودهم في عدم تكرارها حتي لو استمرت العائلات الدكتاتورية.- التي هي أقرب إلي تشكيلات عصابية - في حكمها، خاصة أن هناك ثوريين ومثقفين عربا يعتبرون زعماء هذه العصابات »سادة ورؤساء«.