فى حفل تأبينه نهال وهالة مع سعد وهبة وسعد أردش المجتمع الكبير في هذا العصر مريض بإنفلونزا حادة اسمها التمزق! وجراثيم هذا المرض الخبيث، قطعت مشوارها إلي صلب المجتمع، إثر »عطسة« مصوبة من أنف الحرب العالمية الثانية. ومن حسن حظ هذه الجراثيم، أنها وجدت أرضا خصبة، تنمو فيها وتتوالد.لقد استوطنت تربة بشرية أنهك التطور الآلي مناعتها ضد الفزع، والتوتر. وهتك التقدم العلمي حصانتها ضد المخاوف من مصير، هو رهن بسعلة ذرية في وجه هذا العالم! ومثلما تترك الإنفلونزا بصماتها في كل أعضاء الجسد المتداعي.. أصيب ضحايا هذا العصر برشح في أنانيتهم، وصداع في عواطفهم، وتفكك في أوصال علاقاتهم الإنسانية. وهكذا وجد كل منهم نفسه في عزلة انفرادية. لاينتمي لغير نفسه. ولاتشغله غير نفسه. ولايضنيه سوي أن يتصيد لمتاعبه »أسبرينة« تهبه الحياة، ولو كانت هذه »الأسبرينة« في فم واحد من إخوته الضحايا! هذا مرض العصر الحديث، بعد أن تفاقمت الأزمة الاقتصادية، فغرست أظافرها في جسد المجتمع الأكبر! من وحي هذه الكارثة.. وقف نعمان عاشور أمام سكان الطابق الثاني -بعد البدروم- في عمارة المجتمع المصري. ولعلها الوقفة الثالثة، بعد أن عبر عليه مرتين صعوداً وهبوطاً، خلال رحلته المسرحية فيما بين »الناس اللي تحت« و»الناس اللي فوق«. ولعله تسمر أمام سكان الطابق الثاني طيلة السنوات السبع، منذ أن نفض يديه عائداً من طابق »الناس اللي فوق«. فالرحلة التي بدأها نعمان عاشور تنقصها تكملة. والتكملة في مشوار خلف هذا الباب، الذي كتب عليه بذرات من الدقيق اسم: »عيلة الدوغري«. إنني أتصور »نعمان عاشور« وهو يطرق الباب بلا تردد. وأتصوره مرة أخري بشعبيته المفرطة، وهو يقتحم أبواب النماذج البشرية في »عيلة الدوغري« ليستقر في أعماقها حيناً طويلاً من التأمل، والتفرس، والدراسة لأفراد هذه الأسرة فبماذا خرج من رحلة الطابق الثاني في عمارة المجتمع المصري؟.
نحن نعرف أن الأمراض تتعامل مع المجتمع علي أساس طبقي! كل طبقة لها مرض خاص. الفقراء يمرضون بالبلهارسيا. والأغنياء مرضهم المفضل هو السكر. أما »عيلة الدوغري«- وهي نموذج لأسرة من الطبقة المتوسطة- فقد أصيبت بما هو أخطر من المرضين. »عيلة الدوغري« مصابة بالتمزق: مرض هذا العصر! كل واحد في »عيلة الدوغري« يعيش في عزلة انفرادية.. لاينتمي إلي غير نفسه.. ولاتشغله غير نفسه! الأنانية تجري في عروق كل فرد في الأسرة! مصطفي الدوغري: مدرس تاريخ، تخرج في الجامعة وله تطلعات طبقية، لايعبأ من أجل تحقيقها بأي مخلوق. إنه يريد أن يحصل علي الدكتوراه. ويريد أن ينفصل عن ابنة خاله الفقيرة، الجاهلة، التي لم تعد جديرة بمركزه العلمي، وطموحه، وتطلعاته، ويريد أن يبيع نصيبه في بيت العائلة، ليضيف العائد إلي رصيده من »تحويشة« سنوات عمله الماضية في »السعودية«، لكي يبني »فيللا« في مكان أنظف من »الحلمية«، موطنه وموطن أسرته. حسن الدوغري: الشقيق الأصغر. تعثرت به الدراسة عند »التوجيهية«. فاحترف لعبة »كرة القدم«. وارتبطت أنانيته بقدمه، التي يكسب بها »الأجوال« والفلوس والشهرة. سيد الدوغري: الشقيق الأكبر. إنه هو الآخر يعيش في خلوة تامة. لقد حمل عبء الأسرة بعد أن مات أبوه مؤسس الدولة الدوغروية. كان »سيد« ترزياً مشهوراً. ومن إيراد الصنعة، استطاع أن »يهلس«، وأن ينهض بأعباء الأسرة، وأن يفك رهن البيت. فإذا أفلس في النهاية، انزوي بنفسه »زاهداً« بصوم عن الطعام والكلام. عيشة الدوغري: الشقيقة الصغري، مدرسة التربية البدنية. إنها تميل إلي شقيقها »مصطفي« بحكم مركزه »العلمي، والمالي« في الأسرة. وتعرض عن »سيد«، و»حسن« لمجرد أنهما فقيران. زينب الدوغري: الشقيقة الكبري. جاهلة. مستبدة. متصابية. متباهية دوماً بأمجاد أبيها، الذي كان ثرياً يملك »مخبزاً«، وأشخاصاً يعملون لديه. إنها لاتمل اجترار هذه »الأمجاد« بلسان سليط حاد، يقهر زوجها -الموظف بالدرجة السادسة المخفضة -ويخضعه لأوامرها الصارمة. فضلاً عن حبها للتظاهر البالغ. ووسط هذه الدوائر الفردية من الأنانية.. يكتمل النسيج الممزق بأربع شخصيات أخري: شخصية »سامي« :الشاب الأديب الموظف. صاحب الأحلام المراهقة بالمجد والشهرة. إنه خطيب »عيشة الدوغري«. وهو عن طريق فلسفته، وأفكاره، يحاول أن يأخذ من التقاليد موقفاً »تطورياً« لكي يتزوج من »عيشة« ببلاش! في نفس الوقت ابن لرجل ثري بخيل، كان يعمل في خدمة والد »عيلة الدوغري«، ينفر من أبيه لبخله، وينكره أبوه بسبب ارتكابه »نزوة« الأدب. شخصية »كريمة«: زوجة »مصطفي« في الفصل الأول، وزوجة شقيقه »سيد« ابتداء من الفصل الثاني. إنها فتاة أمية، بلا أسرة، باكية دوماً، وفيها عنجهية ذليلة. طلقها »مصطفي« رغماً عنها، فتحنق عليه من أجل »الجنة الوارفة« التي طردها منها، حتي بعد أن حملت من أخيه »سيد«. شخصية »أحمد أفندي« :الموظف بالدرجة السادسة المخفضة. تحكمه زوجته »زينب«. إنه مسلوب الإرادة في البيت. ينفس عن هذه السلبية بالسيطرة علي مرءوسه في المصلحة : سامي. شخصية »أبوالرضا«: العجوز البخيل، المتكالب علي الثراء، بالتقتير علي نفسه، وابنه لقد كان »كاتباً« في مخبز »الدوغري« الكبير. ومن مرتبه الهزيل استطاع أن يثري، وأن يتقدم ذات يوم ليشتري من الورثة »بيت العائلة«. وخلف كل هؤلاء جميعاً.. شخصية طيبة، راضية، صلبة. إنها شخصية »علي الطواف«.. العجوز الذي حمل أفراد »عيلة الدوغري« علي كتفيه. ووزع أرغفة العيش علي الجائعين. وتثاقلت أعباء السنين علي كاهله. وظل طول عمره »حافياً« يحلم بحذاء، من دون أن يتحقق لقدميه هذا الحلم! إن شخصية »علي الطواف« هي الرمز والتعبير عن صمود الشعب المصري - قدرة، وإحساساً، ورضاً- بالرغم من كل هذه التوترات التي تمزق إنسان العصر الحديث، الشعب البسيط، المتسامح، الشجاع. هذا هو »علي الطواف«.. الطاقة التي تمنح الحب من دون ثمن. وتعطي عواطفها بلا مقابل. ثم - وفي خضم هذا الزحام القاتم الغارق في أنانية الأفراد، وتمزقهم، وتطلعاتهم الطبقية -يغفر لهم بصفاء أبيض هذا الإهمال، له، ولأحلامه الإنسانية البسيطة!!
هذه هي شخصيات »عيلة الدوغري«» مسرحية »نعمان عاشور« السابعة. ووراء هذه الشخصيات الممزقة.. مأساة اقتصادية .. مأساة المخبز الذي احترق. والمورد الذي نضب بوفاة الأب. والبيت الذي كان مرهوناً فأودي بكل رصيد الأخ الأكبر.. العائل. هذه هي الشخصيات الممزقة من واقع المأساة. إن تلخيص المكونات النفسية لكل شخصية هنا.. لايعطي صورة هذه الشخصية من الداخل مثلما رسمها نعمان عاشور. لكن يكفي أن نعرف أن »نعمان« استطاع ببراعة جديدة علي مسرحه تماماً، أن يقدم لك هذه الشخصيات في المساحة الفردية، التي يتحرك كل واحد داخل حدودها. واستطاع أن يرسم أبعاد كل شخصية بالألوان المطابقة لأعماقها وسلوكها، وتفكير كل منها. ولاتنتظر أن أحكي »حدوتة« هذه الأسرة. أعتقد أن »الحدوتة« هي آخر شيء فكر فيه الكاتب. إنه في هذه المسرحية -علي خلاف مسرحياته الست السابقة- لايطرق بك حكاية مباشرة من الواقع. وإنما يرتاد بك أعماق هذه الشخصيات إلي ما وراء الواقع نفسه. إلي النسيج النفسي الذي غزلته أصابع العصر الحديث. في وجدان طبقة من أهم طبقات المجتمع وأخطرها. إنه يضع أبطاله تحت أشعة طبيعية من المواقف، لتنضح نفسها بصورة للواقع النفسي، والاجتماعي، الذي يطحن قيمها، وأخلاقها، ووشائجها العاطفية، والروحية. ولعل النظرة العابرة إلي »نفسية« المسرحية، تضفي عليها غلالة من التشاؤم. لكن هذه الغلالة تتمزق تماماً، إذا تأملنا هذه »البذور« العاطفية، الكامنة في أعماق الأسرة »الدوغروية«. ومن خضرة هذه البذور يتضح ذكاء الكاتب في رسم شخصياته، وتركيب حوارها، وفهمه العميق لمعطيات الشحنة العاطفية في ومضة حوارية مشتعلة. إن الأسرة لم تفقد تعاطفها تماماً. تلمس ذلك في شخصية مصطفي - التي لولا إجادة رسمها لتحولت إلي نمط شرير- وهو في قمة غضبه حين يقول لأخويه »سيد« و»حسن« مامعناه: - أنا معاكم بقلبي. أختك دي مش ح تتجوز؟ مين ح يصرف عليها إذا ماكانتش تبيع نصيبها في الميراث؟! ونلمح هذه الشحنة نفسها.. حين يعرف »سيد« مثلاً- أن طعام الفطور الذي يريد أن يأكله، إنما هو معد لأخيه مصطفي، فيتركه له راضياً. وفي سياق المسرحية ومضات من هذه الشحنات المضيئة نلمحها في شخصية زينب، وعيشة، وحسن، ومصطفي ، وسيد. ولعل هذا العمق في فهم الشخصيات، واستكشاف منابع الضوء فيها بالرغم من دهاليزها المعتمة - إلي جانب تخلص الكاتب من تكرار نفسه، والبعد عن الإسهاب والاستطراد - لعل هذا كله يضع تحت قدمي نعمان عاشور أرضاً جديدة في مرحلة التكنيك المسرحي، لا علاقة بينها وبين مسرحياته القديمة. ولقد ترجم المخرج عبدالرحيم الزرقاني النص- علي خشبة المسرح -بأمانة، وصدق، وشاعرية. ترجمه إلي حركة، وإيقاع، وأضواء، وظلال موحية.. وفيها مذاق الواقع، ومذاق الحياة.