لا مفر من محاولة لم شتات النفس المشعثة حزنا وألما لفراق الصديق العزيز نعمان عاشور، وكأن دموع الروح والعين التي انسكبت غزيرة عليه طوع الإرادة تستجيب لرغبتنا.. ومع ذلك فلا مفر، لكي نستطيع القيام بأبسط واجب نحوه بالتعريف بدوره الرائد في خدمة مسرحنا وثقافتنا.. وهو ما تعودنا أن نقوم به عادة نحو من هم أقل شأنا منه، ولم تربطنا به، خاصة خلال السنوات الأخيرة. »كان« نعمان عاشور، ألا ما أبغض استخدام هذا الفعل الماضي الناقص معه، وهو الذي ظل حتي الأمس يفيض حيوية وعطاء حتي لا يكاد الفعل المضارع الكامل يكفي للحديث عنه.. أقول كان نعمان كاتبا كبيرا لأنه كان إنسانا كبيرا.. وهو ما لم يتح لي أن ألمسه عن قرب إلا حينما سمحت لنا الظروف بأن نقيم معا أسبوعا كاملا في فندق واحد بالكويت عام 9791 أثناء انعقاد مؤتمر مسرحي عربي.. أما قبل ذلك فقد كانت علاقتنا سطحية وعابرة، بل لم تخل من مناقشات حادة وعنيفة شفوية ومنشورة شأن علاقاته بغالبية النقاد الذين كان يختلف معهم كثيرا.. كان أكثر ما هزني في سلوك »نعمان« خلال ذلك الأسبوع الذي قضيناه معا في الكويت الحنان البالغ الذي كان يفيضه علي ولده الوحيد »سعد«، وكان وقتها يعمل هناك، فلازمنا معظم الوقت.. ونعمان كالطير المفزع بضم طيره الصغير إلي صدره حينا، ويبعده حينا آخر ويرفرف حوله بجناحيه، لكي يطمئن إلي أنه يجيد التحليق- في الغربة- وحده.. من يومها اتخذت علاقتنا شكلا آخر.. وحين علم أني ألتقي مرة كل أسبوع ببعض الأصدقاء والزملاء من الأدباء والنقاد بمقهي »سوق الحميدية« حرص علي الحضور والمشاركة في المناقشات الدائرة كلما سمحت ظروفه بذلك.. وكان يجد متعة خاصة وفرحة طفولية في مداعبة النقاد منهم وتأجيج ما ينشب بينهم من خلافات.. وما أكثرها. وازداد تقديري له حين لمست حزنه العميق الصادق حينما توفيت زوجته ورفيقة عمره منذ سنوات، ووفاءه العظيم لذكراها حتي آخر لحظة في حياته.. لعل خير ما يصوره هذه الكلمات الصادقة التي أهدي بها أحد كتبه الأخيرة إليها.. »هذا جزء من رحلة العمر في حياتي المسرحية أهديه إلي روحك الطاهرة وقد كنت شريكة حياتي كلها.. »كنت أغلي ما في العمر.. »وأجمل ما في العمر.. »وأبقي ما في العمر.. »أنا أعلم اعتزازك بما كنت أهديه إليك من كتاباتي. »ياليتك تعلمين مدي اعتزازي بما أهديته لي من ذكريات.. »كلها عطاء.. »وكلها هناء.. »وكلها سعادة.. »وكلها من فيض حبك الذي لا ينطفئ أبدا في قلبي«.. هذا الحب العميق الصادق الذي لمسته في »نعمان« نحو ابنه وزوجته وأسرته كلها، لم يكن سوي النواة الصلبة التي ارتكز عليها حب أكبر وأشمل لبلاده وأهلها.. بل للإنسانية كلها، من الممكن أن نلمس آثاره في كتاباته ومسرحياته، فهو إحدي سمات فنه الأساسية. وأعتقد أن هذا التقارب مع نعمان عاشور الذي أكرمني الله به خلال السنوات الأخيرة قد زادني فهما لمسرحياته وكتاباته، وهو ما يفرض علي مسئولية صياغة هذا الفهم في دراسة وافية عنه، أرجو أن يتسع العمر والجهد لإنجازها. ولد نعمان عاشور في 72 يناير سنة 8191 بمدينة »ميت غمر« التي تجمع- علي حد وصفه لها- بين »الصفة الحضارية كمدينة تجارية والصفة الريفية التي تكتسبها مما يحيطها من القري والكفور والنجوع«.. هذه السمة الأساسية التي تميزت بها »ميت غمر« تحققت أيضا في المقومات الوراثية التي انتقلت إليه عن أمه وأبيه: »فإذا انتقلنا من البيئة إلي الوراثة وجدتني وقد جمعت بين نقيضين.. فأمي ريفية من بنات القري ولكنها من عائلة إقطاعية المنبت، وأبي سليل عائلة مدنية خالصة من عائلات الطبقة الوسطي«.. وقد أثر هذا الميراث المتناقض علي شخصية »نعمان«، بين طيبة أهل الريف وتلقائيتهم وحذرهم الشديد، وانفتاح أهل المدن وانطلاقهم وميلهم للمرح والتندر، وإن كان تأثره بشخصية أبيه أكبر فهو يقول عنه: ».. كان أكثر من أثر علي حياتي في بدايتها.. ذلك أنه ورث الكثير من الميول الفنية لعائلة أمه، ولم يأخذ من عائلة والده شيئا إلا ما خلفه من ثروة أو مال«.. وكتابه »المسرح حياتي« حافل بذكريات طفولته وصباه وأثرها في تكوينه النفسي وثقافته المبكرة حتي حصوله علي الكفاءة من مدرسة ميت غمر الثانوية، وقدومه إلي القاهرة، حيث أتم دراسته الثانوية والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وتخرج فيه سنة 2491. وتعمق »نعمان« أثناء دراسته الجامعية- بحكم تخصصه- في دراسة المسرح الإنجليزي، وشكسبير وشو بصفة أخص، وهام بعد ذلك بأبسن وتشيخوف فقرأهما بنهم. وخلال تلك السنوات كانت القاهرة تموج بالأنشطة الثقافية والسياسية، فاندمج »نعمان« فيها، وشارك في العديد من تجمعات المثقفين وتنظيماتهم، خرج منها بإيمان عميق بالاشتراكية العلمية لم يتخل عنه بعد ذلك أبدا، ومن السهل تتبع تأثيراته الواضحة في مسرحياته وغالبية كتاباته.. ولكي لا يبتعد عن الحياة الثقافية الزاخرة في القاهرة التحق بوظيفة ببنك التسليف الزراعي، وبدأت تظهر كتاباته في بعض الصحف والمجلات اليسارية، من أبرزها مجلة »الفجر الجديد« التي كان يصدرها المرحوم أحمد رشدي صالح، فقبض عليه سنة 5491. ولم يزده السجن سوي إصرار علي المضي في الطريق الذي اختاره لنفسه، وآمن بأنه أصلح طريق لتحرير بلاده من ربقة الاستعمار والتخلف، فأقبل علي القراءات السياسية ودراسة تاريخ مصر بتعمق، ظهرت آثاره في مقالاته العديدة عن أبطال النضال من أجل تحريرها.. النديم، ورفاعة الطهطاوي، والسيد درويش.. وغيرهم.. قبض علي »نعمان« مرة أخري سنة 6491 في »قضية الشيوعية الكبري« التي لفقها إسماعيل صدقي للقبض علي المفكرين والكتاب الأحرار وإغلاق مجلاتهم الثورية تمهيدا لتمرير معاهدة »صدقي- بيفن« التي قاومها الشعب وأسقط حكومة صدقي.. وحين أفرج عنه بعد شهر اندمج في العمل السياسي أكثر، فانضم إلي »لجنة الطلبة العمال« الشهيرة، وأشرف علي إصدار مجلتها السرية، وشارك في كتابة تحليلاتها السياسية. فلما انتكست انتفاضة عام 6491 لم يجد ما ينفس فيه عن طاقاته الجياشة سوي الأدب والثقافة.. فأخذ يؤلف القصة القصيرة. ويترجم، ويلخص الكتب، ويعرف بكبار الأدباء العالميين، ويكتب التمثيلية الإذاعية والبرامج الخاصة. وفي سنة 9491 اشترك مع المرحوم محمد مفيد الشوباشي، وعلي الراعي، وأحمد عباس صالح، ومحمود محمد شعبان، وأنور فتح الله، في إصدار مجلة »الأديب المصري«، وفيها اكتشف ميله الطبيعي للمسرح، فحينما توفي نجيب الريحاني نشر في المجلة دراسة عن مسرحه وتطور مواقفه الاجتماعية، ووضح فيها حبه له وتأثره بفنه. ونتيجة لمعايشته الحميمة للطبقات الشعبية في حواري الجيزة وعطفات السيدة زينب وعابدين وتسجيله لتصرفات أبنائها وأخلاقهم وعاداتهم وأساليب تعبيرهم في بعض قصصه القصيرة.. اندفع سنة 0591 في تأليف مسرحيته الأولي »المغماطيس«. وبعد عشر سنوات من عمله في بنك التسليف الزراعي ضاق بوظيفته الروتينية فيه فتركه والتحق بوظيفة باحث اجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية، فلما قامت ثورة يوليو اختارت المحامي المعروف زهير جرانة وزيرا للشئون الاجتماعية، وكان يعرف »نعمان« ويتابع كتاباته، فعهد إليه بتكوين مكتب صحفي تابع للوزير والإشراف عليه. وقتذاك كانت الفرقة القومية تابعة لوزارة الشئون، فكان الإشراف عليها من بين المهام التي عهد بها إلي »نعمان«، وهكذا اتصلت أسبابه بالفن الذي تعلقت به آماله، وتوثقت صلته بكثير من أعضاء الفرقة من خريجي معهد التمثيل، ولعله عرض علي بعضهم مخطوطة مسرحيته الأولي، فشجعوه علي تقديمها للمرحوم دريني خشبة، وكان وقتها يشرف علي »فرقة المسرح الحديث« التي كونها زكي طليمات سنة 0591 من خريجي المعهد، ثم تنكروا له بعد قيام الثورة، وتسببوا في إقصائه عنها. وقرأ دريني خشبة مسرحية »المغماطيس« وأثني علي تدفق حوارها، ولكنه اعتذر عن عدم قبولها. وكان بعض خريجي معهد التمثيل قد اجتمعوا معا وكونوا بجهودهم الذاتية فرقة »المسرح الحر« بعد قيام الثورة بشهرين، ونجحوا في تقديم عدة مسرحيات قوبلت بالترحيب لجديتها وارتفاع مستواها الفني، فقدم »نعمان« مسرحيته أليهم. وتحمس بعض أعضاء »المسرح الحر« للمغماطيس، وخاصة الفنان إبراهيم سكر الذي قام بإخراجها في صيف 5591. وبنجاحها بدأت مسيرة »نعمان« الصاعدة، وخاصة بعد نجاح مسرحيته الثانية الشهيرة »الناس اللي تحت«، وقد أخرجها كمال ياسين لنفس الفرقة في العام التالي. ويحدد نعمان عاشور أهم خصائص مسرحه فيقول: »من مواصفات المسرح الذي أكتبه.. فوق طابعه الاجتماعي الخالص، والذي يجنح إلي الواقعية اللاصقة، أنني أقيم دعائمه علي عنصرين رئيسيين: »أولهما: الارتباط الموضوعي الدائب بالتطور الاجتماعي لحياة البيئة المحلية.. وبالتالي فإني أسجل إطارها المرحلي محاولا أن أستشف ما وراء حقائقها الموضوعية.. وفي نفس الوقت تفاعل وصراعات وامتدادات أحداثها مدفوعا بنظرة مستقبلية دائما. »وثانيهما: رسم الشخصيات المستمدة من البيئة في تلاحمها مع التطور الحادث.. وتفاعلها بكيانها »الذاتي والاجتماعي« أي فرديتها الإنسانية والنفسية ووضعها الطبقي.. مع واقع الحياة المحلية.. في الإطار الشامل للعصر الذي نعيشه.. مع التركيز المتلاحق علي قيمة الشخصية وأهمية الدور الذي تلعبه في خدمة المستقبل«. وعندما تولي المفكر الكبير فتحي رضوان وزارة الإرشاد وأنشأ بها مصلحة الفنون سنة 5591 برئاسة أديبنا الكبير يحيي حقي، وجمع فيها أكبر عدد ممكن من أدباء مصر وفنانيها من أمثال عبدالرحمن صدقي ونجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير، انضم »نعمان« إليهم، ثم نقل إلي الرقابة علي المصنفات الفنية، إلي أن ضمه عبدالمنعم الصاوي إلي المكتب الفني الذي أنشأه للوزارة بعد أن أصبحت وزارة للثقافة في عهد د. ثروت عكاشة. وقد زاملته في هذا المكتب الفني حوالي عام إلي أن فصل بسبب ميوله التقدمية سنة 8591 وكان ممن فصلوا من وزارة الثقافة لنفس السبب الفنان الكبير حمدي غيث. بعد ذلك وجد »نعمان« متسعا لمواهبه في الصحافة، فعين بجريدة »الجمهورية« حتي سنة 4691، ثم نقل مع من نقل إلي المؤسسات العامة، فسارع المسئولون عن »أخبار اليوم« إلي اقتناص موهبته الخصبة، وظل يكتب بها بانتظام، ونشر مقاله الأخير قبل وفاته بيوم واحد. وأثناء العدوان الثلاثي سنة 6591 قدم نعمان للمسرح القومي مسرحيته الوطنية »عفاريت الجبانة«، فأخرجها نبيل الألفي وفي العام التالي أخرج له سعيد أبوبكر مسرحيته »الناس اللي فوق« التي يعتبرها أنضج مسرحياته وأحبها إلي قلبه. وتتابعت بعد ذلك مسرحياته العديدة الناجحة التي أربت علي العشرين، وكان آخرها »حملة تفوت ولا شعب يموت« التي لم يتح له أن يراها مجسدة علي خشبة المسرح، ومن أهم هذه المسرحيات »عيلة الدغري« 2691 و»برج المدابغ«- 6791، »إثر حادث أليم«- 5891 التي قدمت باسم »مولد وصاحبه غايب«، كما ألف مسرحيتين لمسرح العرائس. وبذلك أصبح عنصرا أساسيا في نسيج المسرح المصري، وعاملا هاما من عوامل تطوره وتقدمه ، ورائد اتجاه خصب فيه، يمكن أن نطلق عليه اسم »الواقعية الجديدة« لنميزه عن الكتاب الواقعيين السابقين عليه. أن هذا المقال ليس أكثر من إلمامة سريعة بحياة فقيد المسرح المصري وأهم إنجازاته، التي تتطلب جهدا أكبر بكثير للإحاطة بها، لعلنا نقوي علي بدله ذات يوم قريب.. وإلي أن يتحقق ذلك لا نملك إلا أن ندعو الله أن يرحمه بقدر ما خدم بلاده وفنها، ويلهمنا الصبر علي حرماننا منه، ويعوض المسرح المصري عن خسارته الفادحة بفقده.