نعمان ونهال علي الرغم من أنني زاملت الكاتب الكبير الراحل نعمان عاشور في دار"أخبار اليوم" علي امتداد أحد عشر عاما من 1976 حتي 1987، فإنني لم أستطع أن أقترب منه كما اقتربت من أعز أصدقائه رشدي صالح، الذي أتي بي من الفصل الدراسي إلي هذه الدار لأول مرة في حياتي. فقد كنت دائما أنظر إليه بوصفه الأستاذ الذي يجب ألا أتعامل معه إلا من خلال نصه، وأقول نصه المسرحي، وليس عموده الصحفي، أو حتي قصصه التي كانت تفرد لها صفحات "أخبار اليوم" بالكامل، وتصاحبها لوحات فنان كبير مثل مصطفي حسين، والتي ننشر اليوم إحداها: "سباق مع الصاروخ". عندما التحقت في عام 1972 بأكاديمية الفنون لدراسة الأدب المسرحي والنقد تعرفت إلي قامة سامقة وطراز فريد من كتاب المسرح المصري الذين منحوه بصمته بعد أن عاش طويلا عالة علي الاقتباس والتمصير من نصوص غربية، فجاء نعمان عاشور ليقوم بهذه الثورة علي السائد في المسرح المصري وهو يكتب "الناس اللي تحت"، و"الناس اللي فوق"، و"المغماطيس"، و"عيلة الدوغري" التي لا يمكن للذاكرة أن تنسي أداء الفنان الكبير شفيق نور الدين لدور "الطواف" فيها، وبراعته في التعبير عن البؤس الذي كان يرزح تحته الإنسان المصري. وظلت دروس أستاذي الناقد الراحل جلال العشري حول مسرح نعمان عاشور بواقعيته وتصويره لمصر ومعاناة أبنائها، حاجزا يحول دون اقترابي من هذا الفنان الكبير الذي قدر لي أن أتزامل معه في هذه الدار العريقة طوال سني عمره الأخيرة. لذا فإن فكرة تخصيص عدد بأكمله من "أخبار الأدب" لاستعادة نعمان عاشور بعد أن كاد يٌنسي تماما، لم تستغرق إلا أياما في خروجها إلي النور، خطا عيد عبد الحليم خطواتها الأولي، ثم تركنا لنكمل المشوار مع الصديق أسامة عرابي الذي يكتنز ذكريات حميمة مع أستاذي نعمان عاشور الذي كان يلتقيه أسبوعيا مساء كل أحد في مقهي "سوق الحميدية" بميدان باب اللوق.. مجلس أستاذنا الناقد الكبير فؤاد دوارة الذي كان من أشد الحريصين علي حضوره: فاروق عبد القادر، وأحمد محمد عطية، وهارفي أسعد المحامي، ومصطفي أبو النصر، الذي كان أيضا من أصفياء نجيب محفوظ. وما إن علم صديقنا الفنان الكبير محمد الطراوي بأننا بصدد الاحتفاء بنعمان عاشور حتي بادر بإهدائنا هذا الغلاف البديع، الذي يعكس رؤيته لنعمان بعد نحو ربع قرن من الغياب. ولم يكتفِ الطراوي بهديته الثمينة ل"أخبار الأدب" بل راح يبحث بين معارفه عمن يوصلنا بسعد الدين الابن الأكبر لنعمان عاشور، وقد عثر عليه في الُخبر بالسعودية حيث يعمل منذ سنوات مسئولا في شركة أوتس للمصاعد الكهربائية، فعرفني إليه. ومن بعيد أهداني سعد المفاتيح فزرت بيت والده في المعادي الذي آل إليه، والتقيت بشقيقته الدكتورة نهال، طبيبة الأسنان بمستشفي منشية البكري، فاكتشفت أنها لا تزال تعيش بوجدانها كله مع نعمان عاشور في منازل الخطوة الأولي، وقد أخذت تطلعني علي تفاصيل صغيرة وحميمة جدا مع والدها يمكن لمن يعرفها أن يفهم نفسية نعمان عاشور، ويعرف كيف كان يفكر. وتستدعي نهال ذكرياتها معه: "كان والدي، رحمة الله عليه، يجلس إلي مكتبه ليكتب حتي الصباح، وكنا نفيق لنجده لا يزال جالسًا إلي مكتبه يواصل عمله. وكان معتادا كلما انتهي من عمل أن يجمعنا ليقرأ علينا ما كتب ويستمع إلي تعليقنا، فقد كان يعتبرنا قارئه الأول ولا سيما والدتنا". وعن طقوسه وهو يتأهب لدخول محرابه تقول: غالبا ما كان يحلق ذقنه، ثم يرتدي ملابس غير التي كان يجلس بها معنا، ويتطيب بعطور هو الذي يصنعها بنفسه. وبعد ذلك يتجه إلي مكتبه ويجلس إليه، ويطلب فنجان قهوته، وهنا يشرع في الكتابة. وقد كان حريصا علي أن يظل إلي يساره كوب مشروب ساخن لا يفرغ أبدا. وفي ليالي الصيف كان يستمتع وهو يجمعنا حوله لنشاركه الاستمتاع بصوت فيروز أو موسيقي موتزارت أو تشيكوفسكي أو رحمانينوف المنبعثة من جهاز "الريكوردر ذي البكرات"، وفي تلك الأجواء كان يروي لنا ذكريات الصبا والشباب بين ميت غمر وزفتي والإسكندرية والقاهرة. وكانت من أهم ذكريات الطفولة ما يرويه عن حضور الفنانة عقيلة راتب مع الفرقة المسرحية إلي ميت غمر واستضافتها من قبل أسرته في "بيت العيلة". وبصفته الابن الأكبر فقد كان والده دائما ما يصطحبه في رحلاته إلي القاهرة، والتي كان من أهم طقوسها زيارة شارع عماد الدين لدخول أحد مسارحه والاستمتاع بعرض مسرحي. وفي مختلف مراحل عمرنا كنا نعتقد أن والدتنا هي المسئولة كليّا عن إدارة شئوننا وأمور البيت واتخاذ القرارات، ولكننا اكتشفنا بعد وفاتها أنه كان العقل المدبر لهذه القرارات، وإن كان ظاهرياً يبدو أن القرار كان لوالدتنا. وقد كان والدي يعشق البستنة.. وأسعد أوقاته تلك التي يقضيها في حديقة بيتنا بالمعادي معتنيا بالورود والزهور والأشجار، وعندما كنا نسأله: يا بابا.. لماذا ترهق نفسك بهذه الأعمال البدنية؟ كان رده: بها أستعيد صفاء ذهني وتوازني النفسي. وكان ارتباطه النفسي والعاطفي بوالدتي شديدا، فهي صاحبة الأثر الأكبر في حياته، فضلا عن أنها سنده اليومي في مواجهة كل ما يتعرض له من أزمات. ومع ألبوم الذكريات الذي يسجل أهم اللحظات في حياة شيخي نعمان عاشور أتابع باقي فصول روايته وأكتشف كيف كان هذا الرجل المنشغل بإبداعه طوال الوقت يعرف كيف يؤدب أبناءه ويزرع فيهم عشق الإبداع حتي إن هالة ابنته الصغري استطاعت أن تستأنف مشواره فتكتب للتليفزيون الجزء الثاني من "عيلة الدوغري" وتواصل علي صفحات "أخبار اليوم" كتابة عموده الشهير "جولة الفكر" قبل أن تبدع أعمالها الخاصة. وكيف كانت زوجته السيدة هدي تعي تماما الدور الذي يجب أن تلعبه كزوجة مبدع كبير، وتولي حجرة مكتبه التي دفع فيها أكبر مبلغ يمكن أن يُدفع في غرفة، اهتماما خاصا، سواء في أول بيت سكناه في شارع الجامعة، أو في ثاني بيت في شارع مراد بالجيزة وهو البيت الذي كانت تمتلكه أسرة زوج التليفزيونية الشهيرة سلوي حجازي، أو بيت مدينة نصر المقابل لعمر أفندي الذي بناه عمه أحمد عاشور، أو بيت المعادي. إننا نهدي اليوم إلي قراء "أخبار الأدب" هذا العدد الذي نسعي من خلاله إلي استعادة مبدع كبير متنوع النتاج الأدبي، لكي يعيد شبابنا التعرف إليه. وهنا أطلب من الناقد الدكتور أحمد مجاهد، الرئيس الجديد لمجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، تفعيل العقد المبرم قبل نحو ثلاث سنوات بين الهيئة وأسرة نعمان عاشور لإتاحة مؤلفاته في طبعة جديدة