- أستاذ فاروق... هل تتوقع أن ينجح مشروع التوريث؟ - لا أظن يا ناصر... فأنا أثق في قدرات الشعب المصري. سينتفض يوماً، وسيواجه أولئك الذين... - ولكن يا أستاذ... لقد أنهكوا المصريين الآن في البحث عن لقمة العيش، لدرجة أن... - معك تماماً، لكن الأوباش الذين يحكموننا حالياً لا يدركون عبقرية هذا الشعب، صحيح أنهم أهانوه وأذلوه، لكن قراءتي لتاريخ وكفاح المصريين تؤكد لي أن الثورة قادمة لا محالة لتزيح كل هذا الهراء الذي لوث حياتنا. هذا نص الحوار الذي دار بيني وبين ناقدنا الكبير الراحل فاروق عبد القادر ونحن نتجول في شوارع القاهرة مساء الأحد الأول من مارس سنة 2009. وأشهد أنه كان المثقف المصري الوحيد الذي أكد لي أن مشروع التوريث لن يري النور، وأن جمال مبارك لن يحكم مصر خلفاً لوالده، علماً بأنني كنت أتوجه بسؤالي عن مستقبل التوريث إلي كبار مبدعينا ومثقفينا، فكان الجميع يؤكد لي بأسي أن التوريث قادم. وأنه لا أمل في مقاومته، وأن الشعب المصري استمرأ الاستكانة بعد أن فتتوا أعصابه، وأن كلامي عن الثورة مجرد أضغاث أحلام! ولما كنت أسألهم: هل ستقبل المؤسسة العسكرية العريقة أن يهبط عليها رجل محروم من الكفاءة ليخطف السلطة لا لشيء إلا انه ابن الرئيس؟ كان كتابنا الكبار يقولون لي: (انس الجيش.. فقد تم تدجينه)! بصحبة محمود درويش الصدفة السعيدة وحدها جمعتني بفاروق عبد القادر ومحمود درويش في وقت واحد ليدور بيننا حوار مدهش استمر نحو خمسين دقيقة. والحكاية بدأت في فندق البستان بدبي علي هامش الاحتفال بتوزيع جائزة العويس لعام 2004. آنذاك كنت أجلس مع الناقد الكبير في بهو الفندق في حدود الساعة السادسة مساءً، وكان الحديث بيننا يدور كالعادة حول الأدب والفن والسياسة، وفجأة لاح لنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي اقترب منا وصافح فاروق عبد القادر بحرارة. كنت أعرف أنهما أصدقاء منذ زمن بعيد، فقد حكي لي صاحب (ازدهار وسقوط المسرح المصري) عن أن علاقته بدرويش تعود إلي سنة 1970، وقد لاحظت أن درويش لا يتوجه بالحديث إلي فاروق عبد القادر إلا مسبوقاً بلقب أستاذ، في الوقت الذي كان ناقدنا المتفرد يناديه باسمه الأول هكذا: (اسمع يا محمود). في هذا الحوار النادر تحول فاروق عبد القادر إلي صحفي بارع يشاركني توجيه الأسئلة إلي محمود درويش، وهكذا أجاب درويش عن علاقته بالمرأة والدين والله والخمر والشعر... إلخ. الطريف أن الشاعر والناقد اختلفا في هذا اللقاء حول صيغة المبالغة الأقوي لوصف الإنسان الكاذب، حيث اختار فاروق كلمة (أكذوبان)، علي وزن (ألعبان) باعتبارها تؤدي الغرض علي أكمل وجه، في حين أصر درويش علي أن مفردة (كذوب) أقوي وأكثر تعبيراً! المثير أن محمود درويش طلب مني قبل أن يتركنا وينصرف ألا أنشر شيئاً من هذا اللقاء الذي تم دون سابق ترتيب أو إنذار، فلما بدا التعجب علي وجهي همس في أذني صاحب (أوراق الرماد والجمر) قائلاً: (لا تندهش... سيأتي يوم وتنشره). ثم أضاف فاروق بمحبة حقيقية: (اذهب إلي البيت سريعاً وسجل وقائع هذا اللقاء قبل أن يذوب في بئر الذاكرة). وبالفعل نشرت الحوار كاملاً في العدد الخاص الذي أصدرناه من دبي الثقافية من فور رحيل درويش في سبتمبر 2008. الرواية والزواج لم يبخل فاروق عبد القادر عليّ بشيء، فقد تعلمت من كتاباته الكثير، كما أن افتتاني بمهاراته النقدية ظل متقداً ومشتعلاً علي الدوام. وفي إحدي المرات هاتفته لأبدي له إعجابي بمقاله الذي نشر في ذلك اليوم، حيث قلت له: (سلمت يمينك يا أستاذ فاروق). فأجابني من فوره: (لا يا ناصر... بل قل: سلمت يداي). ثم استطرد الرجل الذي ظلمته أنظمة الحكم في مصر بامتداد أربعين عاماً: (هيا... اشجيني... ماذا أعجبك تحديداً في المقال؟). أذكر أنني كنت أجلس إليه في الكافيتريا التي كان يرتادها في وسط البلد في الفترة التي أفرط فيها في تناول الشراب. كنت أحزن كثيراً لأن اليأس تملك منه هكذا، وكنت أخشي إن تركته في هذا المكان أن يتعرض لمكروه وهو في هذه الحالة غير الطبيعية. وهكذا وجدتني أحاوره حول قضايا الأدب وذكرياته مع نجوم الفن والكتابة، ثم وقف فجأة ليهتف: (أفكر جدياً في كتابة رواية). أذهلني هذا التصريح وفرحت له كثيراً وأنا أسأله: تري ما موضوعها يا أستاذ؟ فكانت إجابته كالتالي: (سأكتب عن التحولات التي أصابت (منية السيرج)، فهي القرية التي ولدت فيها، ثم صارت حياً صاخباً من أشهر أحياء شبرا). كان الحديث عن الزواج وهل هو ضروري للمبدع أم أنه يعرقل نشاطه وحيويته يستحوذ أحياناً علي جلساتنا؟ ولأنه لم يتزوج قط، فقد نصحني أن أقدم علي إنجاز هذا المشروع. كان ذلك في مقهي في شارع شبرا والوقت يقترب من الثالثة صباحاً في يوم من أيام شهر فبراير سنة 1997. لكن المفارقة المذهلة أنه قال لنا مرة ونحن نلتف حوله في الكافيتريا إياها: (سأفاجئكم يا أولاد الأفاعي... وأتزوج)! وهو ما لم يحدث قط حسب علمي! عاشق عبد الحليم الجسارة التي كان يتمتع بها صاحب (نفق معتم ومصابيح قليلة) لم يحظ بها ناقد مصري من قبل، فمن المعروف أن فاروق عبد القادر لم يكن يتورع عن أن يسدد رصاصات نقده إلي أي عمل أدبي لا يعجبه مهما كانت المكانة أو المنصب الذي يشغله مؤلف هذا العمل. وكم من المعارك التي خاضها الرجل ضد كل ما هو ضحل ورديء وقبيح في عالمنا الثقافي من وجهة نظره، بغض النظر عن الشهرة أو المجد أو الجوائز التي حققها العمل أو صاحبه. لكن ما كان يدهشني حقاً هو إعجابه الشديد بعبد الحليم حافظ، فلما كنت أسأله عن المطربين الذين ينصت إليهم ويستمتع بأغنياتهم، كان يشير من فوره إلي عبد الحليم وفيروز! وحين أسأله عن أم كلثوم وعبد الوهاب لم يكن يبدي أي حماس نحوهما، لكنه كان يذكرني بما كتبه في مجلة الطليعة عند رحيل أم كلثوم سنة 1975، حيث أشاد بها في مقال طويل تحت عنوان (القاعدة والاستثناء). هذا الإعجاب بعبد الحليم كنت أعده تعبيراً عن ذائقة غنائية وموسيقية متواضعة، فالعندليب الأسمر كان محدود الإمكانات، وأغنياته لا تخاطب سوي وجدان الشباب الصغير علي الرغم من شهرته المدوية، بعكس أم كلثوم وعبد الوهاب اللذين يجسدان قمة الغناء والموسيقي من وجهة نظر كبار المبدعين وكبار السن أيضاً. فكيف لم يتفاعل مع غنائهما وينفعل بأدائهما ناقد حصيف بقامة وموهبة فاروق عبد القادر؟!! عندما رحل فاروق عبد القادر في 22 إبريل 2010 (هو من مواليد 24/1/1938) أدركت حجم الخسارة التي لحقت بمدرسة النقد الأدبي الجاد والجميل، نعم... النقد الجميل، فالرجل كان بارعاً في تحليل وتمحيص النصوص التي يتناولها بلغة عربية بالغة الرقة والرهافة، خالية من الجهامة التي تصاحب كتابات بعض الأكاديميين. كما أيقنت كذلك حجم الخسارة الشخصية التي اعترتني، فالناقد الكبير كان صديقي منذ تعرفت إليه عن قرب سنة 1995، وقد تعلمت منه الكثير والكثير، فقد وقف بجواري، علي سبيل المثال، حين طلبت منه أن يكتب بانتظام في دبي الثقافية عندما كنت مديراً لتحريرها. وأشهد أنه ظل يوافيني بمقالاته الجميلة التي يضعها بخط صغير ودقيق علي ورق كبير مسطر. لذا حين انتفض المصريون وأشعلوا ثورتهم العظيمة في 25 يناير الماضي تذكرت بأسي شفيف، وأنا أهتف مع الهاتفين وسط الحشود في ميدان التحرير، الناقد الكبير فاروق عبد القادر الذي حرمته المقادير من رؤية حلم حياته الذي ظل ينتظره طوال عمره مؤكداً لي: إن الثورة قادمة لا ريب فيها. ويا أستاذ فاروق... كم أوحشتني!