تابعت الجدل الذي دار علي صفحات (أخبار الأدب) في العددين الأخيرين حول القضية التي أثرتها حينما تناولت تلك المفارقات المؤسية بين ما يحدث في الغرب الذي يتكشف فيه كل يوم، للعامة والخاصة علي السواء، الوجه القبيح للعدو الصهيوني، وما يحدث عندنا حيث يوفر له بعض من يسمون بأساتذة الجغرافيا ما لم يحلم به من غطاء سياسي لأساطيره التي تذرع بها لاحتلال أرض فلسطين وتأسيس مشروعه الاستعماري الاستيطاني فيها. تابعت هذا الجدل باستغراب شديد، لأنه يكشف عن مدي الانحطاط والتدهور الذي بلغ بها حالنا، وحال التعليم الجامعي عندنا، وقد بلغ حضيضا غير مسبوق، منذ تأسيس أول جامعة مصرية قبل أكثر من قرن من الزمان. فالمصادرات التي تنطوي عليها كل دفوع أساتذة الجغرافيا وهم يدافعون عن جرائمهم في حق فلسطين، وفي حق الوطن العربي، ليست متهافته فحسب، ولكنها متخلفة، ولا علاقة لها بأبسط أسس التفكير العلمي، وقيم التعليم الجامعي. فهم يتحدثون عن الكتاب «المقرر»، وهو أمر مقبول في التعليم الابتدائي أو الثانوي، ولكنه مستهجن إلي أقصي حد في التعليم الجامعي. بل إن هناك اعترافا بأنه لاتثريب علي مدرسة ليس لها كتاب تقرره علي طلابها، إذا ما قررت عليهم كتاب زوجها الذي لايخجل وهو يبرر لها الأمر، ويمدح نفسه فوق البيعة. وهذا لو تعلمون تدليس وفساد واسترزاق علي حساب الطلاب، خاصة وأن الكتاب المذكور ليس مرجعا ضمن مراجع تتيح للطالب أن يستقي العلم من عدة مصادر، وأن يكون ملكته النقدية من خلال تمحيصها والمقارنة بين اجتهاداتها، وإنما من كتاب وحيد هو «الكتاب المقرر». وهو كتاب مسخ لم يستطع صاحبه الدفاع عنه، وتعلل بأعذار واهية، بل مضحكة، من نوع أن السطر لم يتسع فلزم التدليس. وهو تدليس خطير لأنه يجعل الكيان الصهيوني الغاصب جزءا من الوطن العربي. وكان من أغرب ما قرأته في هذا الخلط والتخليط الذي امتد لإسبوعين علي صفحات (أخبار الأدب) أن يقول الدكتور محمد حمدي إبراهيم الذي كان للأسف الشديد عضوا بنادي القلم المصري، «أن العلم ليس به أي سياسة، فنحن ندرس علما مجردا وليس سياسة.» ما هذا الكلام يا دكتور؟ أين هو العلم في قبول الاغتصاب والاحتلال والاستيطان المخالف لكل القوانين والأعراف الدولية. أين هو العلم في تلك التعليلات المتهافتة من نوع أن ابتلاع فلسطين في خرائطهم لصالح دولة الاستيطان الصهيوني فيها، ناجم عن أن المساحة لم تتسع للدولتين علي الورق. فلماذا لم يكتفون بفلسطين إذا لم تتسع المساحة لدولتين، فهي الحقيقة التاريخية، برغم الاحتلال. فالتعلل بضيق المكان في الصفحة أو الخريطة هو قمة البلاهة العلمية. وإذا كانوا يريدون الحديث عن العلم، فالعلم يقول بأن الدولة العبرية هي مشروع استعماري استيطاني قام علي الاغتصاب والعدوان، وإنشاء هذا الكيان المشوه علي أرض فلسطين. وياليتهم استمعوا إلي سمير أمين الذي كشف في نفس الأسبوع في برنامج بالجزيرة، عن أن دوله الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والذين يعترفون باسمها الأسطوري الذي لاعلم فيه، وأرفض شخصيا الاعتراف به لصالح التسمية العلمية الدقيقة لهذا الكيان، أي «دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين» هي دولة فاشلة، لاتستطيع الحياة بدون العدوان، وبدون المساعدات الأمريكية الاقتصادية منها والسياسية، ولم تتمكن حتي الآن من توفير الأمن الحقيقي لمواطنيها، ناهيك عن الحياة وفق القوانين والأعراف الدولية. وأذكر أساتذة الجغرافيا الذين يمدحون أنفسهم، أو يدافعون عن زملائهم بالباطل، أن دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين لاتقوم علي أي أساس علمي وإنما علي أساس أسطوري فج، ومزاعم خرافية لا أساس لها من سند علمي أو تاريخي. وقد حاولت تلك الدولة أن تجد من خلال حفريات أركيولوجية مكثفة طوال أكثر من نصف قرن أي أساس علمي أو تاريخي لتلك الأساطير، ولكنها أخفقت في ذلك إخفاقا ذريعا. وهناك أكثر من كتاب مهم حول ذلك الموضوع لا أظن أن أستاذ الجغرافيا الذي يمدح نفسه ويتباهي بغزارة إنتاجه قد سمع بأي منها. ولا أظن أنه قد سمع عن دراسة ميخائيل ميليشطاين، بمعهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة "تل أبيب"، الأخيرة والتي يؤكد فيها أن أكبر الأخطار التي تواجه دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين هي تجريد خطابها من شرعيته ومصداقيته في الغرب خاصة. فهل آن الأوان لأن يعرف من يريدون تحويل الباطل إلي حقائق علمية، أن أخشي ما يخشاه العدو هو الخطاب الذي يكشف أباطيله، ويعري أساطيره، ويشكل عليه خطرا أكثر من أخطار كل الجيوش العربية التي طالما انتصر عليها بسهوله في معاركه المختلفة معها؟ وهل يدرك من يتشدقون بالعلم، أن القيم الوطنية هي أيضا قيم علمية، وليست مجرد سياسة. أما ما يتصورنه علما بلاسياسة، فهو أبشع أنواع السياسة.