يتساقط رجال مصر أبطالاً وهم يدافعون عن حريتها؛ تارة ضد الغزاة المحتلين، وتارة أخري ضد الاستبداد. منذ محمد كريم، بطل الإسكندرية الذي وقف في وجه أعظم قادة عصره.. نابليون بونابرت، إلي سالي زهران التي استشهدت منذ أيام، دفاعاً عن حرية الإنسان وكرامة الوطن. محمد كريم.. عمر مكرم.. أحمد عرابي.. مصطفي كامل.. سعد زغلول بطل ثورة 1919 وزعيمها الذي حرك شعباً ليخرج ويقول للمستعمر لا، ويواجه بصدره رصاص الإنجليز، ويسجل التاريخ أول شهداء ثورة 1919 الشاب محمد عزت البيومي الذي قتله الإنجليز يوم الثلاثاء 11 مارس سنة 1919 في المصادمة التي حدثت بينهم وبين المتظاهرين عند كوبري شبرا، ويسجل التاريخ أيضا اسم مصطفي طاهر أمين، الذي قتله الإنجليز يوم 19 مارس سنة 1919، لوقوفه مع زملائه مطالبا بحرية مصر واستقلالها. وكذا يسجل التاريخ، فيما يسجل، أسماء كغيرها من الأسماء، ولكنها دفعت الثمن ليكون لنا وطن ولحياتنا معني وكرامة. يسجل التاريخ أسماء الشهداء: محمد عبد المجيد مرسي، الطالب بكلية الزراعة، وعبد الحكيم الجراحي، الطالب بكلية الآداب، وعلي طه عفيفي، الطالب بدار العلوم، في يوم 14نوفمبر سنة 1935، لأنهم خرجوا من دور علمهم يبحثون عن الوطن الآتي حتي يأتي. يسجل دفتر التاريخ أسماء شهداء لا نعرف أسماءهم، قتلتهم يد غادرة لتبقي متسلطة علي أقدار وطنهم. شهداء مجهولو الاسم، ولكنهم محفوظو الهوية في القلوب، لأنهم هم، وليس غيرهم، من صنعوا الوطن، وهم، وليس غيرهم، من حولوا أحزانه إلي فرح وبهجة. شباب لم تلوثهم منفعة، ولم تدنس مشاعرهم أطماع، صفت قلوبهم، ولهجوا بحب مصر.. شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير من العام 2011، هم من صنعوا غداً لن يروه، ولكننا، حتماً، نتمثلهم في ضمائرنا، الشهداء والشهيدات: محمد عماد حسين، سالي زهران، محمد عبد المنعم، مينا نبيل هلال، محمد محروس، كريم مدحت، سيف الدين مصطفي، إسلام عبد القادر، أحمد بسيوني، مصطفي الصاوي، كريم بنونة، وزملاؤهم الذين اتخذوا من ميدان التحرير.. ميدان الشهداء.. موطناً لحريتهم وانعتاقهم حتي تحقق للوطن كله حريته. فسلام علي شهداء مصر.. سلام علي شبابها الذي جادوا بروحهم لتحيا مصر.. ولتكن لنا في هؤلاء أسوة حسنة حتي لا يضيع دم الشهداء سدي. سعد الدين الشاذلي إنه القدر.. لا يمنحنا الوقت، أحياناً، للتعبير عن شكرنا، وحبنا، وامتناننا لعظيم رحل. قدر يشغلنا بعظائم تجبرنا علي تنحية عظائم، ولو لوقت قصير، فيضيع وقت الحزن خوفاً من مصير أحزن. أقول ذلك وأنا أستعيد بطولات مصر في حرب أكتوبر. ففي العام 1973 غادرنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، بعد أن سمع خبر العبور والنصر، وسمع أغنيات البهجة والفرحة بعد عصر الانكسار والحزن، ولكنه لم يسمع صوت حزننا علي فقده، كان خبر وفاته ثانوياً في أيام الحرب مع أن الرجل، بتاريخه وتراثه ودوره، كان استثنائياً يعرفه مجايلوه، ويعرفه أبناء العربية جيلاً بعد جيل ما دامو يقرأون وينشدون النهضة والارتقاء. ومنذ أيام فاجأنا نبأ رحيل عظيم من نوع آخر في قامة طه حسين .. عظيم من عظماء العسكرية المصرية الحديثة كان يأبي إلا أن ينتصر، حتي في زمن الهزيمة والمحنة. رجل أحب مصر ورفع اسمها وارتقي بدورها، فجدد بريق العسكرية المصرية، هو مهندس العبور العظيم في السادس من أكتوبر 1973، وهو محرك جيوش مصر إلي الشاطئ الآخر من القناة بعتادهم وسلاحهم فوق جسور العبور يدعمهم نشيدهم الدائم "الله أكبر".. حتي جني أولي الثمار.. طابور الأسري من جيش العدو. هؤلاء الذين فرحت قلوبنا، وقرت أعيننا بمرآهم مقيدين علي شاشة التليفزيون مساء اليوم نفسه.. السادس من أكتوبر1973. تمر بك الأبطال كلمي هزيمة ووجهك وضاء وثغرك باسم وتحركت أمواج كثيرة في القناة، واختلف النوتي والربان، وحدث الخلاف، وأخرج السادات الفريق سعد الدين الشاذلي، مهندس العبور، من غرفة القيادة، وحجبت صوره من وقتها، وطويت صفحته من دفاتر الذكر كلما كان موضوع الحديث عن العبور. بل إن صورته في غرفة القيادة في يوم العبور العظيم هي أول صورة يراها العالم لقادة مصر المنتصرة: أنور السادات، أحمد إسماعيل، سعد الدين الشاذلي، وقادة الأسلحة قد اختفت وكأنها تبخرت بعد أسبوع لتحل محلها صورة أخري للقادة المنتصرين، وليس بينهم سعد الدين الشاذلي! وثار جدل كثير، وتحميل مسئولية الثغرة، واختلفت الآراء حول مواجهتها، وتاهت الحقيقة إلي اليوم. طمست الأحداث اسم سعد الدين الشاذلي، إلي حين، ولكن الضمير ظل يذكره بإكبار واحترام، كلما كان الحديث عن العبور العظيم. ثم عاد اسمه يتردد من جديد، ولكن بعد أن لزم فراش المرض، ومنعه كبرياؤه العسكري من أن يشكو. وحينما شاهدت برنامجاً عن الشاذلي، قبيل رحيله في إحدي الفضائيات، وجذبتني المحاورة انصرفت عمن حولي، لأنتبه علي سؤال ابنتي، طالبة الهندسة: "من هو الفريق الشاذلي يا أبي؟"، لحظتها أحسست بوخزة في جنبي.... فالشاذلي وأمثاله لا يزالون حاضرين. لم تكن الفرصة مناسبة لأستفيض فيما أعرف عن هذا البطل.. ولكنني قلت لها: "يا ابنتي. هذا رجل عاد في زمن الهزيمة منتصراً.. عاد من سيناء بكامل جيشه، وبدأ يستعد للجولة التالية.. جولة استرداد الكرامة.. وقد فعلها في السادس من أكتوبر. وها هو يودع مصر التي فرحت بنجاح عبورها، ويودع الدنيا وقد فرح بنجاح آخر، نجاح بلده في ثورتها من أجل الحرية. من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ: سألت الشيخ عبد ربه التائه: متي يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.. وقال: أقرب ما يكون الإنسان إلي ربه وهو يمارس حريته بالحق.