وزير التعليم يستقبل وفد البنك الدولي لبحث أوجه التعاون فى الملفات المشتركة (صور)    جامعة الجلالة تحصل على المراكز الأولى في مسابقة الابتكار الصحي وريادة الأعمال    معيط ينفي زيادة الضرائب.. ويتوعد مروجي الشائعات بإبلاغ النائب العام    رئيس "الإسكان الاجتماعي": مبادرة سكن لكل المصريين الأفضل على مستوى العالم    رئيس المجلس الأوروبي يعلن دعمه الكامل للاعتراف بدولة فلسطين    الأمير فيصل بن خالد بن سلطان يرعى حفل الزواج الجماعي بالحدود الشمالية ل248 شابًا وفتاة    كيليان مبابي يفوز بجائزة أفضل لاعب في أوروبا    مانشستر سيتي يفوز بجائزة أفضل فريق في العالم لعام 2024    اقتراب عيد الأضحى 2024: استعدادات العمل والإجازات للقطاعين الحكومي والخاص    "ربنا يسامحنا ويصبرهم".. مروان موسى يعبر عن عجزه تجاه الشعب الفلسطيني    وزيرة الثقافة: جوائز الدولة التشجيعية وسام على صدر جميع المثقفين والأدباء    أمين الفتوى يوضح هل تسقط الصلاة الفائتة بعد الإفاقة من البنج    القبض على «ٌقمر الوراق» بحوزتها 2.5 كيلو «حشيش» (التفاصيل الكاملة)    الاتحاد السكندري يعلن قبوله دفعه جديدة من الناشئين بسعر رمزي لشراء استمارة التقديم    محافظ أسوان يترأس اجتماع مجلس الصحة الإقليمي (تفاصيل)    لاعب أرسنال: الأعين كلها نحو رفح    إصابة جندي بولندي في عملية طعن على يد مهاجر غير شرعي    ضبط شخص يدير صفحة عبر "فسيبوك" للنصب على أهالي كفر الشيخ    محافظ جنوب سيناء يترأس الاجتماع الأسبوعي لمتابعة الموقف التنفيذي للمشروعات    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    تعرف علي الحكاية الكاملة لفيلم ولاد رزق    "هيئة الدواء" توقع مذكرة تفاهم مع "مركز مراقبة الدولة للأدوية" بكوبا لتبادل الخبرات    متى يلزم الكفارة على الكذب؟.. أمين الفتوى بدار الإفتاء يوضح    سالم الدوسري يحصل على أعلى تقييم بين لاعبين الدوري السعودي    كشف ملابسات سرقة سائق بإحدى شركات تطبيقات النقل الذكي حقيبة سيدة    الخميس.. قصور الثقافة تقيم حفل أغاني موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بمسرح السامر مجانا    قومية سوهاج تقدم عرض اللعبة ضمن موسم مسرح قصور الثقافة بالصعيد    محافظ الإسماعيلية يشيد بدور مجلس الدولة في فض المنازعات وصياغة القوانين    روسيا تطور قمرا جديدا للاتصالات    عضو تنسيقية تقدُّم: إعلان مجلس السيادة السوداني عن حكومة كفاءات وشيكة تهديدٌ للقوى المدنية    «الضوابط والمحددات الخاصة بإعداد الحساب الختامي» ورشة عمل بجامعة بني سويف    رئيس جامعة بني سويف يشهد الاحتفال بيوم الطبيب    رئيس جامعة بني سويف يكرم الدكتور محمد يوسف وكيل وزارة الصحة السابق    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    برلماني: الرئيس يثق في قدرة الحوار الوطني على وضع رؤية اقتصادية جديدة للدولة    القبض على المتهم بقتل صديقه في مشاجرة بقليوب    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    موعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2024.. تصل إلى 9 أيام متصلة (تفاصيل)    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية البراجيل في ملوي غدًا    الطب البيطرى: تحصين 144 ألفا و711 رأس ماشية ضد الحمى القلاعية بالجيزة    سياح من كل أوروبا.. شاهد رحلات جولات البلد على كورنيش الغردقة    بشرى للمواطنين.. تفاصيل حالة الطقس ودرجات الحرارة حتى نهاية الأسبوع    خلال زيارته للمحافظة.. محافظ جنوب سيناء يقدم طلبا لوفد لجنة الصحة بمجلس النواب    تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة فؤاد شرف الدين.. «كان يقاوم الألم»    محافظ الجيزة: تطوير وتوسعة ورصف طريق الطرفاية البطئ    إسرائيل تعتقل 22 فلسطينيا من الضفة.. وارتفاع الحصيلة إلى 8910 منذ 7 أكتوبر    وزيرة الهجرة تستقبل أحد رموز الجالية المصرية في جينف بسويسرا    نسألك أن تنصر أهل رفح على أعدائهم.. أفضل الأدعية لنصرة أهل غزة ورفح (ردده الآن)    رئيس وزراء إسبانيا: نعترف رسميا بدولة فلسطين لتحقيق السلام    كارول سماحة تعلق على مجزرة رفح: «قلبي اتحرق»    مصرع شخص صعقا بالكهرباء داخل منزله بقرية شنبارة فى الشرقية    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 28 مايو 2024.. مكاسب مالية ل«العذراء» ونصيحة مهمة ل«الميزان»    دويدار: الجزيري أفضل من وسام أبو علي... وأتوقع فوز الزمالك على الأهلي في السوبر الإفريقي    حمدي فتحي: أتمنى انضمام زيزو لصفوف الأهلي وعودة رمضان صبحي    عضو مجلس الزمالك: إمام عاشور تمنى العودة لنا قبل الانضمام ل الأهلي.. ولكن!    مدرب الألومنيوم: ندرس الانسحاب من كأس مصر بعد تأجيل مباراتنا الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إرنِست وميليا


1
كان إرنِست سبٍنجلر وحيداً في مسكنه بالطابق العلوي، يستعد لإلقاء نفسه من النافذة المفتوحة، بينما رن الهاتف. مرة، اثنتان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، إحدي عشرة، اثنتا عشرة، ثلاثة عشرة، أربعة عشرة. رد إرنِست.
تسكن ميليا في الطابق الأول في 77 شارع مولتكي. بينما هي جالسة علي مقعدٍ غير مريح، كانت تفكر في كلماتٍ أساسيةٍ في حياتها. الألم، فكرت، إنه كلمة أساسية.
خضعت لعملية جراحية، ثم أخري، أربع عملياتٍ جراحية إجمالاً. الآن ألم - يتردد صداه بعمق في منتصف جسدها. في مرضها، رددت علي نفسها أنها قيد الاختبار، طريقة تعلمها كيف تصمد أمام الألم. ربما: تجلياً لرغبتها أن تقترب من الرب القدير. لكن في الليل توصد الكنائس أبوابها.
الرابعة صباح يوم 29 مايو. ميليا عاجزة عن النوم. ألم متواصل، يأتي من معدتها - أو ربما أسفل المعدة. من أين يأتي الألم تحديداً؟ ربما من الرحم. لا تعرف الآن سوي أنها الرابعة صباحاً وأنها لم تذق طعم النوم. لم يكن حتي بإمكانها أن تغمض عينيها خشية الموت.
نهضت. كانت قوية علي نحافتها. لم تضع وقتها في تفاهات. (كانت تردد علي نفسها دوماً: لا يجب أن يضيع الوقت في أمور تافهة.) أولت الأشياء عنايتها. تعلم أنه لم يتبقَ من عمرها إلا سنوات قليلة. بدأ المرض ينتشر بالفعل: سنظل معا لبضع سنوات، لكنه سيبقي وأرحل أنا. ركزت طاقتها صوب المتبقي من عمر جسدها، موجهة - طاقتها - كالنشابة. استعدت للدوران. لا مزيد من التفاهات. اقض الوقت فيم هو ضروري - تجاهلي ما لا يفيد؛ الأمور الفارقة هي الأساسية، تلك التي تغيرك، التي تجعل كل شيءٍ مختلفاً، وتلك التي تحبطك. يجب أن يكون كل شيء هكذا - يجب أن يكون كل ما تفعله يومياً عفياً، فارقاً. نظرت ميليا لنفسها في المرآة. لازلت علي قيد الحياة، لكني ارتكبت خطأ. أن أمرض فهذا يعني أنني ارتكبت خطأ. ربما خطأ شيطاني. لكن: المرض يغيرك. يجعل كل شيء مختلفاً.
لذا، في ذلك اليوم، في الرابعة صباحاً، قررت ميليا أن تغادر منزلها. ليلاً، هاجمها الألم بصور شتي - تصاعدت وتيرته بشكل تدريجي، كمشاهدة مادة كيميائية لزجة تزحف عبر منحني، بصورة لا تكاد العين تدركها . ليس الليل كالنهار، ثمة واد يفصل بينهما.
ركزت علي ألمها، هذا الذي لا تعرف له موضعاً محدداً - ثمة ألم بين معدتها ورحمها - خرجت ميليا بحثا عن كنيسة.
صادفت متشرداً أربكه سؤالها. كنيسة؟ سألها: أتعلمين كم الساعة الآن؟ ستتعرضين للسرقة. ما كان عليك الخروج بحثاً عن كنيسة، إنما عن شرطي يعود بك لبيتك. لم خرجت بالأساس من بيتك في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ وما يدريكِ لعلي أعتدي عليك، وربما أسرقك!
ابتسمت ميليا وواصلت سيرها. ألمها الملح فاق أهمية الحديث مع هذا المتشرد.
لست بحاجة للشرطة، أحتاج لكنيسة. هل أوصدت كل الكنائس أبوابها في هذه الساعة؟
لم تكن تشعر بقدميها. اتضح أن حذائها - المسطح، الرجالي - لازال طيعا، يذهب حيث تريد قدماها. تملك العظام والعضلات إرادة مستقلة. ليس جلد الحذاء. يجب أن تلزم الأحذية الطاعة، دون أسئلة. تمتمت ميليا: نعم - عليك بالطاعة أيها الحذاء. كل الأشياء يمكن تقسيمها لصنفين: أشياءٌ تتحرك بإرادتها، وأخري تسمع وتطيع (وكذلك البشر). الحذاء مثالٌ حي للطاعة المطلقة، وعليه، فإنه مثير لاشمئزازها.
أمر مقزز: خضوع العالم المادي للبشر. حتي الكلاب لا تخضع كما هذا الحذاء.
لكن، لم تكن هناك ثمة إمكانية للحوار بين المعسكرين ... ليست "معسكرات العدو" علي أية حال، طالما يلمح هذا إلي احتمالية اندلاع الحرب بينهما، في ساحة معركة، حيث تصطف قواتهما ... كلا، ليسا بحيوانين مفترسين يتنازعان علي بقعة مميزة من الأرض، ولكن أحدهما شديد السلبية في مواجهة شراسة كاملة من الآخر... قوة مبدعة ومدمرة في آن، لكنها، علي أية حال، لا تكف عن الارتقاء. قالت ميليا لنفسها، بينما كانت تسير بعزم نحو كنيسة: كلا، لسنا من الصنف الذي يجلس وينتظر.
"الكنيسة مغلقة. هل لديك فكرة كم الساعة الآن؟ تقترب من الخامسة صباحاً. لم يكن عليك الخروج بأي حال. هذا حي يسوده الشر ليلاً. هذا خطر."
تملكتها رغبة بالضحك في وجه الرجل، ساخرة منه، من النوايا الطيبة، ومن كل شيء. خطر! خطر علي امرأة مريضة مثلي؟ تحتضر بفعل مرض يسكنها، لم يتبق لها سوي سنة أو اثنتين. الموت يترصدها بالفعل - إنها الآن في حاجة للخطر، إلي شيء مثير، أن تشعر أن ثمة ما هو جديد. أرادت أن تخبره، ذلك الرجل؛ يبدو أميناً أو ما شابه، نعم، ثمة رغبة أغرتها أن تقول له: أنظر، لو كان الحي خطراً، إذن فهو ليس سيئاً علي الاطلاق! علي الأقل هناك ما يمكن أن يحدث هنا!
يطرح الخطر الأسئلة ويستجدي إجاباتٍ فورية. فكرت ميليا أن ما تحتاجه هو سؤال جيد. سؤال محدد، سؤال يدفعها نحو الوصول لجواب شاف. مرضي ليس ذئباً عجوزاً - لن يفر هارباً مع أول اشارة بالخطر. كلا، ليس ذئباً مذعوراً يطوف حولي. مرضي لا يمكن التخلص منه.
هذا ما قالته بالفعل: "لا أهتم بالخطر"، "فقط أردت زيارة الكنيسة."
" إنها الخامسة صباحاً. الجميع نيام. هذا الحي خطير. عليك العودة للمنزل. عودي في الصباح. نحن الآن في فترة راحة، ستجدي ما تتطلعين اليه عند عودتك صباحاً. رجاء! كلنا متعبون."
هدأت ميليا لوهلة، ثم تلوت من فرط ألم غريب هاجمها من نفس مكان الألم المعتاد الذي يلاحقها، قرب المعدة. تبعه ألم آخر جديد أعلن عن نفسه بقوة.
قالت ميليا: "عفوا." أشعر بألمٍ شديد.
"عودي لمنزلك. الوقت متأخرٌ جداً."
تمالكت ميليا نفسها. سألت: " أتعرف كنيسة لم تغلق أبوابها؟"
2
ودّعها الرجل متمنياً لها ليلةً سعيدة. غادرت ميليا. بدا كل شيء موصداً. حتي باب جانبي صغير. ربما كان سجنا. شرعت ميليا في السير دون هدي.
ثمة أعمال إنشائية تجري علي سطح الكنيسة - يصعد العمال نهاراً للعمل هناك. تصورت ميليا أنهم يصعدون علي أطراف أصابعهم حاملين الحجارة. ابتسمت. ما المتعة في هذا، علي أية حال؟ تحمل مشقة الصعود لأعلي، فقط لوضع حجر يعلو بالبناء بضع بوصات.
أمرٌ آخر استدعي ابتسامتها، واحمرار وجهها. رغبة في التبول. لكنها تعدت الخامسة صباحاً. كل الأبواب مغلقة. أخبرها بهذا ذلك الرجل الطيب (أو ربما ليس طيباً بالمرة ... ربما جل همه كان التأكد من عدم تعرض كنيسته لضرر). اعتذر لها هذا التافه بحجة إغلاق الكنيسة. فهمتميليا كيف يفكر العالم: رجل عمله أن يعتذر للغرباء في الخامسة صباحا أمر يبدو أحقر مما تتصور.فكرت أنه كان عليهم تكليفه بتنظيف المراحيض - ثم أسفت لاستدعاء هذه الصورة.
لم تكن أيٌ من تلك الأفكار هي السبب وراء احمرار وجهها، بالضبط. إنما كان السبب هو امتلاء مثانتها، وعدم وجود من يراها في الجوار. خطر ببالها أنها لو كانت رجلاً ذا كبرياء، رجل لا يهتم بنظرة العالم له، لملت نحو الجدار، أخرجت عضوي، ثم تبولت حيث أنا. تورد وجهها مع إدراك رغبتها في التبول علي جدار الكنيسة.
لم يكن احتياجاً لترك أثر، كما يفعل الكلب، خارج المكان الذي مُنعت من دخوله. لم يكن هذا نكاية في الكنيسة، أو تحد لها، أو اعتراض علي مواقيت عملها، التي لم توافق احتياجاتها في الليل للأسف. لم يكن الأمر كذلك أبداً. ميليا قاربت الأربعين؛ لم تفعل أشياء رغبة في الاستفزاز. إنها مريضة كذلك؛ عليها بالحفاظ علي ما تبقي لديها من طاقة؛ أيما تفعله كان لميليا، ميليا وحدها. قالت: أمثل نفسي. أتصرف كوحيدة أمام المرآة. وفي النهاية، الأمر كله لي. عن التحكم برغباتي.
للإيضاح: لم تكن رغبتها في التبول علي جدار الكنيسة رغبة في الاستعراض. أغرتها الصورة في ذاتها: صورة الإنسان المنتصب، الإنسان في صورته البيولوجية الطبيعية - رجل يقف ممسكاً بعضوه، متبولاً علي جدار الكنيسة - هذه الصورة التي طاردت ميليا، وجعلتها تغار، بصورة ما. لم تندم ميليا يوماً كونها امرأة، ولم تقبل أبدا علي تصرفٍ "ذكوري"، ولكن الآن - علي نحو غريب، بصواب غائب، دون ضرورة، انتابها الغضب لأنها ليست الرجل الذي ارتسم في مخيلتها. شعرت بخيبة الأمل.
تعلم بالطبع أن التبول علي جدار الكنيسة في منتصف الليل تصرفٌ سخيف. أي وضع تتخذ؟ تواجه الجدار أم تدير ظهرها له، مائلة بمؤخرتها نحوه؟ أي من الخيارات المتاحة يجبرها علي الانحناء للأمام قليلاً، وكان هذا القدر "البسيط" من الانحناء أكثر ما أزعجها. إما أن ينحني المرء تماماً، حتي لو اضطر إلي الارتماء علي الأرض، إذا لزم الأمر: الجبن لا يعيب - أو أن يقف بثبات. لم يكن أي الخيارين مناسبا لها: ستبول علي جواربها إن حاولت. خيارها الآخر إذن أن تنصرف تاركة الجدار جافاً، شاعرة بخزي - كأنها تسلم بعجزها عن تجسيد الصورة التي تخيلتها.
قفزت لمخيلتها صورة أخري. لو رآها أحد وهي تتبول علي جدار الكنيسة، سيعتقد أن: هذه السيدة مختلة...
كان لميليا نصيب من المخاوف البسيطة. مثلاً: ترتعد - شأنها شأن الكثير من الناس - من الفئران. يتملكها هوس هيستيري غير مفهوم في كل مرة حال قطع أحد تلك الوحوش الرمادية الصغيرة طريقها. إلا أن خوفها الأعظم هو المواجهة. تحاشتها طيلة حياتها. إن لاح ملمح خلاف في الأفق، كانت لتقول لنفسها: "هؤلاء" - أياً من كانوا - "سيمزقونني إرباً..."، ثم تفر هاربة. كانت لتواجه الناس فقط حين تتأكد أنها آمنة تماماً. في طيف يد حنون. تعجز عن فهم الرجال والنساء ممن يفضلون العدوانية، حتي البدنية، علي أي نوع آخر من الصراع.
ومن ثَم، كان لزاماً علي ميليا ألا تبدو كشخصٍ مجنون. بالطبع، بعد ارتكاب خطأ مبدئي بقول (أنظروا لهذه المعتوهة!)، إذا شاهدها أحد مصادفة تبول علي الجدار، سيعود ليدرك أنها ليست كذلك علي الإطلاق، وأن ما تفعله أمر طبيعي جداً. لكن احتمالية أن يظن بها أحد، ولو لدقيقة، أنها فقدت عقلها - فوق احتمالها. فكرت: لن أسمح لأحدٍ أن يلقبني بالمجنونة أبداً.
3
تراجعت ميليا. ما كانت لتضع نفسها في هذا الموقف، لم تكن لتسمح أن يتهمها أحد بفقدان السيطرة. ليس بالتأكيد علي الجائزة البسيطة نسبياً التي أحرزتها بتبولها علي جدار الكنيسة. تحركت للخلف لمسافة عشرة أمتار تجاه حديقةٍ صغيرة، ارتكنت علي شجرة، تبولت.
خلا المكان من البشر. ألم المعدة علي حاله. انحنت، التقطت بعض الحشائش، تنشفت، رفعت لباسها الداخلي، وجمعت شتات نفسها.
عادت لمواجهة الكنيسة الصامتة ثانية. لم يبقَ إلا ثلاث ساعات حتي طلوع الشمس، سيصير ضياء الشمس مخيفاً، بمثابة تهديد محسوس. الكنيسة مغلقة لأن الوقت لا يزال ليلاً، إلا أن ميليا لم تكن لتسمح لأحدٍ أن يراها في الصباح، هائمةً يائسة. فضعفها حين فتح الرجل باب الكنيسة كان مهيناً بما يكفي؛ الآن، بدأت ميليا في استعادة إحساسها الغريزي، لن يراها أحد إلا قوية. تعرف تلك الغريزة جيداً... يمكنها أن تقول بثقة أنها تعرفها تمام المعرفة، طالما أجبرها مرضها وقلقها تجنب الناس حين يطغي عجزها: حين يبلغ الألم مداه، كانت تفضل الوحدة. تدرك أنها عندما تبدو ضعيفة، فهذا تخلي عن كونها إنسانة. حتي مع علمها باحتمال رحيلها عن الحياة في غضون أشهر قليلة - أو عامٍ علي الأكثر - فقد اتخدت القرار. لن تتخلي عن إنسانيتها. لطالما حدثت نفسها، الكبرياء - لا تفقدي كبريائك أبداً.
في تلك الأثناء، إحساس جديد انتاب معدتها. أربكها هذا الإحساس: لم يكن ألمها، شيء آخر، حاد بنفس الدرجة، ربما أكثر حدة...
مر ببالها: كم هو مضحك أن أشعر بالجوع. مرت ساعات دون طعام. كانت علي وشك الضحك. ظننت أني وحدي في الليل، لكن معدتي رافقتني .... إنها تؤنسني.
دفعها الألم الجديد للتأمل، ثمة خوف لا يمكن تفسيره. الألم الذي جاء بفعل الجوع صار أقوي فعلياً من الألم الآخر، ألم مرضها المزمن، أصل مخاوفها، الكبيرة والصغيرة. تساءلت ميليا: كيف لألمٍ نتج عن الحاجة للأكل أن يكون أكثر إيلاماً من ألمي المعتاد؟ أعلم تماماً أني سأفارق الحياة بفعل ألمي الأصغر ... هكذا أكدّ لي الأطباء.
أدركت حينها، هناك علي مقربة من الكنيسة، أن ألماها يتصارعان: قاتلها، هذا الخبيث، كما أسمته، ألم المرض، والألم الطيب، علي الجانب الآخر، ألم الجوع، ألم الرغبة في الأكل، ألم الحياة، الوجود، حسب قولها. وكأن معدتها، حتي في سكون الليل، هي دليل انسانيتها الوحيد ... وعلي علاقتها الغامضة بالأشياء التي لا تعيها في هذه الحياة. أجل! لا زالت حية، يؤلمها هذا الدليل علي الحياة علي نحو أكبر، في هذه اللحظة، بموضوعية ملموسة، أكثر من الألم المألوف، قاتلها. كأنما، الليلة، صارت كسرة خبز أكثر أهمية من الحياة للأبد.
تلفتت ميليا قائلة: أين لي بشيءٍ آكله في هذا الوقت من الليل؟ لا ضوء. لا أحد.
4
طافت ميليا حول الكنيسة مجدداً. ما من أنوار في أي مكان بعد. وهذا بمثابة دليل إما علي أن العالم قد مات، أو أنه لم يولد بعد.
مثانتها الفارغة أراحتها علي نحو غير متوقع. قالت لنفسها أنها علي أقل تقدير تخلصت من أحد آلامها الملحة، لتبدو هذه الليلة كأنها مباراة، بطولة شاركت فيها دون أن
تدري، منافسة وضعت عراقيل صغيرة في طريقها - أو، علي الأرجح، داخل جسدها - آلاماً لا ألغازاً، مشاكل واقعية، أحاجي ملموسة داخل جسدها. حسمت أحدها: فقد أفرغت مثانتها بجوار شجرة. نقص ألم. خرج بولها. وطالما تخلص الجسد من البول، قل الألم.
ولكن ما زالت كل الآلام الأخري علي حالها، وهي مدركة أن أحدهم لا حلّ له علي الإطلاق. يتلخص أمره في كلمةٍ واحدةٍ بالغة الأهمية؛ قالها الأطباء أمامها: قالوا أنه ليس بوسعهم فعل شيء، وإنهم ينتظرون "معجزة"...
كانت صدمة. عرضت شكواها علي الأطباء - تعاني ألماً، مرضاً؛ عرف الأطباء ما تعاني منه ميليا، مضاعفات عضوية - هز الأطباء أكتافهم بأسي، بينما يجيبونها (مواساة طبيب محترف لا أكثر)، دون أي إجراء، أو وصف لأي علاج: مرضها لا علاج له. جاءت بحالتها لعدد من الأطباء، لكنهم عجزوا عن علاجها. بقيت مشكلتها وسؤالها: لماذا يجب أن أموت؟
إنها خلف الكنيسة الآن. تضع يدها داخل حقيبتها لتخرج شيئاً، شيئاً صغيراً، يتذيله غبار: قطعة من الطباشير. تكتب به علي لوحها. نست أنه بحوزتها. رسمت في ذلك الصباح منزلاً علي لوحها الذي احتفظت به في غرفة المعيشة. رسمت البيت الذي تمنته إن لم تمت في هذه الأثناء. تعتقد ميليا أن استمرارها علي قيد الحياة في الأشهر القليلة المقبلة سيغدو كأنها قد تعيش للأبد. قالت: إن لم أمت، سأخلد. خالدة لعامين علي الأكثر.
أمسكت الطباشير. تحب الرسم به. أسمتها رسوماتي الأولية.
اقتربت ميليا من ظهر الكنيسة، حاملة الطباشير في يدها اليمني. بدا الجدار مصفراً في الليل، لم تكن ميليا علي يقين من ذلك. ألوان الليل غائمة، حين لا يمحوها كلياً. لحسن حظها، قطعة الطباشير بيضاء، ناصعة؛ أدركت هذا، ابتسمت.
كتبت بسرعة علي الجدار، دون أدني تفكير، بحروف صغيرة لا تكاد تري؛ كتبت: الجوع.
5
تطلعت ميليا إلي باقي الجدار ثم فكّرت: تُري ما الذي يمكن كتابته غير ذلك علي ظهر الكنيسة في الخامسة صباحاً؟
حاولت تذكر مقتبسات من كتب قرأتها تليق بهذه اللحظة، وهذا الجدار.
لكن: فاجأتها ضربات في معدتها مجدداً - اضافة إلي الثاني، الألم الجديد. خفضت يدها، ثم ألقت بقطعة الطباشير، وشرعت بالمشي، متجهة نحو شارع آخر. جائعة. تصاعد الألم علي نحو لا يحتمل.
تذكرت أثناء هرولتها مستمتعة، أن ألم الجوع هو ألم الحياة. جائعة، لن أموت! مستحيل أن تموت وأنت جائع بهذا الشكل.
جعلها الجوع تشعر بأمانٍ غريب: حيث كان ألم الجوع بمثابة ضمانٌ، وعد، علي الأقل في الوقت الحالي. لا يمكن أن يتسلل الألم الآخر ويقتلني طالما كان قوياً هكذا! ومع شعورها بالأمان، حاولت أن تصرف ذهنها عن الأكل. ولو تناولت شيئاً، سيزول ألم الجوع، ثم يتجدد الألم الآخر ... وذلك الذي يمكنه قتلي.
لاح ضوء في الأفق الآن، ربما صدر عن مقهي فتح أبوابه، عن يمينه كابينة تليفون. صار ألم الجوع أكثر وطأة. قالت لنفسها: ربما أحتاج تناول شيئا علي وجه السرعة، وإلا سيكون الموت مصيري- ثم ضحكت لهذا التناقض الأخير. أخرجت بضع عملات معدنية في الكابينة، وأسقطت واحدة في الفتحة، ثم ضربت رقماً وانتظرت مجيب. لا أحد يجيب، أربع مرات، خمس، ست، سبع، ثماني، تسع، عشر، إحدي عشر، إثني عشر، ثلاث عشرة، أربع عشرة مرة. ثم رفع شخص سماعة الهاتف. قالت ميليا: ارنست، أنا قرب الكنيسة. ألو؟
عندها سقطت فاقدة الوعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.