أول الحكي: خُيّمَ الصّمتُ علينا نحن الثّلاثة، في اللّحظة التي من المفروض أنني قلت كل شيء، قلت للمحقق الذي لم أقله في أوراقي. بدت شهادتي باهتة.. مفككة. قرأت ذلك في وجوه الضّباط.. هذا ما أثار قلقي، احتميت بالفراغ... لا أعرف إلي حدّ اللّحظة لم استدعتني الشرطة؟ هل كانت القضية وطنية وذات بعد دولي بالفعل أم هو سوء تفاهم؟ المؤكد أنّها ليست قضية بالمعني الحرفي و الحقيقي -علي الأقل- بالنسبة لي، لا أستبق الأمور. في كل الحالات اللّعبة اللّغوية لم تكن مجرد لعبة كما أزعم، والقصة لم تكن خيالا. هذا ما فهمته من تفاصيل المكان البارد المثقل باللون الرمادي و الأسئلة، ثمّ الصقيع الذي بدأ يتسلل إلي دواخلي، ذاكرتي. فشخصياتي الورقية أراها تتجمد، تتكور، تنسحب من المتن كحبات البلور الشفاف..تتشكل من جديد كسيل جارف. يجرف المكان... أحدهم قال: "وقعت أخيرا" يضحكون. الرواق المظلم سمعته يضحك هذا فأل سييء للغاية. يتبادلون الأدوار. بين السائل و المتهكم و المستفز.. عددهم يتزايد كلما ارتجفت. حكاية الحكاية قررت خوض تجربة جديدة تشبه استعراضا لغويا أو تحديا للذات. فالفكرة الجنينية لم تتعد كونها لعبة لغوية (أنا الذي فقدت خيط الإبداع بالتدريج، فقدت ثقتي في العالم الذي لم يتغير كما تريده قصصي) ثم بدأت في معايشة الفكرة من جديد، الأمر لم يكن سهلا إذ تحولت اللعبة إلي شيء أساسي ومهم في حياتي، قلت: "هي وبعدها الطوفان" اخترت مدينة مثالية، مسرحا لأحداث غريبة، أخذت الفكرة منحي دراميا جميلا، غير متوقع. بدت الحكاية واعدة و مغرية منذ السطر الأول: " الفئران كثيرة كبيرة تمرح في النهار كما الليل بغير رادع أو خوف حقيقي. مؤسف أن تجد نفسك مجبرا علي العيش بهذا الخلل البيئي... مثلما تأسف و أنت عاطل عن الشغل. أجلس القرفصاء.. رأيتهم... حول جثة لا هي بكلب ولا هي بوحش..من تكون؟هل هي فأر كبر بسرعة مذ اختفاء القطط أو تحولها كما يقول العارفون. أين القطط حتي تكبر بهذا الشكل الغريب و المخيف؟المشكلة أني لا أعرف كل ما يحدث في أرجاء المدينة ممن هاجر من الكائنات و ممن مات لا سمح الله فما بالكم بالقطط. .القضية مبهمة، ازدادت غموضا بتحول القطط إن كان هذا صحيحا، في ربيع صباحه صقيع و ظهيرته أشواك تزهر، مع ذلك فالأمر مفهوم أما مسألة الفئران... اجتمعوا مساء للنظر في قضية القرن، الأكيد أن القطط سببت مزيدا من الألم إما بوجودها أو باختفائها عصر ذاك اليوم في حينا الشهير بالمشاكل الكثيرة المتعلقة بالفقر والطلاق و المشدات العنيفة التي تحصل بين الحين و الآخر بين مشجعي الفريقين العتيدين بالسواطير و الخناجر. هذا ما تبقي من النص الأصلي وما أذكره. مساء أخرج من غرفتي مزهوا بالجمل الجديدة التي أضيفها للمتن القصصي. أو أقرأ فصولا كاملة من قصتي علي مسامع أعيان قريتي إرضاء لغروري. أتجرأ وأشاركهم كتاباتي. أجلدهم جلدا بالتفاصيل والبياض الذي اعتمدت عليه كعلامة مميزة في نص استثنائي. كانوا يصغون لهذياني باهتمام، بل كانوا يتساءلون عن إمكانية حدوث أمر كهذا. تجدهم يملؤون المكان لغوا و ضجيجا و بحثا عن حلول ممكنة للمعضلة. كلما خرجت من عزلتي أجدهم ينتظرونني في مقهاي. يسألونني عن الفصول الجديدة، عن مصير القطط إن عادت إلي شكلها الطبيعي؟ لن أتردد في قراءة الفصل الأخير، لن أتردد في الحديث بإسهاب عن الصراع الذي أخوضه ضد تلك الشخصيات الهلامية، الزئبقية(أضيف): "صحيح هي كائنات ورقية لكنها مؤذية للذاكرة و العقل. حاولت حصارها بأقل عدد ممكن من الكلمات، فكنت للآسف أنسف الفقرات نسفا لأسباب مختلفة" قصتي بعد كل عشية تأخذ بعدا غير متوقع علي الإطلاق، فمثلا كان المنطلق من تلك المدينة الرمادية فأنهيت إلي أزقة قريتي الصغيرة التي تعج بأشخاص رماديين و فئران تعايشت معهم لعشر ليال مرغما، مرعوبا من المصير الحتمي الذي ينتظرنا. تنحصر الحلول في قصة تشبهني. تزداد الفئران شراسة وعدوانية، بصعودها ونزولها من العمارات الشاهقة. الأغرب وغير المنتظر اختفاء القطط بفعل فاعل، أو تحالفت مع الفئران. المشكلة أعمق من ذلك بكثير. لكم أن تتخيلوا الرعب الذي أحدثته الفئران في تفاصيل المدينة. رعبها الذي وصل تدريجيا إلي ربات البيوت الحازمات علي إعلان الحرب ضدها ونقل الانشغال إلي رجالهن بشراستهن. وصلت القضية إلي البرلمان لمساءلة وزير البيئة باعتباره المسؤول عن تدهور البيئة واختلال التوازن في الريف و المدينة علي حد سواء. ومعالي وزير الداخلية، طبعا علقت الصحف في اليوم الموالي "بمزحة القرن" حسبما وصفها النائب المحترم المعبأ بهذا الخبر الذي يحتمل الخطأ و الصواب، الوزير نفسه لم ينف ولم يؤكد القضية، باعتبارها جديدة ومثيرة بالفعل، إن حدث و اختفت القطط مسألة في غاية الحزن و الخطر. انقطاع سلسلة غذائية كاملة أمر محبط. من بين النهايات التي فرضت نفسها في قصة لا تنتهي كما اشتهي، أن أضع نقطة نهاية ثم أستسلم للنوم العميق. المدهش و ربما صدفة جميلة أني لم أعط أي دور للشرطة، كالتحري مثلا لفك خيوط المؤامرة.. أو للبحث عن صياد محتمل قضي عن القطط بقصد إحراج الحكومة، بالمناسبة هذا الخلل الذي ارتكبته غير مقصود و ليس إساءة للشرطة. أنهيت قصتي علي عجل. كأني بتلك النقطة المعزولة أعود إلي..أرقص و أحب وأنام بالرغم من ذاك الكم الهائل من الجمل المقموعة. لا أخفي فرحتي و أنا أنهيها و أنا أرقص وأنا أخرج إلي أحياء حقيقية. تفاءلت خيرا بالقصة. لحظتئذ أو بعد كذا ساعة أذكر أنها أمسية حافلة بالأحداث و النكت، إذ أتفاجأ برجال الشرطة أمامي بالزي الرسمي، احتلوا المكان كما يجب أن يكون الاحتلال....أنت! هو السطر الذي ينقص القصة.. قلتها بوعي. حتي ولو تناسيت دورا، فالشرطة لا تنام في أحيائنا، أبدا الأمن ضروري في مدينتنا. أحدهم يسألني: أنت السيد...؟ قلت: أنا.. كانوا كرماء جدا معي في مساء أرجواني، طبعا جاءوا كما قيل لي منذ البداية طلبا في مشورتي في قضية الفئران التي هاجمت المدينة! لم أصدق ما سمعت. بهت للحظات. أمرني السيد الواقف أمامي قائلا: تفضل معنا. استجبت للدعوة كما يفعل كل الطيبين في هذا البلد. ركبت السيارة التي شقت الطريق الترابي، ثم انعطفت إلي الجنوب بسرعة جنونية. يتبادلون النظرات البريئة. أتفهم جيدا تصرفاتهم، تخوفاتهم من أدني حركة من أي مصدر مجهول، أتفهم تلك السرعة وتلك العنجهية التي يقابلون بها مستعملي الطريق الضيق.. "شكرا للشرطة التي تذكرتني بينما نستني كل الفراشات الصغيرات، وتلك القصص الجميلة التي حدثت بالصدفة" أرتب أفكاري، مستبعدا الأفكار السوداء، بالأحري أفكر في الحل الذي ارتأيت إليه في قصة لم تنشر بعد، تلك التي أنهيت فصولها للتو. كنت متفائلا رغم كل ما يقال عن شرطة البلد، متفائلا رغم أني أستشعر أخطاء كثيرة في القضية..مع ذلك بقيت في الكرسي الخلفي أراجع فصولا من قصتي، لعلي أنقذ المدينة، بل سأكون الأكثر شهرة علي الإطلاق، بأني الكاتب الذي تنبأ بالكارثة البيئية..رغم أني كتبت بسخرية لاذعة و لم أقصد أن أسيء إلي سمعة البلد -لا سمح الله-لا علينا. في مخفر الشرطة استقبلني أفراد الشرطة، ضباط كثيرون، و ذوو الرتب الدنيا يملؤون المكان. أحدهم متهكما علي ما يبدو قائلا: "ليس غريبا أن تستدعي إلي مقر الشرطة أليس كذلك؟" -" بلي... واضح و معقول.." جلست علي كرسي خشبي. عذرا إن نسيت بعض التفاصيل، إذ لم أصف لغة الشرطة الدقيقة المحكمة، كل كلمة في قاموسهم لها موقعها من الإعراب. نسيت، كوني أول مرة أدخل مخفر الشرطة، أصلا لم أعرف أن في هذا المقر الجديد الذي يتربع علي بضعة أمتار مربعة يسع لهذا الجيش العرمرم من الشرطة، يملؤون الرواق، يدخلون و يخرجون، يثيرون هلعا.. تراهم يخرجون من الغرف الضيقة كالنمل، مسدسات و هراوات و بنادق و كل أنواع الأسلحة. كلابات وبقع...دم للأسف، حكايات، قهقهات مروعة تسمعها بين الحين و الآخر، رنين الهاتف. أقرأ شعار الشرطة الأنيق:"الشرطة في خدمتك" لا أعرف ما يقصدون "بكاف المخاطبة" يخاطبونني أو يخاطبون من في هذا الدهليز ؟ دخل شرطي آخر. "...قف..." تقول الشرطية الواقفة وعيناها في وجه الداخل الطويل المخيف.. سألني بلا مقدمات: -"اسمك و هويتك وعنوانك بالكامل؟" تلعثمت، نسيت في تلك اللحظة فعلا من أكون؟ قلت: -"......كاتب" واصل وهو يحدق في عيني. -"نشاطاتك الأخيرة؟" أضاف: