يسعي الشاعر وليد علاء الدين في تجربته الشعرية الأخيرة التي يعرضها علي القارئ ديوان "تفسر أعضاءها للوقت" إلي المزج بين خارطتين لتحديد موقع الذات المشروخة بحثا عن ملامحها وظلالها الغاربة خلف العتمات التي تسود واقعا عفنا يقرفص علي قوي الذات، ويقحمها في سرمدها الآسن. وبذلك تكون القصيدة، في شتي تمظهراتها، مسعي لا للبحث عن شعرية ضائعة، أو بريق آفل للغة، أو وهج غابر للقيم الرفيعة، بل بحثا عن الذات، في تجليها، وانكشافها، وتمثيلها الآدمي، وتصالحها مع أناها الذي قد يكون الشاعر أو قد يكون أي إنسان يحمل وعيا مختلفا وأصيلا يما يعتمل في واقعه. لم يعد من مسوغات الكتابة الشعرية الإغراق في التجريد والصورنة، بل لفظ المشاعر في شكل كتل إحساسية عميقة تنتقي عباراتها من جوهر هذا الشعور المتدفق، فيكون بالتّالي، إيقاع الروح الشعرية هو المتحكم في إيقاع تموج النص الشعري... ولا تخرج القصيدة، هنا في تجربة الشاعر علاء الدين، عن هذا التوجه، حيث يطلق العنان، في لحظات مسترسلة من الضيم والقهر، لمخيلته الإبداعية، كي تجود بغليانها الرحيم الذي يطفئ لوعة الأقاصي في نفسية الباث، ويحرر الذات المهيضة الجناح بين عواصف شتي، من ربق التيه، ومسالك الضنك التعسة. فتغدو الكتابة نوعا من التطهير الذاتي، والسموّ بالنّفس من وحل الواقع المزيّف، الغميس بالقيم اللا انسانية التي باتتْ تجثم علي العواطف والرغبات والمطامح فتكلّسها، وتذريها رمادا في مهب الريح. وتصير الرحلة الشعرية تعويضا ومتنفسا وأفقا تتنفس، من خلال الذات الشاعرة أهوية جديدة، متدفّقة، لا مجال للكدر فيها، ولو كان ذلك من قبيل الاستعارة والمجاز والتخيّل. 1. الذات الباثة بين الطبيعة والوله: من جملة القضايا التي تعالجها المجموعة الشعرية، نلفي وجع الذات إزاء ما يمارسه عليها فراق المحبوب من عذاب وألم، وبقدر ما تروم القصيدة إلي توصيف هذا الوجع المنساب، بالتوازي مع تدفق الإيقاع الشعري، فهي أيضا، تسعي، وبالحجم نفسه، إلي رصد مظاهر الجمال والتفرد في هذا المعشوق، وخصوصياته التي تجعل الذات تتعلق به إلي هكذا حدّ. وسواء أكان هذا المقصود، في القصيدة، بالصبابة والوجد، أنثي فريدة الجمال، نادرة الخصال، أم ذكرا تتجلي فيه قمة الخلق والخلق، وتبرز فيه خصوصيات الإنسان، وتتماهي مع صفاته ونعوته الذات في صفوها وتجليها... فإن النظرة العشقية الصوفية تبقي حاضرة، حضور اللغة، والمعجم، والإيقاع، التي لا تغدو كونها سوي أقنعة للعبور إلي التجربة الصوفية المتميزة، باعتبارها تجربة قهرية رائدة في الحب، وسفر عميق من الروح وفيها، توقا إلي الالتقاء بالصورة المثلي لتجلي هاته الذات، في حضرتها العلوية المنشودة. إذ في نهاية المطاف، فالذات لا تعشق سوي ذاتها، ولا تتوق سوي إلي التعلق بصفوها العلوي بعيدا عن السفه السفلي، وارتقاء بالنفس إلي المظان المضمرة للروح المطلقة، وما من سبيل إلي ذلك، إلا عبر المماحكة اللغوية التصويرية، والمحنة الذات في العبور من حال إلي حال، ومن مقام إلي مقام داخل فضاء القصيدة الشعري والدلالي الملازمين. وفي هذا المدار تحلق الرؤيا الشعرية، لتسبح بين أفنان المترادفات والمتطابقات، حينا، ولتغوص في عمق المعني ونقيضه حينا آخر، مؤسسة، بذلك، شرطها اللغوي الخاص، ومشيدة بيئتها الصوفية التي تسمو حينا لتلتحم بشذاها الغامض، وتدنو أخري، لما ترتدّ، لترتطم بالتجليات السطحية وظلالها؛ يقول الشاعر معربا عن حالة القلق التي تعيشها الذات بين زمنين؛ زمن المحنة، وزمن التماهي مع نسغها المفقود: الروح ينهكها الفراق، ويضنيها القربُ، فأي النارين نقتحم؟ الغناء رديف البكاء، والرقص للعارفين. تُطلِّين ببهائك، فأخشي أن أنحسر، كان حضورك طاغياً، ولمساتك رقيقة وأنا غريب ما زلت. نلهث ونحن نغني، لأن القلب صدَّاح، ونحن لم ندرب أصواتنا علي الغناء، فلا باس أن ترتعش الحناجر قليلاً. العارف يرقص ويغني، والجاهل يطرب. (ص. 15) ويجنح الشاعر إلي مقومات الطبيعة، وعناصرها الجمالية، كي يثمن سمو الأحاسيس التي تطفح بها تعابير المقول الشعري، ويلوذ بها في استيهامات مستديمة من خلال مناجاتها له وحوارها الصريح أيضا، وكأنه يبثها لواعجه وشكاواه، فهي في نهاية المطاف، أم ثانية للشاعر الصوفي، ذاك الهائم في تجليات اللحظة الجمالية في صفائها، حيثما كانت، مثل النحلة إذ تظل تتنقل بين الورود والنوار والنبات الطيب، منقبة عن نسغ الوجود. إن الطبيعة بمعني من معاني النصوص، تعادل ذاك الستار الرهيف الذي يصل بين الروح الشفيفة الشاعرة المحلقة علي ضفاف الوجود، وعالم الصفاء المشرق النوراني الذي يمتد امتداد اللغة، ويتسع لقضاء كل المآرب بعيدا عن إكراهات المادة الواقعية،واستنادا إلي ذلك، تكون الطبيعة هي الموصل الواصل بين حساسية العالم الشعري وهلامية العالم الصوفي، وهي التجلي، عبر القصيدة، لهذا التواصل والتفاعل كما يشتهيه الشاعر الباث للخطاب، ويرغب فيه، ويتطلع إليه وينشد دلالته الهاربة المتسربة.يقول الشاعر في هذا الصدد: "حيث الروحُ معلقةٌ، يغفر المارَّةُ هذا الصريرَ، علمتهم الممارسةُ أن ُينصتوا، ثمةَ غناءٌ يعلّم الموتي الحياةَ، تلك تدريبات الروح علي الجفاف هناك علي الإفريز كل صوت قابلٌ للاستعادة، ضحكةُ الطفلة امتزجتْ بالماء، أنفاسُ النمر النافرةُ، غرغرةُ العرق في المسام، تلويحةُ البنتِ، انتباه الزغب حول العنق، انسحابُ الفصولِ، تآكلُ الحوافّ، وفوحُ الياسمين هناك علي الإفريز لا شيء يفصلُ الروحَ عن الرخامِ، البرودةُ تحرثُ الهواءَ، الوقتُ يفرز الظلالَ، ويُسقط الضوءَ في سلّة العتمة، ليس ثمةَ عابرٌ يهتزُ له كبرياءُ المشهد، لا صوت، لا حركة، إلا ريحٌ تعابثُ ريحانةً، وروحٌ تئنُّ هناك علي الإفريز العصافيرُ تبحث عن شيء خفي، تهزُّ الأغصانَ، لو يختفي فرعُ الريحانِ، أو يقصر قليلاً، لو تسمحُ شجرةُ الصّبار، لو لم يكن عُشُّكَ هنا، لاستطاعتْ أن تري الأنينَ، معطراً رقيقاً، ثقَّبته الرمالُ هناك علي الإفريز الحمامُ يتصفح رؤوسَ العابرينَ، وينشغلُ، ينتفضُ ريشٌ، خارجاً من دفء، تصابُ الروحُ بنفخةِ بردٍ، لا يخفف بأسَها خيطٌ من النمل، زاحفٌ نحو ثقبٍ هناك علي الإفريز"(ص.11) 2- توظيف السند البصري: يبدو جليا أن الشاعر علاء الدين يستثمر كل مكونات الخطاب الشعري، انطلاقا من إيمانه بالتكامل بين الشكل والمادة، والقالب والمعني، واستنادا إلي وعيه بأدوات الكتابة وأساليب صياغة عوالمها المتشعبة. لذلك فقد وظف السند البصري بشكل كبير، نوع من أشكال وصور تمظهر المادة النصية علي الورق، مما جعل هذا المكون وحده، يحتاج من المتلقين وقفة تأملية في ارتباطه التعالقيّ بالمعاني والدلالات المنسكبة في النص، علي اعتبار أنهما ملازمتين، خاصة أن الشاعر يوظف ذلك بوعي مسبق، وتفكير في الشكل، ساعيا إلي إضفاء التناغم علي مكونات الخطاب الشعري لديه، في تفاعل مع طبيعة اللحظة الكتابية، وأسرار الحضرة الشعرية الواصلة والمنفصلة. وقد استنبت الشاعر علاء الدين هذا الوعي المتميز في جسد القصيدة الفيزيقي، فباتت تنطق وتفصح بالأداتين معا: اللغة بما تحمله من مجازات واستعارات وسرود غميسة، وشكل تمظهر المادة الشعرية علي الورق، بما تتضمنه من تفصيلات بصرية، وتجلّ تشكيليّ. والواضح أن الشكل البصري لانبصام المداد علي الورق، أو ما يسمي في العالم التشكيلي بلعبة البياض والسواد، قد انتظم بإحساس مفرط، وفعالية عالية، وتذوق لتقنيات التصوير والرسم، وهذا يعني أن الشاعر ملم بالثقافة التشكيلية، وعارفا بتداخلاتها مع عالم القصيدة، وخبيرا لنطاق تقاطعاتها وحدودها. حيث نجد أن الكتابة تبدأ بشكل متدرج، في انصاف الأسطر الأول من الجانب الأيمن، خفيفة إيحائية، ثم تتوغل رويدا رويدا، فتبدأ الأسطر في الامتلاء، ويغلب السود علي البياض مهاجما إياه، لكن في لحظة تحول مفصليّ، تبدأ الأسطر في الانحياز إلي اليسار (يسار الصفحة)، وكأن المداد يتدفق مثل نهر جامح في اتجاه اليسار مُخليّا اليمين، مع حرص علي امتلاء السطور، استنادا إلي خصوصية الكتابة النثرية، وكأنني بالشاعر، يهفو إلي محو الحدود في لحظة من لحظات التّماهي الشعري مع السمو الصوفي للقصيدة وتجربتها العرفانية، ناهيك عن الاستعمال الكثير لعلامات الترقيم، خاصة نقط الحذف والاسترسال التي تدل، فيما تدل عليه، علي أن اللغة الشعرية وبلاغتها تعجزان عن التقاط ما يختلج لحظتها من تفاصيل البوح، وإشارات الذات وهي تشرق وتغرب، تلوح وتنطفئ.