الشذرات الأدبية نمط من النصوص القصيرة عرفت منذ القدم في الأدب العربي القديم والآداب الأجنبية، وفي تعريف النص الوجيز يحدِّده نيتشه بقوله:" الأقل عددا من الأصوات والعلامات والأكثر طاقة". والمتأمل للتراث العربي سيجد ثراء في كتابة النصوص القصيرة، وممارستها في عدة فنون تمتاز بالقصر وبلاغتها الفنية كالحكم، والأمثال العربية، والأقوال المأثورة، وفن التوقيعات، والنتفة(البيتان من الشعر)، والقطعة (مادون السبعة أبيات) كلها نصوص أدبية موجزة مع التفاوت الملحوظ في حجمها. وفي الآداب الأجنبية تضرب الأشكال الوجيزة جذورها في أعماق التاريخ، ويعد فن الأبيجراما الشعرية (القصيدة القصيرة) من أقدم الأجناس الأدبية ظهورا، إذ يعود إلي قرون ماقبل الميلاد. وتأتي تجربة نبيل درغوث في مجموعته (مبقّعة بالكذب) امتدادا لهذه التجارب الإنسانية المعروفة في العالم، فنصوصها القصيرة أقرب (للأبيجراما) في ومضتها الخاطفة المشعّة، واكتنازها بجماليات الشعرية. العتبة الأولي التي تسترعي النظر التقسيم الداخلي للمجموعة وهي أربعة أقسام معنونة ب( العتمة الفحمة - الجهمة - سكون الليل) هذه العناوين فيها محاكاة لما أثر عن العرب في تقسيمهم ساعات الليل إلي اثنتي عشرة ساعة، وكانوا يسمون ساعة الليل الثالثة بالعتمة ، وساعة الليل الرابعة بالفحمة ، وساعة الليل الخامسة بالجهمة. عناوين الأقسام الأربعة للمجموعة تحيل إلي الليل. والليل في الذاكرة الشعرية ارتبط بالوحشة والكآبة والحزن والخوف، فالدلالة الرمزية له تحيل إلي أحاسيس سلبية. فما هي إيحاءات الليل في عالم نبيل درغوث؟ يؤثر نبيل درغوث الخطاب الواصف مدخلا لقراءة مجموعته ، فيصافحنا التصدير بمقولة لبدر شاكر السياب تمجد الكتابة وسيلة للتعبير عما في الذات وفي ذيلها هذه الجملة "وأسفح نفسي الثكلي علي الورق" وهي إلماحة تهيئ استقبال نصوص قاتمة من ذات موجوعة ستبوح بكل ما يعتمل في وجدانها إيمانا بمقولة أدونيس "الشعر بوصفه رؤية تصوغ العالم" فلم يعد الشعر وسيلة تنفيس وحسب بل وسيلة تغيير وقراءة للعالم. يحفّز نبيل درغوث قارئه إلي استقبال ليله الكئيب بشيء من الترحاب استئناسا بهذه المقولات الواصفة للمعاناة الإبداعية ووظيفتها، ويتبعها بنصين بقلمه يشرح في أولهما مفهوم الشذرة الشعرية ومرتكزاتها الجمالية، ليبني أفق توقع للقارئ، يلج منه للمجموعة متجاوزا عبء التجنيس، وإشكالية المصطلح التي قد تربك خبرة المتلقي حين يطالعها علي غلاف المجموعة، وفي النص الثاني والأخير يفلسف رؤيته للكتابة بوصفها طاقة ملهمة تمدنا بأسباب الحياة في عالم يضج بالخوف وبالموت، ولا يختلف في هذا عن إيمان كل المبدعين بالكتابة دواء يلوذ به المبدع من وجع الحياة، ووسيلة لإثبات أننا علي قيد الحياة. ومما يلفت الانتباه في هذه المجموعة الخيط الشعوري الذي تشترك نصوصها في تنميته، إذ تتآزر جميعها حاملة تصورا موحدا يكشف عن جو مشحون بالقتامة، وذات متشظية بين عوالم اليأس والحزن ونوافذ الأمل، يتدرج نبيل درغوث في بناء هذه الرؤية بتوزيع نصوصه في أربعة أقسام معنونة ب( العتمة الفحمة - الجهمة - سكون الليل). وبتأمل مضامين كل قسم نلحظ التدرج في تصاعد نغمة الحزن والكآبة، حتي تصل ذروتها في الجهمة، لنتأمل نص (سفر الفجيعة) من قسم الجهمة: عابرًا أحمل أشيائي/ وألم أشلائي في قفاف/ "يَبْدَ الآنَ السَّفَرْ/ سَفَرٌ / سَفَرْ" / أشلائي للتراب / أشيائي للسماء وسلالي تقطر بي عليّ/ الفجيعة ليست في الموت/ الفجيعة أن تعلم الساعة / والدقيقة/ والثانية وحين يوشك الليل علي الرحيل يأتي القسم الأخير سكون الليل محملا بنصوص توحي بانفراج الأزمة، لم ينته الخيط الشعوري الحزين الذي يلّون المجموعة فقط خفّت حدّته، ومن نصوص السكون ( صمت) اختلي الصمت/ بيّ / أنصتّ للورقة / كتبت / كتبت بالماء حتّي ارتويت/ تاه الصمت/ فيّ ومع هذه الحفاوة بهندسة البناء وترتيب النصوص، تتجلي شعرية النص القصير في تقنية المفارقة، والإدهاش، والتناص، والانزياحات في تشكيل الصورة، وهي سمات تعزز من جماليات النص القصير و من خلالها تتحقق الشعرية. وبعد، مجموعة (مبقّعة بالكذب) في عصر الانفجار المعرفي ، والتحوّل إلي الرقمية، تتجاوب مع موجة الإبداع الإلكتروني المتمثلة في رواج كتابة الشذرات في مواقع التواصل الاجتماعي، ومعبرة عن إحساس اللحظة الراهنة المثخنة بالجراح والوهن.