لعشرين عاماً ظل توفيق أكليمندوس، الباحث المصري بالكوليج دي فرانس، يعد رسالة الدكتوراه في معهد العلوم السياسية بباريس تحت عنوان "النشاط السياسي لضباط الجيش في مصر من عام 1936 إلي عام 1954". رسالة أكليمندوس تكونت من 1600 صفحة، استطاع خلالها، بالاستعانة بمنهج "دراسات النخبة" في بعض الفصول، إعادة صياغة المشهد السياسي في الأربعة عشر عاما التي تمحورت حولها الدراسة. في هذا الحوار يمكن فهم أشياء كثيرة عن الشخصية الأسطورية لعبد الناصر، وعن خلفيات ضباط الجيش الذين قاموا بالانقلاب، وعن المشهد السياسي المصري بشكل عام عشية "الحركة المباركة"! نبدأ بهدفك من دراسة الناصرية، وهل تغيرت نظرتك لها الآن خلال رحلة بحثك؟ عندما بدأت في البحث كان لدي تعاطف أكبر مع الناصرية. مع بعض الإعجاب بالضباط الأحرار، هناك منهم أشخاص عظام، لا يمكن رمي زكريا محي الدين أو ثروت عكاشة بالجهل مثلا، لم يكونوا فاشيين مجانين، بالإضافة إلي أن كل من حاولوا إقامة إصلاح اجتماعي عميق، كانوا مقتنعين أن الديمقراطية غير صالحة في هذه المرحلة. كنت أريد الدفاع عنهم، هذا لا يعني أنهم معادون للديمقراطية بطبيعتهم. أما اليوم، وهذا بتأثير دراسات شريف يونس، فحتي لو تفهمت ما فعله عبد الناصر منذ 1952 إلي 1956، إلا أنني أري أنه كانت لديه فرصة كبيرة بعد 1956 ولكنه لم يستغلها. أنا بدأت في الدراسة ومشكلتي مع الناصرية هي أنها إصلاحات فوقية، لم تأت من الشعب، أما شريف يونس فقد بدأ من تحليل الخطاب. القصص حول قصة ثورة 1952 كثيرة ومتناقضة، كيف استطعت التوفيق بينها، للوصول إلي صيغة مرضية لقصة الثورة؟ هذا كان صعبا، ولكن يمكن القول أن النقطة الفاصلة في بحثي كانت في لقائي بالسفير الراحل جمال منصور، الذي كان يؤكد أنه هو من أسس تنظيم الضباط الأحرار عام 1944، وأن عبد الناصر سرق منه فكرة التنظيم كما أخذ منه ضباطه. ذهبت للقاء منصور في النصف الأول من التسعينيات. هو لم يكن محقا، كما أنه لم يكن كاذبا أيضا. ما حدث هو أنه أنشأ تنظيما في الجيش كان المبدأ الأساسي له هو التغاضي عن الانتماءات السياسية للعضو طالما يتفق علي أهداف وطنية عامة، وهي نفس الصيغة التي حكمت تنظيم الضباط الأحرار في ما بعد. جمال منصور أيضا يعتقد أن عبد الناصر أخذ منه رجاله بسلاح المدرعات، هذا صحيح، ولكنه لم يلاحظ هنا أن عبد الناصر لم يكتف بضم ضباط المدرعات الذين كانوا يتبعون منصور فحسب، وإنما ضم إلي تنظيمه أيضا الضباط الذين كانوا معه في الفالوجة بالإضافة إلي أعضاء الإخوان المسلمين، وهي الحركة التي كان ناصر عضوا بها من 44 إلي 49. هذه رواية، وهناك أيضا رواية مجدي حسنين الذي كان يدعي أنه كان عضوا في اللجنة التأسيسية بتنظيم الضباط الأحرار قبيل قيام الثورة. بحثت وراء هذه القصة وعرفت أصلها. صحيح أن حسنين كان عضوا بلجنة القاهرة، ولكنه لم يكن عضوا في اللجنة التأسيسية، وهي الأكثر أهمية، وكانت سرية. في عام 1952 كان أغلب أعضاء اللجنة التأسيسية بعيدون، عامر والسادات في سيناء وهكذا، وبالتالي كانت لجنة القاهرة هي المسئولة فعليا عن تسيير الأمور. وناصر لم يكلف نفسه بأن يشرح لمجدي حسنين أن هناك لجنة أخري أكثر أهمية، تركه يعتقد أنه هو من يقوم بإدارة أمر التنظيم. هنا كانت عبقرية ناصر، لقد ترك الآخرين يعتقدون ما يعتقدونه بدون شرح لحقيقة الأمور. وهكذا، الروايات الموجودة حاليا قد لا تكون حقيقية، ولكن ليس عليّ كباحث افتراض الكذب بها أيضاً. وماذا عن الحكايات المتناقضة بين الضباط والإخوان؟ أعتقد أن الميزة الأكبر لبحثي هي أنني استطعت ترتيب علاقتي بالإخوان، مع مشكلة وحيدة، فالنقطة الحساسة في هذا الموضوع ليس لدي أدلة دامغة عليها وإن كنت شبه موقن منها. يتعلق الأمر باتفاق حدث في مارس 52 بين الضباط الأحرار، وبين الإخوان، ومنهم صلاح شادي وحسن عشماوي، حول شكل مشاركة الإخوان في الانقلاب القادم. وافق ساعتها الإخوان علي مساندة الضباط في الثورة مع تأجيل موضوع تطبيق الشريعة لأجل غير مسمي، وعدم المشاركة في الحكم بشكل مباشر. فيما بعد، في يوليو، طلب عبد الناصر الإسراع بتنفيذ الانقلاب وسأل عن سريان الاتفاق فأجابه الإخوان أنه لابد من استئذان المرشد العام حسن الهضيبي أولا، ذهب الضباط لاستئذانه في الإسكندرية وهو ما تسبب في تأجيل الانقلاب ليوم أو ليومين. من نص الحوار نعرف أن المرشد قد سأل عن أسئلة مبدئية بدا معها أنه لم يكن مستريحا لصيغة الاتفاق لأسباب وجيهة جدا، فالاتفاق لا يلزم الضباط بشيء، وهناك التباس فيه بين كلمتي "مساندة" الإخوان للانقلاب و"مشاركتهم" فيه. يقيني الذي لا أملك دليلا عليه حتي الآن هو أن المرشد لم يكن يعلم بأمر الاتفاق من الأصل. أتساءل عن صعود الوطنية المصرية في العقود السابقة علي الثورة، كيف تفسرها؟ هناك رواية سائدة فيما يتعلق بالجيش أثناء الحرب العالمية الثانية. الرواية سردها المؤرخ تشارلز تريب. كتب أنه مع صعود علي ماهر في الحياة السياسية المصرية حاول القصر المزايدة علي الوفد في الوطنية. وبالتالي فقد تم طرح مشروع فكري بديل يوازن بين الهوية المصرية والهوية العربية والإسلامية. وحاول علي ماهر في هذا الإطار تشكيل مجموعات مساندة للقصر من الإخوان ومصر الفتاة وضباط الجيش، فقام بتكليف عزيز المصري بإنشاء تنظيم سري في الجيش موال للملك ومناوئ للبريطانيين. يضيف تريب أن هذا التنظيم وجد نفسه يتيما بعد طرد عزيز المصري من الجيش، وأنه هو التنظيم الذي انقلب علي الملك في النهاية، هذا ما يقوله تريب بدون إثباتات، ومستجيباً لغواية فكرة "انقلاب السحر علي الساحر". ولكن عزيز المصري لم يكن هو من أنشأ التنظيم، ما حدث هو أنه قد فوجئ بالضباط الصغار يطلبون منه رئاسة التنظيم، ولكنه ترك الباب مفتوحا، لم يغلقه أمامهم ولم يحب التورط معهم في نفس الوقت. كما أن التنظيم قد تم إنشاؤه احتجاجا علي طرده من الجيش، أي أنه لم يكن هو من أنشأ التنظيم. كتبت دراسة تنقض فيها الرؤية السائدة التي تقول بأن الجيش المصري بعد معاهدة 1936، أصبح أكثر مصرية مما كان قبلها، وأن العناصر التركية أخذت تقل بالتدريج فيه. نعم. هذا كان فصلا من الرسالة. بدأته بالفكرة النظرية، وهي استحالة إثبات من كان تركيا أو مصريا أو شركسيا في الجيش قبل وبعد معاهدة 1936. اكتشفت أن كثيرا من الضباط في الجيش بعد معاهدة 1936 كانوا أبناء لضباط قبل معاهدة 36، النتيجة المنطقية تقول أنه إذا كان الآباء مصريين إذن فأبناؤهم مصريون أيضاً، وإذا كانوا أتراكا، إذن فأبناؤهم أتراك. الأمير عمر طوسون مثلا كتب كتابا عن الموقف الوطني للجيش المصري في السودان بعد مقتل السردار، ووضع قوائم بأسماء الضباط المصريين الثائرين ضد الحكم الإنجليزي في السودان عام 1924. من أسمائهم نعرف أن كثيرا منهم كانوا أقباطا مثلا، وبالتالي فنحن نوقن بأنهم مصريون. وهناك نقطة أخري، صحيح أن الدخول إلي الأكاديمية الحربية صار أكثر سهولة بعد عام 36، إلا أن الأكاديمية لم تكن هي المصنع الوحيد لضباط الجيش. كان هناك دائما قبل 36 ذلك النوع من الضباط الذين بدأوا جنوداً ثم تدرجوا ليصبحوا ضباطاً، وهذا ما يفسر لنا شهادة يوسف صديق في مذكراته والتي يقول فيها إنه فوجئ بأن قائد وحدته لا يعرف القراءة والكتابة. كيف تفسر إذن صعود فكرة الوطنية المصرية قبل الثورة؟ هناك عدة عناصر. ثمة فكرة لا ينتبه إليها أحد وهي أنه ما بين 1919 و1939 لم تنجح حركة وطنية واحدة في العالم في الحصول علي الاستقلال. ثورة 19 نفسها برغم أهميتها الشديدة وريادتها لم تنجح أيضا. وفجأة ظهر السيد أدولف هتلر، مع إضعافه لمركز إنجلترا وفرنسا وإعادة تسليحه الجيش، أي أن هذه الأشياء صارت ممكنة فجأة. بالإضافة إلي أن حركات مثل مصر الفتاة والإخوان في العشرينيات والثلاثينيات كانت لديهما احتقار شديد لقواعد اللعبة السياسية كما كانت تلعب في مصر، ونتيجة لهذا فقد أمكن لهما مشاركة الجيش في التغيير، علي عكس موقف الوفد مثلا. في العشرينيات ذهب محمد نجيب ليحتج لدي مصطفي النحاس علي وضع ما فطلب منه النحاس عدم توريطه في الجيش، علي أساس أن اللعبة السياسية شيء والجيش شيء آخر. هذا لم يكن موقف الإخوان ومصر الفتاة. وبالتالي فقد أمكن تحقيق أشياء علي الأرض لم يكن يُسمح بها من قبل.