كلما رفعت عيني عن كتاب بين يدي، شعرت أنني استيقظتُ من حلم سحيق. أين كنت وأين صرت؟ وكيف حدث هذا التحول لعالم كنت أبنيه في عقلي لعالم يُبني من حولي؟ كيف هذا؟ وما هذا الآن الذي أنا فيه؟ هل أنا في عقل العالم بالفعل كما هو في عقلي؟ هل العالم هذا الاصطلاح الذي أكنه له يشعر بنا ندور فيه كما يدور فينا؟ ما الذي يحدث اليوم؟ طبيعي أن نقف قليلًا ونتساءل عن الوطن والحلم بوطن. أن نبحث ونحاول أن نعرف. هل هذا ما تركه لنا الأوائل وهو ما نحن عليه الآن؟ في ثلاثينيات القرن الماضي، كان نجيب محفوظ في العشرينيات من عمره وتقريبًا في مثل سنّي أو في سنٍّ قريبة. كتب مقالًا يلخّص فيه رأيه عن المشهد الأدبي وازدهاره، ويُرجِعُ الفضل في ذلك إلي العقاد وطه حسين وسلامة موسي فيوجه لهم شكرًا موجزًا لامتكلفًا ولامُصطنعًا جزاء صمودهم في معركة التجديد ضد التقليد، وفتحهم بابًا واسعًا لمعارك التنوير. لن أتحدث عن ذلك الوعي المبكِّر لنجيب محفوظ، ولكن سأتساءل عمّا لو أردت أن أكرر هذا المقال في القرن الواحد والعشرين. ونحن عبرنا قرنًا من خطوات التنويريين الأوَل وأكثر، من سأشكر؟ من ترك لنا ماذا؟ت نحن نرتد إلي ما قبل التنوير أصلًا ومازلنا متكئين علي تراث جيل النهضة الأولي في قرننا المنصرم. وأتساءل ولعلك تتساءل معي ما نفعُ كتّاب هذا الزمان، وما نفع كُتبهم؟ وهل مازالت الكتابة قادرة علي تعبيد الطريق أمام الباحثين والتائهين واليائسين من الحياة؟ هل مازالت الكتابة قادرة علي خوض الحرب؟ أي حرب، ضد الجهل والتطرف والفساد الذي ينخر في النفوس والعقول؟ هل لو زال كل يقين في الوجود حولنا، فهل مازالت الكتابة قادرة علي منحنا ولو جزءًا من اليقين؟ وما دور الأديب في هذه الحياة المتشابكة بالمتناقضات والمتخمة بالصراعات والهلاكات؟ وما الذي يتكبده لأجل مجتمعه وما مسئوليته تجاههم.. هل يكفي الأديب أن يكون موهوبًا فقط؟ وإلّا فكيف سيواجه كل هذه العداءات المحيطة؟ وكيف يمكن أن يحمل مشاعل النور في وجه الظلم والفساد؟ وكيف يفكك ثقافات ويعبر بمجتمعات بأسرها من أعمق نقطة في البدائية ليجتازوا سدود الحضارة ويطاولوا السماء.. في كتابه عن بودلير كتب سارتر يقول للأديب: أنت مسئول حتي عن الجرائم التي لاتسمع بها. إن التزام الأديب تجاه مجتمعه نابع من هذا التميز الذي ميزه عن الجموع وجعله يدرك ما لايدركون بسبب تعدد ملكاته وتفوق قدراته. وهنا نتساءل هل هذه الموهبة وهذا التفوق فردي النشأة مئة في المئة؟ ألا يُسهم المجتمع وتسهم الأحداث العابرة التي يمر بها الفرد في الشارع مصادفة وتسهم الطبيعة بأسرها في تشكيل وعي الأديب وإثرائه؟ من هنا يأتي الالتزام، التزاما لتفوقك الإدراكي ولكونك واحدًا من نسيج عريض أسهم في تكوينك بشكل أو بآخر. نوع من المديونية لمجتمع يحتاج إليك كي يخطو خطوات مضيئة تخلصه من قيوده وتقوده الي الأمان.. وهذه هي السمة التي فقدها كتاب هذا الزمان، فتراجعوا عن العمل بفاعلية في كافة المؤسسات التي تركها لهم الأوائل، فأصبح دورهم في الجامعة بعد ما كانت ميدانا للإشعاع والتنوير، مجرد عمل روتيني ورسائل الماجستير والدكتوراة وسيلة للترقي الوظيفي ليس أكثر. وصارت الصحافة تضيق بأصحاب الرأي العاري من التجميل والمواربة، فلفظت الأدباء بعيدًا لأنهم مزعجون ويعوقون أهداف الصحافة الجديدة التي بدأت تتطلع في مطلع السبعينيات لزيادة رقعتها الاقتصادية عن طريق إرضاء المجتمع، لاتوجيهه كما كان في السابق. وسلّم الأدباء، وتمادت السلطة في استعباد تسليمهم، فلم تصبح ظاهرة المجلات الثقافية التي كانت تقيم الدنيا وتقعدها أيام الاحتلال لها أي وجود تقريبًا، وصارت المجلات الثقافية التي تصدرها الدولة مجرد ديكور جميل يحافظ علي المظهر الخارجي وليس أكثر. لقد مارسنا التجهيل والتهميش علي أنفسنا حتي استحلنا كيانات خربة، خاوية، بلا معني، وتركنا الجموع الشاردة تضيع وراء كل جاهل أو فاسد أو خائن، وهجر كل أديب دوره ومسؤليته تجاه مجتمعه، واكتفي بالتقوقع علي ذاته يحبّر أوراقًا ويحلم بالخلود! ويحكم يا نخبة هذا الزمان! وكأنكم لاتعرفون كيف بُنيت الجامعة ومجمع اللغة وهيئات الثقافة والنشر في الدولة؟ كانكم لاتعرفون من كان يحارب مع الناس ضد الاحتلال وفساد السلطة ولقمة العيش؟ ألم يقدم أحمد لطفي السيد استقالته لأن عساكر الداخلية اقتحمت الحرم الجامعي ووقف أمام قبضة محمد محمود الحديدية؟ ألم يُحل طه حسين علي المعاش وهو دون الخمسين لأنه وقف أمام حكومة صدقي وقال باستقلال الجامعة؟ ألم يقف العقاد في البرلمان وقال وممثلو الشعب جميعهم معي قادرون علي دهس أكبر رأس في الدولة؟ ماذا حدث؟ ما الذي حافظتم عليه من نتائج كل هذه الحروب التي خاضها السابقون؟ كيف تقوقع الأديب علي نفسه اليوم وأصبح كل شاغله هو أن يحلم كيف سيأتي ناقد بعد ألف عام ويقول أنه كان بيننا عبقري في زمن ما لم تشعر به عشيرته؟ وكيف نشعر به وهو كالجدار الأصم يري ويسمع ولا ينطق بكلمة؟ كيف نشعر به وهو الذي إذا حمّلته الجموع مسئوليتها وألقت علي كاهله همومها ومظالمها وجدوه أعجز منهم، وأجبن منهم، ويؤثر سلامة نفسه علي تحمل مسئوليتهم، بل يلفظها وينأي بنفسه إلي قوقعته، ولا أقول برجًا عاجيًا كالمعتاد، فالأبراج تحتاج شجاعة الصعود، ومثقفو زمني يفضلون حياة القواقع والجحور علي حياة الأبراج. من العبث اليوم ونحن نتوغل في العقد الثاني من الألفية الثالثة، أن يكون كل دور المثقفين هو نشر الثقافة في مصر! ألا تستحون؟ إنّ التنوير موقف فكري. وليس الإقتصار علي مجرّد التأليف والترجمة والنقل من الغرب إلي الشرق. فكل خطاب حاول فتح مجالات جديدة أمام الفكر البشري وانتزاعه من الوهم إلي الفهم هو خطاب تنويري. ولنصارح أنفسنا، أننا نتعامل مع كل ما هو حديث في حياتنا العامة، لكننا نتردد ونتراجع عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الفكر الذي يوضح لنا كيف آلت الأمور لما هي عليه ويجلي لنا الصورة بلا أي تجميل. لقد صرنا نعيش في مناخ من الأدوات العصرية.. ولكن وراءها مستخدمون يحملون أفكارًا رجعية. كان من الطبيعي أن يكون لثورة الإنترنت تغيير جذري في موازنة المقروء والمرئي، فطبيعة التعامل مع الإنترنت تلتزم في أبسط شروطها التعامل اليومي مع الكلمة المكتوبة. لكن أعداد المتعلمين الضخمة واستخدام الانترنت المشاعي، لايعني بأي حال أننا متحضرون، أو أننا تخلصنا من جهالات الماضي. هناك فرق بين أدوات الحداثة المادية والحداثة الفكرية التي صنعت هذه الأدوات. نحن حتي اليوم عاجزون عن الصنع، وهذه هي قضية الإستهلاك التي جعلت الوضع العربي العام أشبه بالفصام بين الفكري والمادي. هكذا الوضع، فنحن نألف الثقافة المسموعة، هي هويتنا بشكل أو بآخر، والخطابية واستخدام الصوت هو تاريخ عريق للعرب، يظهر في خطاب الزعماء، في أداة الراديو، لكن بعد الثورة البصرية؟ هل تغير الوضع؟ كلا، ويمكننا أن نلاحظ أن إعلانتنا كلها ترتكز علي استخدام الصوت لا الصورة، يمكن انتزاع الصورة من أي إعلان في التلفزيون وسيصلنا واضحا معناه غير ملتبسٍ بأي حال. ذلك لأنه صار استخدام الصورة ليس بمقومها الجمالي، ولكن بوعينا نحن الشفاهي صنعنا الإعلان وتحولت الصورة لمجرد تفسيرات لهذا الصوت أو بالأدق هي صور توضيحية. لعل هذا الأمر ظاهر في السينما أيضًا بشكل كبير، فنحن لم نستفِد من تجربة السينما الصامتة مثلما استفادت أوروبا ولذلك نجد أن علاقتنا بالصورة واهية ودلالة الحوار هي القائم الأساسي في أفلامنا وليس إحالات الصورة. رغم أن هناك تجارب فردية تخطت هذه المسألة، ولكن.. كل هذا التراث السماعي المتنكر للحضارة الراهنة أخرج عقولاً تعمد للإستدلال المباشر دون أن ترهق نفسها في التفكير مما انعكس علي مختلف مناحي الحياة التي مُثلت فيها هذه العقول. وببساطة؛ إنك الآن في عالم يمكنّك من اقتناء آلاف الكتب بضغطة زر واحدة، ولكن الناس لايقربون هذه الكتب ولايعرفون ما فيها، وبالتالي فإن الثقافة اليوم في حاجة إلي تفعيل وتنفيذ.. لكن المشكلة في وعي المثقفين الذين لايرون أهمية الطرح السياسي وأولويته التي تسود علي جميع مناحي الجدلية الإجتماعية عبر التاريخ. وهذا ما عمقته الأيام الفائتة، فالإقتصاد والسياسة والعلاقات الإجتماعية في وادٍ، والثقافة والحضارة تمت إلي عالم آخر، يسوده الفن والفكر. وهذا ما يستدعي السؤال: كيف حدث هذا الفصام؟ هذه الفجوة العميقة بين قضايا المجتمع وقضايا المثقفين؟ وربما لو وسعنا الدائرة بشكل أدق، لأدركنا الخلل بين المشغولين بقضايا الطرح الحضاري، وبين المؤسسة الفاعلة علي الأرض، ولنكن متسقين مع أنفسنا فهذه المؤسسة (بكل تفاهتها، وجهلها، وفسادها الأخلاقي والفكري) هي التي تحقق تواصلاً أكبر مع المجموع لأنها تتعامل معهم مباشرة. وهذا هو التناقض الذي عرفناه في ثورتنا الأخيرة الذي باعد بين أهل الثقة وأهل الكفاءة. فلو لم يجد المثقفون الطريق الذي يتواجدون من خلاله بفاعلية داخل كل مؤسسات التعليم والثقافة في دولتنا المعطوبة هذه، فلا قومة ولانهضة لهذا البلد ولو بعد مئة عام.