بعد عقود من صدورها يعيد الكاتب/ بكر الشرقاوي طباعة مسرحيته أصل الحكاية، والتي تكشف وتثير الأسئلة والإشكاليات بمستويات مختلفة، فالنص استطاع تجاوز الزمن فبدت المسرحية وكأنها كتبت اليوم، والزمن هو أحد محاور النص وأسئلته المتعددة والكثيفة، ومن الإشكاليات الرئيسة ما يتعلق بمصر القديمة.. إذ يمثل الموروث المصري القديم إشكالية كبري داخل الثقافة المصرية علي المستويين الشعبي والنخبوي، فثمة فجوة متسعة بين الحضارة السالفة علي ضفاف النيل وبين من يعيشون الآن في المساحة ذاتها وحول النهر الذي شهد نشأة نظريات عديدة حول الخلق ووجود العالم، وعرف الضمير والأخلاق، فالحضارة المصرية كانت بداية المدنية، ولم يقرب الأدب الحديث في مصر من تلك المنطقة التي تشكل جزءًا من هويته بل أساسها إلا في أعمال قليلة أغلبها كان مستمدًا من حكاية أوزير وإيزيس والصراع حول الحكم وبجانبها القليل مثل روايتي الأستاذ/ نجيب محفوظ "كفاح طيبة" و"رادوبيس" وهما بداية مشروعه الروائي... وفي مسرحيته أصل الحكاية يلج بكر الشرقاوي تلك المنطقة الخصبة البكر التي لم يقترب منها أحفاد قدماء المصريين ولا أقول الفراعنة فكلمة فرعون هي من بين ألقاب الملوك وتعني ساكن البيت الكبير أو الساكن جوار رع.. ويبدأ مسرحيته التي ضمت ثمانية فصول وضع لكل فصل اسم"اليوم" وأعقبه بعدد فكان اليوم الأول فالثاني إلي اليوم السابع ثم تختتم باليوم الثامن الذي تنتهي به المسرحية بكاهن ينعي"آتوم" وجاءت الأيام السبعة وكل منها يحمل مشاهد وفق رقمه حيث اليوم الأول يتكون من مشهد واحد ثم الثاني من نصفين فالثالث من الثلث الأول فالثلث الثاني ولن أتوقف كثيرً أمام دلالة الأيام السبعة وما تحمله من تراث لاهوتي يدور حول قصة الخلق وفق ما رأي العبرانيون في أدبهم فنحن في حضرة نظرية الخلق في"آون" الإطار الكبير للمسرحية بداية من آتوم الذي هو بداية العالم وفق نظرية عين شمس "آون" فهو من أوجد نفسه وليس كمثله شئ والذي كان علي الماء "نون" وخرج من الماء ليصنع العالم ثم تتابع الآلهة والصراعات بينها والتي تختلف عن صراعات الآلهة والبشر في الأولمب في الميثولوجيا الأغريقية وما طالعناه في التراجيديا الإغريقية عند سوفوكليس وايسخليوس وهذا الاستعراض لبنية النص وعوالمه ضروري إذ أن بنية النص وعوالمه تتعلق بمضمونه ومفتاح للقراءة مثلها في ذلك مثل عتبات النص دون أن نتثاقف بكلمات كبيرة مثل "المحايث" عن جسد النص... ونحن أمام مسرحية ذهنية تبدأ من فكرة الماهية والوجود والزمن وتنتقل إلي رغبات الإنسان وصراعات الأباء والأبناء وتبدو فكرة قتل الأب ساطعة داخل النص باعتبارها أحد رموز التمرد والثورة والتجديد أيضًا، وبالرغم من أن المسرح الذهني لاينتظر غالبًا الدقات الثلاث علي خشبة يحيي فيها الممثلون جمهورهم فاللغة الشفاهية القريبة من العادي والمتداول تجعل المسرحية صالحة للعرض علي الجمهور فعلي الرغم من أن شخصيات المسرحية آلهة مصرية قديمة بما يحمله ذلك من معرفية فقد تجاوز هذه الحالة الذهنية وأسبغ علي شخصياته سمات إنسانية وقدم مستويات عديدة للأسئلة التي تبدو بريئة وبديهية كالصراع بين الأب و الأبناء والرغبة والشهوة والصراع بين العلم والموروث الديني والاجتماعي، وبالتأكيد عندما نتحدث عن مسرحية ذهنية نتذكر أشهر المسرحيات الذهنية والتي جاءت علي يد واحد من أهم كتاب المسرح وهو الأستاذ/ توفيق الحكيم وهناك عوامل مشتركة بينهما في استخدام الأسطورة وإعادة توظيفها وطرح الأسئلة الوجودية بمستوياتها وإن كنا أمام عمل يعيد اكتشاف الآلهة في الميثولوجيا المصرية ويمنحها سمات إنسانية خالصة ذ للتأكيد علي إنسانية مصر القديمة ذ ويقدم صراعا ديالتيكيا عبر المسرحية التي تنتهي بالحكم بإعدام آتوم أمام المجمع المقدس وصعوده للهرم الأزلي بعد محاكمتين مرة أمام الأب "نون"ذ الماء المقدس ذ والأخيرة أمام الأبناء حيث تبرز فكرة قتل الأب لتتصدر المشهد ومعها تقديم تحوت بعد انفجار معمله لاختراعه "ماعت" التي تمثل الضمير عند قدماء المصريين وعبدت كإلهة للعدالة واعتبارها البديل للإله (الأب) ومع تعدد مستويات الصراع وتنوعه من خلال المسرحية التي تذكرنا أن أول مسرحية عرفها العالم كانت المسرحية المنفية أو المحاكمة "حيث يتصارع حور و ست حول الأحقية في العرش وهي المسرحية التي لم يعثر عليها كاملة لكن ما وصل إلينا يؤكد أن المصري القديم هو أول من عرف الدراما والمسرح وعبر المسرحية نجد لغة مكثفة ومشحونة بالدلالات والأسئلة وفي الوقت ذاته شفاهية أقرب إلي العادي و المتداول وهو ما يمنحها ثراء إذ اللغة ليست هدفًا في ذاتها بل وسيلة لحمل الخطاب إلي المتلقي فأبوفيس وهو شخصية محورية داخل المسرحية وأكبر أبناء آتوم يقدم مراوغاته وتحولاته عبر الخطاب الشفاهي من الطفل المطيع إلي المتمرد نجد ذلك في: آتوم: إنك طيب يا أبوفيس أبو فيس: أنت أب رحيم يا آتوم. دعني أحتفل بك. آتوم: لا..لا.. أشكرك أمامي مهمة عاجلة الآن... سأصنع للمولود سريرًا كما صنعت القارب لنفسي من قبل.. صه سأتدبر في قول حكمة أسجل بها هذا الحدث. أبوفيس: إنك لن تقول حكمتك قبل أن أحتفل بك أنت وأخي الصغير، أليس رائعًا أن يكون لي أخ... تري ما معني هذا ؟ آتوم: ليس للأخوة أي معني حتي الآن. ص 9 فينتقل إلي النقاش والجدل آتوم: جميل جدًا.. أن الأمر يزداد غموضًا. أبوفيس: وهل في هذا أي غموض.. إنها امرأة. آتوم: هذه هي المشكلة. لقد تغيرت أشياء كثيرة في هذا العالم دون أن يصبح واضحًا. أبوفيس: إن كل شيء واضح. لقد خلقت المتعة في هذا العالم وعلينا أن نستغلها. هذه هي كل الحكاية ص 20 إلي البحث عن سيادة العالم في اليوم الرابع وصراعه مع أنوبيس وهو صراع يبدو عائليًا وكأنه بين أفراد الأسرة الحاكمة أو داخل قصر الرئاسة بين الوزراء والقادة إلي أن ينتقل في اليوم السابع إلي المطالبة بقتل أتوم وتوجيه الإتهامات إليه بل ويطالبه بجسده بعد موته أبوفيس: وداعًا يا أتوم آتوم: وداعًا يا أبوفيس أبوفيس: لقد عشنا سويًا حياة عظيمة آتوم:هذا صحيح أبوفيس: اذن أرجوك أن توصي لي بجسدك بعد موتك كي ألبسه عند اللزوم. ص 129 وقبلها ص 129 يوجه إليه السؤال الأبدي والإتهام الذي يحمل الأسئلة والرغبة في الخلاص منه أيضًا أبوفيس: لماذ فصلت بين الجسد والعقل ص 126 وقبلها كان يطالب آتوم بطرد نفسه من العالم ويعلن أن الجميع معه ضد آتوم. ومن خلال شخصية الا لهةسهاتورسيظهر تعدد الأصوات داخل المسرحية وكسر مطلقية صوت الكاتب حيث بدت لغتها الأنثوية ظاهرة الاختلاف وطغت الايروتيكا بتلقائية شديدة تصاحبها روح المصرية بدلالها وخفتها. ولايمكن أن نتغافل عن دور رع و تحوت وما يمثلاه داخل النص فالإلهة غدت رموزًا تحمل رغبات البشر و صراعاتهم بل وتعدد الأنا الواحدة من العليا إلي السفلي بما منح النص اتساعًا غير محدود من خلال قصة الخلق في"أون" والتاسوع المقدس عند قدماء المصريين، وجاءت اللغة محملة بالاسئلة والدلالات وشديدة التكثيف تبرز رغبات البشر وأحلامهم وكأن الآلهة مجرد أقنعة لحمل خطاب ذو مستويات عديدة يكشف خلالها عن صراعات سياسية واجتماعية عديدة داخل المجتمع لتكون فكرة الخلق عند المصريين في حضارتهم هي البراوز الذي يضم داخله صورة بانورامية للعالم بأحلام ساكنيه وطيشهم وحماقاتهم والعداوات التي لا تنتهي بين الأخوة وخلال هذا الصراع يطرح أسئلة وجودية حول الزمن والعقل و الجسد ويبرز رغبات الأنسان من خلال تعدد الأنا فهاتور الأنثي تجسد حالة أيروتيكية تتجلي داخل النص والرغبة في الجسد لا تتوقف وتنتهي المسرحية بموت آتوم وظهور الكهنة وهي لعبة من بين ألعاب عديدة حيث المسكوت عنه يسطع تمامًا كخطاب كاهن آتوم الذي لم يظهر مضمونه فالكهنة دائمًا هم باعة الدين وتجار الآلهة لقد أنتهي آتوم كما تقول المسرحية واستمر الكهنة ومعهم الموت والصفر الذي نبدأ منه و ننتهي إليه، إنها حالة خاصة في الأدب العربي الحديث أغفل عنها النقاد برغم ما حظيت به من اهتمام نقدي إبان صدورها للمرة الأولي حيث كتب عنها الناقد الراحل د/ سمير سرحان دراسة مطولة قدم بها بكر الشرقاوي ككاتب مسرحي شاب وهاهو الآن نصه يحمل الطزاجة ذاتها ويفتح أبوابًا لتساؤلات عديدة بديهية ويضع فوق منضدة التشريح أحداثًا تاريخية ونصوصًا عديدة من خلال حالة جدلية هائلة أثارها وتفاعله مع حضارة أهملها الأحفاد بتصوراتهم الحمقاء عن الحجارة والتماثيل وتناسوا أن خلفها تراث أخلاقي وديانات كانت بداية للضمير الإنساني والقانون وفي الوقت ذاته يضعنا علي حافة سؤال لاينتهي عن الإلة والكاهن وجدلية حول العقل والجسد ويهمس لنا أن قتل الأب لم يكن أوديب الملك الأغريقي هو بدايته بل فيسجبتسبداية الصراع بين الأجيال من أجل ان يتطور العالم وأن العلاقة بين العلم والدين تظل محل تساؤل حتي لو انفجرت كل معامل تحوت أو ذهبت الإلهة إلي قمة الهرم الأزلي لتقضي نحبها ومع نهاية المسرحية حيث يعلن الكاهن موت آتوم أجدني أعود إلي بدايتها مع كلمة الكاتب ( انسوا هذه الحكاية.. فهي ليست بداية ولا نهاية..).