1 بدأت القصة برواية، وانتهت برواية. قد لا تكون انتهت، مادامت الرواية حياة.هذا ما حكته ريم بعد أن أطفأت روايتها الأولي.حكته علي الورق.دونته خيالا، وأنا الذي تصيده بمهارة من يجيد صيد اللآلئ.أذكرها حدثتني في أول هاتف رن، وأنا ألبس صباحي باحثا عن عن مقعد شارد وقهوة في:»face à la mer«، حيث حلمت بجلسة رفيعة إليها، هي التي تسامي عشقها للبحر.كانت حدثتني عن رياضة المشي التي لم تكن لتبدأها صباحا، وإنما في الحادية عشرة ليلا، لربما في مكالمتها الأولي بالذات. إلا أن ما أذكره كونها طلبت مني قراءة أسفار همنجواي وهنري ميللر. لا أعرف بالضبط من حدثها عن عشقي للسفر. قد تكون استشفت دفق الحنين فيما كتبته، أو عبر رسائلي التي وبرغم تقطعها لم تكن لتتوقف. أمس كاتبتها صباحا والفضاء يتلون بحمرة خجولة.لا أعرف لم يعجبني مكاتبتها صباحا.أخبرتها بما تكتمت عليه وصوتها يسكنني، وأنا أبحث عن مقعد شارد يري إلي البحر، وقهوة تعيد لملمة شتات الذاكرة. في تلك الرسالة التي قد تكون المائة(أتخيل ولم أعد)، أخبرتها بسقطتي وقد نيفت علي الستين.كانت الثانية بعد أولي طوت، وأنا دون العشرين.لا أستحضر التفاصيل في ألق دقتها.وإنما أعي تمام الوعي بأني فتحت عيني علي وجوههم: الفقيه السي بوشعيب يتلو القرآن الكريم ويده علي جبهتي.أمي فاطمة تمسك يميني بين كفيها عصفورا تدفئه. وجدتي السنبلة شاهدة الزمن الأمريكي أدارت الظهر ل »الغرب« منتصبة بقامتها النحيلة تري ما يحدث للطفل المندور لرياح الانكسار إلي الأبد.لم يدر ما حدث تلك الظهيرة، وإنما تلقي الحكاية كغريب. حكاية الطفل الكاد يسقط في الطريق إلي بيت النظافة، لولا أن يدي الجدة السنبلة سقطتا من السماء..قيل بأن الجسد ثقل إلي حد لا يوصف.وأن أمي في صحوة صحتها ألقت به إلي ظهرها غطاء صوفيا بلله الماء المتقاطر.لم يخبر كم دامت غيبوبته وهو مستلق في الغرفة التي دأبوا وسمها ب:»البيت الكبير«.كان ينام علي فراش والده الذي طوي بعد الهزيمة سنة ويزيد، لتعاود السقطة الجلوس علي كرسي الحياة.كأنها لم تنته.لم تمت.أو أن نهايتها مقرونة به وقد شاخ زمنه. 2 كم من الحنين.. كان فجرا.فجرا رتبت إيقاع رؤيته لأول مرة ممدة بظمأ جسدي علي الجهة اليسري من السرير، فيما مكانك خال.ومن النافذة يتدفق ضوء أعمدة كهرباء الشارع الرئيسي الأصفر.توحده الصمت والسواد.لم أكن أحس أشياء الغرفة النائمة والتي لن تستيقظ إلا وقد امتدت يد. أحس الحياة مغرقة في الموت، وأنا العمياء لا أري..أستعيد ذكريات طوت صفحات كتاب.أحيانا يحلو لي أن أصوغ جملا في ذاكرتي أخشي أن يمحوها حلم، أو ضربة سهو طائشة.ومن مكان يصعب تحديده، جرحت القوقأة صمت الليل، ليعقبها نباح كلب لحوح.عندها تسربت خيطات البياض.أري جهاز الهاتف علي اليمين.المرآة في مواجهتي حيث دأبت إلقاء نظرة علي محياي يقظة صباح، حالة مغادرة البيت، أو اندياح السواد.الآن أري مكتبي الصغير. المكتب الذي أطفأت فيه جراحات رواياتي الأولي. علي صفحته بدت يوميات أنانييس نن.ليلة البارحة لم أستطع الاسترسال في قراءتها.اكتفيت بالاستماع لريمسكي كورساكوف. بالضبط لمعزوفته »موسيقي شهرزاد« التي آثرتها منذ السماع الأول.أذكره كان في بيت الشاعر وديع حال احتفائنا بعودته الأولي من روسيا الكلاسنوست.لكم دعاني لما أحس ولعي الناري بالجليد.إلا أني لم أفعل. فقط اكتفيت بالقراءة عنه في رواية صنع الله إبراهيم. ومنذ عودته اختار الرهان علي إيقاع منفي الذات. وحدها رسائله ظلت تمطر. و وحدي نسجت دائرة العزلة التي أبددها بمهاتفتك أنت بالذات. البارحة نمت علي موسيقاه إلي أن هجست تلويحة الفجر، حيث رتبت إيقاع رؤيته لأول مرة. بعدها غرقت وقد ذاع اكتمال البياض. لا أعرف لم أحسست الفراش باردا جدا.أدس يدي بين فخذي العاريين بحثا عن دفء مفقود.أحيانا أنكمش ويتقوس ظهري كقطة، وأنا أفكر في غطاء ثان كمحمومة تصطك أسنانها من شدة البرد.أتقلب يمينا. شمالا، لأموت في الوحدة وصمت الفراغ. آه كم من الحنين. وقد انتصف النهار، وغزت أشعتها الغرفة، فكرت في مهاتفتك. 3 كان صباحا لم يشبه قط اسمك. صباح قد من ربيع بلل نداه لحي الشجر، وسيقان العشب الأخضر التي رقت في دقتها. أعبر فضاء الحديقة باتجاه المقهي وحيدا إلا من أصوات طيور كسرت صمت المدينة النائمة علي الأطلسي. إلي الخلف ينام الشارع الرئيس يتيما. كأن المدينة ولدت من الغيب. أو أن ساكنيها هجروها أو جاءوا للتو. هنا صحت الطفولة بحثا عن حياة سامية، وجدت الأقدام متقصية تفاصيل الزوايا المغرقة في العتمة. أمامي ارتسمت لوحة الأزرق. كان في هدأة الربيع تخترقه مراكب الصيد الكبيرة والصغيرة تسمع محركاتها من بعيد، فيما حلقت طيور قد تكون من فصيلة الحمامي، الكحافي، أو الزعرة والمطرك. كانت في الأعلي يغازل جوعها صيدا يبدو ثمينا. في»face à la mer« عثرت علي مقعدي الشارد وقهوتي. ليس أمامي سوي الأزرق..أستحضر خيالك الروائي لما يستدعيه. لم يكن يرغب رؤيته أزرق، بل ممزوجا بالغبار. لا أعرف بالذات كيف ضج صوت محمود درويش لحظتها في ذاكرتي. محمود السامي في أناقته. كان يتغني بحرا خريفيا. بحرا رصاصيا لم يتأت لي رؤيته إلا وقد نيفت علي الستين. لم يكن البحر كما دربنا صحو الحياة يعني شيئا بالنسبة لنا نحن أبناء المدن البحرية سوي في الصيف، حيث تطفئ الأجساد نار الحرارة في ملوحة الماء التي تغافلنا لنتذوقها مرغمين. أما والبحر بلون الرصاص ومحمود يقف تحت ضوء شاعري أصفر بعويناته الطبية، شعره السلسبيل، ربطة عنقه الحمراء السائلة علي الرمادي، ويده اليمني تشكل القصيدة في الهواء، فيما اليسري تمسك الورقة البيضاء أو الديوان. كان البحر رصاصيا.مات محمود ورأيته. في الخريف الأخير حدث. لأزيد من ساعة جالست الفراغ والموج يتكسر قريبا من مقعدي النابت علي لسان الماء.آنذاك عرفت ماء بلون الرصاص، ولم أعرف الرصاص. وحده محمود نجا من رصاصهم ذات بيروت. وأما أنت فلم يكن ليستهويك لون البحر الأزرق. كنت تؤثرينه ممزوجا بالغبار. أربعون سنة ويزيد، لتعاود السقطة الجلوس علي كرسي الحياة. لم أعرف كيف تلبست جسدي، بل إني لم أعرف كيف أسلمت هذا الجسد في لحظة إلي أيديهن ليصغن برشاقة أناملهن نحتا علي مقاس الحياة. لم أر سوي الأحمر. الأحمر في شفاههن الرقيقة الدقيقة، أو الغليظة الغارقة في شهوة العشق لقبلة خاطفة مجنونة. والأحمر المسروق من جسدي العليل إلي مختبرات التحليل والتعليل والتطبيب. آنذاك اهتديت إلي أني لم أعد الذي كان، وإنما آخر. وليس بين يدي الآن سوي مصارعة » التبنيا« دودة ماريو بارغاس يوسا التي أحالت أجساد نساء سمينات ابتلعنها إلي نحافة ملكات الجمال، مثلما صاغت حياة خولي ماريا لخدمتها كما أخدمها الآن.(!). هكذا بدأت الحكاية ياريم الجنون، وليس»جيم الجنون«.. حكت أمينة في ليلة الصيف الأولي أن التفاتة حانت وقد عم الظلام في ساحة الغرفة، لتجد جسدي إلي الأرض مبتلا. لم تدر ما حدث، ولم يتلق بريد الغائب الرسالة. حينها أدارت هواتف العالم لأفتح عيني محمولا داخل سيرة الإسعاف.لم أعرف كيف أرد، سأرد علي وجوه تمتمت أسئلة. وأما الطبيب فأعلم الجميع بأنها لحظة هبوط السكري وصعوده، وألا خوف علي هذا الجسد.عندها انتهت سقطتي الثانية، لأجدني بين اللواتي تقطر أناملهن عافية وعشقا. هذا ما تكتمت عليه، فيما صوتك يسكن خلايا جسدي، وما اخترت نثره في هذه الرسالة التي أتخيلها المائة. (!): ماريو بارغاس يوسا:»رسالة إلي روائي شاب«.. 4 لو أني كنت ظلك.. لو أني ركبت قطار اللحظة لأعاين دقة التفاصيل، وأجد في لملمتها..ما أظنك كنت حينها في حاجة لوجوه ظل بريدك غائبا عنها. وحدي من يخبر لحظة سقوط بريدك قطرة ماء علي قحفة الرأس. وحدي من منح هداية قراءة الثاوي بين السطور و تأويله خدمة لزمن عشقنا السامي. و وحدي من أنار ينير امتداد شارعك المظلم. أعرف بأنا لم نلتق علي جسر الحب الخالد.إلا أن رسالة الغيب المخبوءة لا أحد يعلم سر أسرارها. لو كنت، لمنحتك نوري ليستعيد الجسد عافية الجلوس علي كرسي الحياة. أعرف بأن لي رؤية.وأنها تختلف تمام الاختلاف عن رؤاهم..وأنك بالذات من لا يمكن لهذه الرؤية أن تخطئه في أقصي الأقاصي. أذكر أني هذيت، وأنا أقرأ رسالتك الصباحية فيما فضاؤك يتلون بحمرة خجلي. هذيت أمام جهاز الهاتف الأسود الأخرس في الأندر النادر من اللحظات. لم يعد لي من يمكنه تدوين قصيدة الرنين بعد أن طواهم الغياب أمواتا وأحياء. إلا أني لا أخفيك صرت أترقب انتهاء رنينك من البلد الذي تساميت موتا في عشقه، بانتظار اللحظة الغائبة، سر الأسرار الذي حكته جداتنا.السر الذي لا يمكن أن يكون إلا وليد صدفة غرقت في جنون الغيب. لن أنسي أبدا بأنك هتفت. وهاتفك منحني من قوة الحياة ما لا أجرؤ علي وصفه. كان النوم استغرقني إلي أن لبست ثياب نوم الضحي. إلا أن إلحاح رنينك طرد بقايا النوم الساكنة حنجرتي. لم أقرأ لحظتها إيقاعات صوتك. كانت تتدفق للمرة الأولي عبر الهواء. تتحدث وتبتسم. لكم أيقظت في بسمتك ربيع أمل خبا وانطفأ. في البداية رفضت إزاحة قناعك وتبيان هوية الصوت القادم من بلاد الغروب، كما تمثلها دولاكروا. وبالرغم من حدسي التائه، اشتعل فراشي فرحا وأنت تلفظ اسمك النبيل نبيل.ثم أحسسته يكتب في أصغر زاوية من زوايا الشقة التي أشغلها بالطابق الأول، في المدينة البحرية الصغيرة التي كدت أحدق وجوه ساكنيها واحدا واحدا. أعترف وتدرك، مدي عشقي للبحر، للتمشية الليلية علي لسانه تمام الحادية عشرة..لم تكن المدن الكبري لتستهويني حتي في سفرتي إليها: تركيا، اليونان، إيطاليا، مصر وعمان.لذلك آثرت رمي العاصمة ككيس قمامة..أحسها انقذفت لتخدمهم. خلقت لكائنات عجنت من محافظ جلدية، حواسيب، سجائر يتطاير دخانها، حوارات بأصوات مرتفعة ولغات هي غير اللغة. ومن الركض. يركضون في الشوارع، داخل مكاتبهم، مقصورات القطار، المقاهي والمطاعم.. كأن ديدنهم البحث عن مفقود في فضاء ما. مفقود محاه الزمن وابتلعته الجدران. كانوا كائنات في مرايا مجنونة وخادعة.لم أرغب يوما الحياة في هذه الحياة. بل إني انتقيت من شجرة الخلود ما يهبني جنوني الشخصي والذاتي. جنون دودة »التبنيا«..الدودة التي منحتهم نحافة، وخلدت اسمي حرفا ورسما.. كل المدن الصغري مدني إلي دورة المنتهي. الانطفاء. أذكر أني هذيت.هذيت أمام جهاز الهاتف الأسود وقد أنطقه صوتك تلك الظهيرة من بلاد الغروب التي حلمت بك وبها.. 5 كمطر في صيف حار، وقع الهواء حروفك تلك الظهيرة. كنت وحيدا، وكنت. أقرأ جرائد خان الزمن نضال أصحابها الذين ما أن أدركوا أبجدية الكراسي حتي خلعوا أقنعتهم، وصاغوا اللغو لترتيب أوضاعهم وتمجيد الأبواب العالية.إلا أنهم لم يدركوا أن يد الزمن خائنة، وأن العودة أقسي من حلم الذهاب. كانوا، وانطفأوا بعد أن أحالهم الدهر أقزاما، فيما صبغ السواد الفضاء وانتفت غيم الأحلام الرفيعة. غيم المخلوعين وقد استطالت أنوفهم.أقرأ خيانة بمقاسات دقيقة بحثا عن قيلولة تمحو ما قرأت، ليوقع الهواء حروفك. لم أع كيف مرقت من خدري اللذيذ، لأصحو مسائي صحوة ذهبية دفعتني لإعادة الإنصات لحروفك وقد كفنها الغياب ليلتي تلك. لم أدرك يومها أن الحروف حين تولد، تكبر بأقسي سرعة لتحتل جيوب الذاكرة والفضاءات علي تباينها. تلك الظهيرة أمطرني صوتك الرقيق أسئلة حارقة. لم يكن الغياب سوي واحدها. تري أين أنت؟ كيف تختفي لأزيد من شهر؟ كأنك هنا ولست. وكنت. كنت تلميذا يجيد الإنصات أمام غضبات معلمه المضرية. إلا أني لم أجرؤ، بل اخترت التدثر بلباس الكتمان. لم أفضح مكر صيف هذه السنة بالذات. المكر الذي احتال ليضيف إلي علة زمان، ثانية أفلحت أبجديتها في إسقاطهم جميعا: عبد الرحمن بدوي، محمد زفزاف و واسيني الأعرج الذي ما أن أشرقت شمس يقظته حتي عاد لابتلاع دودة » التبنيا « بحثا عن خيالات روائية هنا وهنالك. لم أجرؤ فضح مكر صيف هذه السنة بالذات حروفا يوقعها الهواء، وإنما تكتمت لأنثر سقطتي علي البياض. أعرفك ستفاجئين. وأري يدك تمتد للهاتف الأسود الأخرس بغاية إنطاقه. وها أنت يا ريم الجنون تديرين عشقك الآسر، إلي أن نبت سؤالك: شو صار يا نبيل..متي نلتقي؟ لم أحدس جوابا مثلما لم أقرأ كف الغيب، أوراق العرافات الطاعنات وقد حفر الوشم خضرته علي محياهن السالت به التجاعيد. كن يرتبن بمهارة ساحرة أوراقا سرعان ما يستنطقنها، ليعدن طيها وإعادة فتحها و ترتيبها.كم من حلم و وهم حياة.. قلت: قريبا..سأخبرك. وكان أن ذبحني خبر روما، حيث فتحت أمواه فينيسيا يديها لاحتضانك في احتفائية انطفاء روايتك الأولي. وضربت وعدا ببعث صور اللحظة السامية فكان، حيث بدت صورتك علي المنصة.بدت أنامل من ثلج تكسر صمت قاعة شدت الأنظار إليك في وجوم وبلاغة اهتمام..وكأن الطير علي رؤوسهم. وأما علي الشاشة فبدت صورتك. صورة خصلات سوداء سرحت بعناية يد ماهرة.لم يكن زيتون عينيك ليري في اتجاهي أنا المذبوح بالخبر، وإنما قد يكون رأي كف المصور اليمني، فيما اليسري تمسك آلة التصوير. أذكرها الصورة التي أهديتني ذات رسالة، وقد ركبنا قطار التعارف ولما يشخ. ليتني كنت إلي جانبك. ليتني من يدير أبجدية تقديمك إلي الذين عرفوا وتعرفوا الدودة قبلنا، نحن الذين أخرنا زمننا، فأخطأنا المواعيد.. كل المواعيد. لا تنسي أن تهاتفني يوم عيد ميلادي بعد شهر. عندها محا الهواء حروفك، مرددا جملة الختم التي تحرصين عليها، حرص أم علي ابن تناهبته ريح البعاد:» دير بالك علي حالك.«. 6 أكان علي بريدك أن يطويه الغياب، فيما نار الشو تحرق مني القدمين؟.لأزيد من شهر لم يطرق بريدي حرف من حروفك. و لا يد وقعت باب شقتي في الطابق الأول. فمذ ألقيت العاصمة كيس قمامة، ومحوت سلمان إلا من دفتر ذكرياتي الذي أقتات عليه كقطة، انتقي خيالي المدينة البحرية الصغيرة البعيدة عن العاصمة بنحو ثمانين كيلو مترا. فيها مارست، أمارس طقوس الذات كاملة. لا أستيقظ باكرا. أتمشي في الحادية عشرة ليلا. أكتب كما الآن بين الواحدة والرابعة مساءا. لم تعد من ضرورة لمزاولة المهنة التي لعنها »الجاحظ«.لذلك آثرت تقاعدا نسبيا شبه مريح لكائن مثلي تخطي الخمسين ونيف ما أمضاه مدرسا للتربية الفنية علي الثلاثين سنة.الآن أحسها حرية مفتوحة غير مقيدة بزمن يضطهد الإنسان، ولا بتافه أسئلة من مخبرين دربوا علي صوغ التقارير اليومية.لم تعد دولنا الهشة سوي أجهزة مخابرات داخلية وخارجية.قد تقول: وأين تمررين بياض التعب، ليهمس الحرف: في المدن الصغري لا أحد يعاني رصاص الوقت. إنه ينضج ويثمر، وليس علينا سوي القطاف قبل رفة الجفن. هكذا كنت أحسني كلما كلكل البياض جاثما. وهنالك بعيدا عن وسط المدينة أجالس صمتي وفراغي (أنت الموزع بين هدأة اللحظة وصخب الضجيج، حيث بقايا النوم تسكن الحنجرة) في المقهي الذي آثرته إلي اليوم»لاروكاريا». ولعلك أدركت رمزية الاسم وسر الاختيار. كان مقعدي بالضبط لصق الزجاج يمينا. لكم عشقت أن أري، أترصد، أدقق تفاصيل هاربة، ألملم حروفا تنثال تباعا بحثا عن منافذ للتصريف..أمامي الأخضر المفتوح علي الشجر السامق والعشب الناطق خضرته. وراء الأخضر تضج رائحة الأزرق تحبس الأنفاس وتطلقها كلما فتلت الموجة بياضها وتشكلت من زرقة الماء. يقع المقهي علي لسان شارع النخيل الفريد في دقة تكوينه، والقائم في ترتيب لا يخطئه تمرين البصر. ونظام سموقه يجعلك تخال النخلة نفسها التي تراها أو تري هي إلي دهشتك الآسرة. أذكرني فاتحت الحدائقي القصير القامة بعد تردد عن نوعية النخيل، فرد باقتضاب أن السامق المتفرد بالساق النحيلة الملساء يجاور الماء، ويتوافر في المدن البحرية عكس ما تقع عليه العين في الصحراء الجافة. فالنخيل أقدم أنواع الشجر، ومن الفصيلة المزهرة. لا أعرف لم وأنا أطوي الطريق استحضرت صورة السياب. يبدو في رقته كنخيل دجلة والفرات. أتذكر وقفة أستاذنا الفلسطيني بكر متقصيا تفاصيل الشبه بين العينين والنخيل. إلا أني لم أعد أستحضر بالدقة نفسها ما انتهي إليه. كان فارع الطول كنخلة، ويتدفق كنهر.شاعرا لطالما أنشد قصائده. أكان علي بريدك أن يمحي شهرا كاملا؟ تلك الليلة استعدت جلجلة ضحكك. استعدتها، ومقعدك في مواجهتي تعب من قسوة الانتظار. لم يحدث أن شغله غياب أحد إلا غيابك. في أحيان يحمل الليلة رائحة أتخيلها رائحتك.وأتوقع..أتوقع بريدك يحمل خبر لقائنا علي جسر الحب الخالد هنا وهنالك، فأراني أسابق خطوي لمطار العاصمة منتظرة لحظة الإقلاع الرهيبة، إلي حيث أعثر علي ظلك. ظلك الذي خبرت كيف ألاحقه مذ لبست حبك ولبسني. تلك الليلة لم أستمع لشهرزاد ريمسكي كورساكوف، تحكي موتها المؤجل بين يدي السلطان. لم أسافر وأناييس نن. وإنما امتدت يدي إلي طوقه. إلي رسالته في الألفة والآلاف. كان ابن حزم جليسي. ليتك كنت لنقرأ باب المراسلة، ونتعرف كتب العشق رسائل تقطع وتحل في الماء مخافة الأثر، وذيوع الفضيحة. لكم حلمت أن لو سقيت بياض الحرف دمعي، ريقي، أو دمي. تلك الليلة استعادتني الظهيرة وحروفك المنثورة يوقعها الهواء..وكان أن هجست: لا تنس أن تهاتفني يوم عيد ميلادي بعد شهر. مقاطع من رواية تصدر قريبا عن دار التكوين:دمشق/سوريا(2016).