الناقد مرآةٌ مُتشظية، وهو يحاور نصوصاً، لتجد هذه النصوص نفسها إما وقد تجمَّلت أو قد تشوهت أو حضرت حفلةً تنكُرية بأوجهٍ يُلبِسها (الناقد المرآة) أقنعةً مصنوعةً من صوّر رسمتها: شهوة الناقد وميلانه، لتغدو غير ما كانت عليه في سكينتها علي البياض، هذه الصّور هي ما يُقال عنها في الخطاب النقدي أو حتي عملية القراءة : التأويل، أي إلباس النص أهواء القارئ، وهذا ما يؤكدهُ الناقد خالد حسين في كتابه الصادر حديثاً من دار جميرا للنشر والتوزيع "اقترافات التأويل" حين يقول: "فعل القراءة.. فعلٌ، حدّثٌ يندفعُ إلي التحقق والإنجاز من خلال أهواء فاعل القراءة ورغباتهِ وإرادتهِ، فالقراءة ليست إلا الميّل والشهوة والزوغان والالتحام.." ص5. وبوصفي قارئاً لكتاب الناقد، سأكون المرآة المتشظية أمام تأويلاتهِ لنصوصهِ الشعرية التي اختار تأويلها مُستخرجاً منها، أشياءها، حساسيتها، وحدودها، الشعرية، لأستخرج بدوري ما أظنهُ قالباً جديداً في علاقة الشاعر بشعرهِ وعلاقة الشعر بمضمونهِ ومن ثم علاقة الشاعر والشعر بالعالم. كلّ نص أو شذرة أو مقطع وقف (وقفت) أمام حسين (المرآة)، عكسَ الناقدُ تأويله ضوءاً ييرُّق بهِ الشعر علي ما يحيط به و علي ما يعيش فيه وحتي علي ما يخفي عليه، سواءً أكان شيئاً أو كائناً، وسواءً كان الضوء مرئياً أو لامرئياً، سأقوم بكسرِ هذا الضوء ونشره كلماتً علي البياض دون الوقوف علي نصوصهِ إلا إذا اقتضي السيّاق، بل سبّْرِ تأويلهُ لصياغة ما هو مخزون في عمق الشّعر: لا ثوابت حيث يكون الشعر، لا حضور، لا غياب، لا مستحيل، لا كلام. الشّعر حياة، هامشاً، متناً، هذا ما يعكسه خالد حسين في إحدي تأويلاته، غير محصورٍ بالنص الذي أمامهُ وإنما تعميماً يجعل الشاعر في الشّعر خالقاً يقبضُ علي جميع مفاتيح الممكن والمستحيل، الثابت والمتحول، المتفرِّع والراسخ ،المُرتقي والنازل، من كائناتِ العالم وأشيائه: "الشعر موت اليقين والثبات، والعرف، أنّهُ فتح الآفاق وتدشين المستحيل، فصمت العلامات أبلغ من الكلام المنطوق،أنّهُ رنين الغياب وصوت الهامش علي أطراف الحياة " ص57. يُعيد صاحب (نظرية العنوان) هذا الشعر إلي نبّي يُوحي إليه، هو الشاعر ما دامت قصيدتهُ رسالتَهُ، أو مادامت كلماتهُ لحظاتِ حياتهِ، تجاربه، أهوائه: "وإذ القصيدة، قدرٌ فإنها تكون وحياً، إيماءً، وما علي الشاعر سوي تلقي هذا الوحي- القصيدة " ص25. ما يدونهُ الشاعر غير قابلٍ للدفن، والموت، مادام يمتلكُ حياتهُ مُتجسدةً في لغتهِ، هذا ما يؤكده صاحب (شؤون العلامات): "فمواجهة الموت لا تكون إلا بالسفر إلي اللغة- الحياة وترك ما يكون به الخلود والحضور في ذاكرة الحاضر والمستقبل..." ص15. ومن هنا فالشّعر نقيضُ العادة، نقيض الروتين، الشّعر هدّام ،بانٍ ، مُنقلب علي كلّ لحظة، له حياتهُ المنفلتةُ من عقالها والمتميزة عن كلِ ما عداها: "فالشعر لا يكون شعراً إلا حين يقوِّض المتعارف عليه في التداول اليومي" ص86. الشّعر سحرٌ والشاعر ساحرٌ في الحبّ، يخلقهُ، يعيشهُ، يُفارقهُ، يتغني بهِ، يتوجع فيهِ، يُشفي بهِ، يتذكر بهِ، ينسي فيهِ، يحنُّ بدونه، حتي أن الشعر حبٌّ يقودُ العالم: "الشعر سحرٌ وأنّه لكذلك، بل إن الكلمة الشعرية خالقة خصبة، لا سيما حين يتعلق الأمر بالحبّ، أحبّك ويأتي العالم، أحبّك ويغدو العالم في متناول اليد..." ص69. إن الشّعر خيمة، الشّعر بيت، سكنٌ حقيقي، حامٍ، وما خارجهُ من خراب يظلُّ صاغراً أمام ما يدونه الشاعر عنهُ في الشّعر، الشّعر إقامة دائمة دون جواز سفر أو لجوء، الشّعر ظلٌّ، نافذة، باب، سقف، جدار، وكلّ ما يجعل الخارج خارجاً،كما يستشهد خالد حسين بهايدغر: "الشّعر الذي يحوِّل الإقامة إلي سكنٍ حقيقي" ص38. يعكسُ خالد حسين وجهاً آخر للشاعر عند تشظيه، حيث لم يعد الشاعر مُقيماً في البرج العاج أو وادي الجن يكتب شعره علي صفحة الهواء، لقد نزل من عزلته كزرداشت نيتشة، ليُحاكي اليومي المتداول ويُعانق الأشياء ويقوم بالتحاور والإصغاء إليها، يومئ إلي ما تخلقه في أحاسيسه، الشعر وقد أصبح متجسداً في لعبة السرد: "الشّعر وقد أصبح سرداً، يغدو أكثر انفتاحاً علي الكائن والكينونة، يتخلي الشعر عن ارستقراطيته ويصبح منغمساً في أحداث الحياة اليومية" ص144. وفي هذا السياق يغدو الشّعر عتبة باب الفهم، للغيب، الشّعر يُكثِّف في داخلهِ كلّ الأجوبة لكلّ الأسئلة المستعصية علي التجسيد، لا مُقدس في الشّعر مادام أنّهُ يحتاج إلي الكشف، أي أنّ الشّعر هو اللغم الذي ينفجر تحت فعالية إشارات الاستفهام في ميتافيزيقية الأشياء والكائنات:"الشّعر هو المنقذ، الممرّ الذي به وفيه يتجسد الإله ويغدو في متناول الحضور، ومن ثم الفهم..." ص55. لم يكن للناقد أن يُعيد