فجأة امتلأت الصفحات الثقافية المصرية بالمقالات التي تشيد وتثني علي ميراث الحركة السريالية المصرية، بل وتؤكد علي مصريتها وضرورة الاعتراف بهذا الميراث. مُبادرة لطيفة وإن أتت مُتأخرة ستين عاماً، وربما يكتمل لطفها إذا أثمرت أي نوع من الاهتمام من جانب وزارة الثقافة المصرية بهذه الحركة وتراثها الذي كانت الوزارة أول من عمل علي تهميشه ونبذه، بل ولدت وزارة الثقافة المصرية في عهد الضباط الأحرار لأسباب كثيرة منها محاربة استئصال تراث وأفكار الحركة السريالية وتشريد مبدعيها وطمس تاريخهم، وهو ما نجحت الوزارة في فعله علي مدار نصف قرن. فلم تكن السريالية أبداً بالحركة المنحازة للأفكار الوطنية العسكرية أو الفاشية، دافع مبدعوها عن حرية الفرد وعن مفهوم عالمي للمواطنة، وحذروا من الفاشية التي هي ابنة المشاعر الفياضة للوطنية والدولة القومية، وكانوا كذلك جزءا من المناخ المتنوع لغوياً وثقافياً وأيديولوجيا الذي عاشته مصر قبل يوليو 52، والذي لم يعد له مكان بعد ذلك في دولة الضباط الأحرار. الاهتمام بالسريالية هذا العام هو نتاج للسباق والتنافس الذي انطلق بين مركز بامبيدو في باريس، وبينالي الشارقة في الإمارات. حيث يتنافس الاثنان علي تقدم تراث حركة السريالية المصرية. المعرض الأول ينظمه سام بردويلي ويفتتح في سبتمبر القادم بمركز بامبيدو الثقافي بالعاصمة الفرنسية. وقد قضي بردويلي أكثر من ثلاث سنوات مع فريق من الباحثين لجمع تراث فناني وكتاب وشعراء الحركة الموزع بين مصر وأوروبا. المعرض الذي سيعتبر الأضخم لم يكن بالإمكان تنظيمه دون عرض لوحات رواد الحركة السريالية التي يقبع جزء كبير منها في مخازن وزارة الثقافة يعاني الإهمال والضياع. لهذا ففي نوفمبر الماضي زار وفد فرنسي وزير الثقافة حلمي النمنم والأخير وافق ببساطة وتلقائية شديدة علي سفر الأعمال بصحبة المرممين وأطقم موظفي الوزارة دون أي مقابل مادي، أو اتفاق يفرض الشراكة المصرية أو علي الأقل يضمن إقامة المعرض في مصر. بعد العرض في باريس، يطوف معرض "السرياليون المصريون" أكثر من مدينة أوروبية دون أن يأتي للقاهرة. وستعود أعمالهم لتدخل مخازن الوزارة ويغطيها النسيان بينما ينسي الجميع صور الوزير مع الوفد الفرنسي واحتفاءه بالحركة والفن السريالي. انتهت السريالية مع صعود دولة يوليو، وفي مناخ فاشي أسست فيه الدولة وزارة الثقافة لم تنظر الوزارة بأي نوع من التقدير لأعمال السرياليين. إحدي الحكايات التي توضح العلاقة التاريخية بين وزارة الثقافة والحركة السريالية هي حكاية الفنان رمسيس يونان الذي أمام التضييق علي المجال العام الذي مارسته دولة يوليو تقدم في إحدي السنوات لنيل منحة التفرغ من قبل الوزارة. لجنة التحكيم التي كانت تضم عباس العقاد وأم كلثوم رأت أن أعمال رمسيس يونان التي كانت تعرض في أشهر قاعات العرض في باريس منذ الأربعينات ليست أعمالا فنية، بل أن أم كلثوم قالت له أنه لا يجيد الرسم. وتمكن رمسيس يونان في النهاية من الحصول علي المنحة كمترجم متقدماً بمشروع ترجمة لكتاب. حينما توفيت بولا حنين حفيدة أحمد شوقي وزوجة جورج حنين، عرض الورثة التبرع بمكتبة جورج حنين في بداية الألفية لصالح الوزارة لكن لم يتلقوا أي رد، فتبرعوا بالمكتبة لصالح المركز الثقافي الفرنسي في المنيرة حيث تقبع مكتبة مؤسسة الحركة في مقر المركز بالمنيرة حتي الآن. مع الاهتمام العالمي بإعادة تقديم السريالية المصرية هذا العام، لم يتعد موقف وزارة الثقافة ومساهمتها سوي التقاط الصور التذكارية مع المسئولين الفرنسيين والإماراتيين الذين أتوا لعقد الاتفاقيات مع الوزارة. مؤسسة الشارقة التي تشق طريقها لتصبح أهم المؤسسات الفنية المعنية بالفن الحديث والمعاصر في المنطقة لا ينافسها حالياً سوي متحف الفن العربي الحديث في قطر، قررت الدخول إلي معترك البحث عن تراث السريالية المصرية، واختارت لهذه المهمة السوداني د.صلاح محمد حسن مدير معهد دراسات الحداثة المقارنة بجامعة كورنيل بأمريكا. والذي يعمل علي إعداد وتجهيز معرض بعنوان "حين يصبح الفن حرية، السرياليون المصريون" والمقرر إقامته في مطلع عام 2017 في الشارقة، علي أن يعرض جزء منه بعد ذلك في مصر. الشارقة أيضاً وحينما حاولت تنظيم مؤتمر بحثي حول تاريخ الحركة السريالية المصرية في نوفمبر الماضي، اتجهت للجامعة الأمريكية التي استضافت المؤتمر علي مدار ثلاثة أيام. لكن لماذا تهتم مؤسسة ثقافية إماراتية بإعادة الاعتبار لحركة فنية مصرية. الإجابة كانت في كلمة حور القاسمي مديرة مؤسسة الشارقة للفنون التي أوضحت أن المؤتمر والمعرض جزء من مشروع ضخم تطلقه الشارقة لتوثيق الحركات الفنية العربية، وذلك كما أوضحت حور في كلمتها في نوفمبر الماضي بمؤتمر القاهرة: "كي نستطيع صياغة تصور لمستقبل أكثر غني في منجزه الإبداعي وفي طاقته التعبيرية، مستقبل نتشارك جميعاً في رسم ملامحه، وفي إغناء وتعميق محتواه الإنساني، خارج المفاهيم والانتماءات الضيقة". بالطبع لا مجال للانتماءات الجديدة في سوق الفن الذي تؤسسه دبي والدوحة الآن. فنظراً لصغر ومحدودية الأرشيف التاريخي والفني لهذه الدول وحداثة مشاريع التنوير والحداثة فيها تسعي إلي تحويل متاحفها ومشاريعها الفنية إلي مستودعات تعكس أحياناً صورة افتراضية عن هوية عربية متخيلة، وأحياناً تتشبث بعالمية غير محددة المعالم. في هذا الإطار وفي عالم السوق الحر ومادام جحا - وزارة الثقافة- ليس مهتماً بلحم ثوره فالأفضل توجيه الثور لمن يعرف قيمته ويستطيع رعايته. يتم تفريغ المتاحف المغلقة ومخازن الوزارة من كنوزها وتعرض للعالم في باريسودبي والدوحة، والتراث المصري لا يجد مكاناً له في مصر، والوزير سعيد وفخور بالتقاط الصور مع الوفود الأجنبية، بينما الثقافة المصرية وتاريخها نقطة صراع بين ممولي الثقافة الفرنسيين الذين يرغبون في نسبة تاريخ الحركة إلي الحقبة الاستعمارية الفرنسية وإنجازاتها، وأخوة عرب يريدون نزعها من انتماءاتها الضيقة إلي فضاء عروبي مبتدع يغطون به علي الثقب الأسود في هويتهم القومية. وفي هذا كله تقوم الوزارة فقط بدور أمين المخازن والسمسار الذي يوفر لصناع الفعاليات الثقافية العالمية والعربية الفرصة لإخراج هذا التراث من مصر وعرضه.