منذ أن عدتُ في شهر سبتمبر الماضي من إقامتي الأدبية بولاية كاليفورنيا وصار ينتابني شعور غريب بأننا بتنا "فرجة" للعالم كله، فقد غدت الثورة المصرية أشبه بمباراة حامية طرفاها هما نظام مبارك والثوار . وقد تخيلنا أن الأمر قد حُسِم لصالح الثورة . تصلني رسائل إليكترونية كثيرة علي إيميلي وعلي صفحة الفيس بوك من بعض الأصدقاء الأمريكيين خصوصا من زملائي الفنانين والكتّاب ممن كانوا معي بإقامتي بسان فرانسيسكو ، لكن الفنانة التشكيلية الشابة نانسي بوب التي تقيم بمدينة لوس أنجلوس كانت أكثرهم تواصلا معي منذ أن تعرفت عليها. معظم نقاشاتنا المتواصلة في أثناء الإقامة الأدبية تركزت حول رؤية كلينا لمفاهيم الأدب والفن، وكثيرا ما انحرف الحديث بنا ناحية السياسة وثورات الربيع العربي وبخاصة الثورة المصرية التي كنت أُحدّث عنها نانسي بوب باعتبارها أعظم حدث عشته بحياتي علي الإطلاق. وقد لاحظت تعاطفا وشغفا واضحا من جانب نانسي حين كنت أحكي لها بحماس وبفخر عما فعله المصريون ، كأنني أسرد تفاصيل معجزة لا مجرد ثورة لم تكتمل بعد. حكيتُ لنانسي قصصا ونوادر كثيرة رأيتُها وعشتُها بميدان التحرير.،ولم أكن أعرف عنها-أعني نانسي بوب- حينئذ سوي أنها فنانة تشكيلية فحسب. وقد سألتُها مرة بفضول عن سر اهتمامها الشديد بمصر دون غيرها من البلاد العربية التي تعج بثورات مماثلة، لماذا لا يوجد لديها الاهتمام ذاته بالثورة الليبية أو السورية مثلا؟ فأجابتني قائلة بانفعال واضح: " لأنها ببساطة مصر ذات التاريخ العظيم ،وهي بالنسبة لنا بلد مؤثر ومحرك للأحداث الكبري في العالم كله". تذكرت وقتها كيف كانت أحداث مصر السياسية في الأيام الأولي لثورة 25 يناير تتصدر عناوين صفحات كبريات الصحف العالمية وتذكرت أيضا- بشيء من الألم - بعض المصريين الذين يستهينون بقيمة بلدهم. وقلت ياليتهم كانوا معي الآن وسمعوا معي ما سمعت!! لكن بعد عودتي إلي القاهرة وبعد أحداث ماسبيروالحزينة(9أكتوبر2011) بأيام قليلة، فوجئت بنانسي ترسل لي رسالة تغلفها عبارات القلق والخوف.خاصة بعدما رأت مشاهد لبعض صور الضحايا من المصريين المسيحيين في مواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة إلي المشاهد القاسية التي بثتها بعض القنوات وبخاصة قناة الجزيرة الناطقة بالإنجليزية: " عزيزتي نجاة ..أنا قلقة جدا عليك.هل أنت بخير وآمنة؟. أنا بالفعل غير قادرة علي تصديق المشاهد البشعة التي رأيتُها اليوم علي صفحات الفيس بوك. كيف حدث هذا يا صديقتي؟ نحن هنا نراهن علي نجاحكم ونجاح الثورة المصرية.نحن نستمد منكم الأمل ونجاحكم سيكون بمثابة البشارة لنجاح احتجاجاتنا في أمريكا؟ كتبت ردا سريعا لأجل أن أطمئنها عليّ، لكن لبرهة استوقفتني عبارتها الغامضة في الرسالة "نجاحكم سيكون بمثابة البشارة لنجاح احتجاجاتنا في أمريكا" !! كل ما أعرفه عن نانسي أنها فنانة تشكيلية فحسب ولم أعرف أبدا أنها ناشطة سياسية!!ثم ما الاحتجاجات التي تتحدث عنها؟ استرجعت ما قرأتُه بعد عودتي إلي القاهرة عن الاحتجاجات التي اشتعلت في عدد من الولاياتالأمريكية، حيث اشتعلت وقتها حركة "احتلوا وول استريت" بمدينة نيويورك في 17 سبتمبر 2011، ثم امتدت الحركة لتشمل عددا من الولاياتالأمريكية الأخري.وكانت الحركة بمثابة تعبير شعبي عن سخط الشعب الأمريكي علي النظام الرأسمالي وضيقهم بجشع مالكي الشركات الكبري،الذين يستولون علي معظم الثروات. وقد بدا واضحا لكل ذي عينين-وقتها- تأثر المحتجين الأمريكيين بثورة 25يناير المصرية واستلهامهم الكثير من أفكارها ، حيث أعلن بعضهم أنهم يريدون تحويل شارع المال والأعمال "وول استريت" إلي "ميدان تحرير"،هذا إلي جانب بعض اللافتات التي حملوها،والتي تضمنت عبارات مثل "امشِ كمصري" و"حارب كمصري".وبلغت ذروة التعبير عن هذا التأثر بالثورة المصرية حين رفعوا العلم المصري بجانب العلم الأمريكي.هذا رغم أن مطالب المصريين في ثورتهم كانت سياسية من الدرجة الأولي وتختلف عن طبيعة مطالب "وول استريت" التي كانت تركز علي أبعاد اقتصادية، لكن العامل المشترك الوحيد بينهما كان هوالتأكيد علي أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية ،والتي كانت أهم شعارات الثورة المصرية. هذا كله جعلني أفهم الآن عبارات نانسي الغامضة في الرسالة، ولذا قررت التحدث معها مباشرة عبر الاسكايب لأفهم أكثر عن الوضع بأمريكا الآن وعن علاقتها هي بحركة"احتلوا". أخبرتني نانسي أنها شاركت ضمن مجموعة من الفنانين الامريكيين في حركة "احتلوا" منذ اندلاعها في مدينتها "لوس أنجلوس" وأنهم يستعدون الآن لإقامة فعاليات ثقافية علي هامش هذه الاحتجاجات ، ومن ثم سيكون هناك يوم للاحتفاء بثورة 25 يناير التي ألهمتهم، وذلك عبر قراءة قصائد لشعراء مصريين. وأن الحركة تسعي لتوسيع دائرة الاحتجاجات لتشمل كل مدن العالم ضد الحكومات ورؤوس المال. جولات خاسرة فوجئت يوم 15 أكتوبر، وبينما أشاهد علي قناة " السي إن إن" بأن هناك سيلا من الاحتجاجات يجتاج مدن الولاياتالمتحدة ومدنا أخري من دول العالم مثل إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وبلجيكا وألمانيا وغيرها. قلت لنفسي لقد حوّل الأمريكيون حركتهم الاحتجاجية إذًا إلي حركة عالمية سوف تخشاها الكثير من الأنظمة وستحاول حتما الفتك بها. ظللتُ أياما أتابع الأخبار وأنا صامتة ومرتبكة إزاء هذه الأحداث المتلاحقة، أحاول فقط أن ألملم رأسي المشتتة وراء هذا الفيض من الاضطربات. ينتابني الخوف لا الفرح مما قد ينتهي إليه أمر هذه الاحتجاجات، ولا أجد- بالفعل- ما أرد به علي رسائل نانسي بوب المتواصلة،هي التي كانت تنتظرني أن أقول لها أخبارا سارة عن القاهرة. غابت نانسي بعدها لفترة عن الفضاء الإلكتروني ثم عادت في أحد الأيام لتخبرني -عبر رسالة إليكترونية قصيرة- أن الشرطة الأمريكية تعاملت بعنف شديد مع المحتجين وفضت اعتصامهم بالقوة، وأبعدتهم عن الأماكن التي يحتلونها في شوارع المال واعتقلت عددا منهم. تحدثت نانسي بغضب عما فعلته الشرطة الأمريكية مع رفاقها. فلا أجد ما أقوله لها سوي عبارات الأسف التقليدية، فهل أخبرها مثلا أن ما فعلته الشرطة الأمريكية لا يقارن بما فعلته الشرطة المصرية عندنا بالمحتجين المسالمين منذ بداية الثورة، وأن شرطتهم مُدرّبة وتعرف أن فض الاعتصامات لا يعني أبدا فض الأرواح؟! تؤمن نانسي بأنه يجب أن يتضامن كل الثوار الأحرار المطالبين بالحرية والعدالة في العالم كله، لذلك ظنت أن بإمكاننا هنا أن نتضامن مع ما تعرض له متظاهرو وحركة "احتلوا"من عنف ،مثلما هم معنا ساندونا بوقفات احتجاجية من قبل، حتي إنهم كتبوا مرة في إحدي يافطات حركة"احتلوا "عبارة طريفة " القاهرة وأوكلانا إيد واحدة". لكن لم يحدث أبدا أن أحدًا قال في الإعلام الأمريكي إن وراء هذه الاحتجاجات مؤامرة مصرية. جزء من كتاب تحت الطبع بعنوان »الطريق إلي التحرير«