في استعارة مجازية يستخدم أشرف عبد الشافي اسم "فودكا" ليشير إلي تداخل الحرام والحلال والخير والشر في توصيف المشهد الإعلامي والصحفي والسياسي المصري:" هكذا بدا ليّ الأمر وأنا أختار هذا الاسم، فأنت تقرأ كلامًا فخمًا عن مشروب "حرام" في نظر البعض وممتع أو لاذع أو سيئ بالنسبة لآخرين، وهكذا فصول الكتاب أشياء تتداخل بين الحرام والحلال، الأخلاق والانحلال، الفضيلة والرذيلة، التدليس والتشريف، التلبيس والإبليس، التحمير والتقشير.. خلطة صنعها بشرٌ من لحم ودمّ، هزّت الثورة بعواصفها أرضهم فصاروا شخصيات روائيّة مكتملة الأركان، شخصيات تمثل الطبقة المتوسطة بكل أمراضها وأحلامها وأوهامها ورغباتها وشهواتها، قادمين من الريف والمدن المتواضعة ومقهورين ومهزومين وباحثين عن شهرة وفلوس، وبينهم "أولاد ناس" بالطبع". يأتي هذا الكتاب(فودكا) والذي صدر قبل أيام من دار" مقام " للنشر والتوزيع ،ليتمم ما بدأه أشرف عبد الشافي في كتابه الأول ( البغاء الصحفي ) حيث قام بالرصد والجمع والتحليل لمواقف كثير من الرموز السياسية والإعلامية إبان حكم مبارك، وتبدل تلك المواقف بعد ثورة 25 يناير. جاء البغاء الصحفي ليكون بمثابة الفضح والتعرية والكشف لهذه الأسماء الرنانة من النخبة السياسية والثقافية، والآن في "فودكا " يكمل أشرف عبد الشافي معتمدا علي المجاز الاستعاري لذلك التشابه بين حالة الفودكا التي يراها البعض ممتعة ولذيذة ويراها البعض الآخر محرمة وغير مقبولة وما بين هؤلاء وأولئك نقف نحن القراء لنشاهد هذه التعرية المستمرة بمبضع جراح يخرج ما في الجروح من صديد حتي يطهرها وينقيها لنصل بالمجتمع إلي لحظة الشفاء التام. يعطي الفصل الأول في الكتاب عنوان" سينما خالد يوسف" ويفتتحه بمقطع شعري للشاعر عماد أبو صالح من ديوان "كان نائما حين قامت الثورة"، حيث يقول أبو صالح:" حين امتلأ الميدان بالثوار تنازل عن غطائه الممزق ونصف سيجارة كان يشبكها خلف اذنه حين رحلوا فجأة أحسّ بوحدة لم يجربها في حياته أطعمهم رغيفه سرقوا منه نعمة العراء" ويأتي الاقتباس الشعري بمثابة الاستعارة الثانية في الكتاب بعد استعارة العنوان"فودكا"، فخالد يوسف الذي نصب من نفسه أبا راعيا لثورة يناير، والذي قام بنفس الدور مع ثورة 30 يونيه يرصد له عبد الشافي في لغة سردية وكادرات سينمائية علاقته بتلك الأفكار الثورية واختبارها علي أرض الواقع بعيدا عن صخب الميدان وأضوائه، ليكتشف القارئ مدي ثورية هذا أو ذاك:" توالت المشاهد من قلب ميدان التحرير، ثم من استوديوهات الفضائيات، لتؤكد جميعها أن المخرج الكبير خالد يوسف كان حارسًا لثورة 25 يناير وساهرًا علي اكتمالها وتمام بدرها، كان الرجل نموذجًا للفنان الذي أعاد سيرة يوسف شاهين الذي ربط نفسه يومًا في شجرة بميدان التحرير مبتكرًا أشكالاً للاعتصامات في النقابات المهنية، وتسامح كثيرون أو تنازلوا عن انتقادات سابقة للمخرج المثير للجدل، فالرجل يبلي بلاءً حسنًا ويتحدث بطلاقة يحتاج إليها هؤلاء الثوار الشباب"، لكن الفصل الأول لا يقتصر علي خالد يوسف وثوريته ومشروعه السينمائي وزواجه من الفنانة التشكيلية السعودية شاليمار شربتلي، بل يكشف فيه أشرف عبد الشافي عن علاقات متشابكة في الوسط الإعلامي والصحفي، ومصالح تتوافق وتتعارض وأسماء تتصدر المشهد حتي اليوم مثل: مجدي الجلاد وأحمد المسلماني، وكيف ساهمت شاليمار الشربتلي في صناعة نجوم إعلامية مثل الجلاد، وقصة إشاعة زواج أحمد المسلماني بالأميرة حفيدة الملك فؤاد الثاني، وانتهي الفصل بقصة الخطاب العاطفي الذي ألقاه مبارك قبيل "موقعة الجمل" والذي قال فيه جملته الشهيرة "لم أكن أنتوي أن أرشح نفسي لفترة رئاسية جديدة": "في مطاعم باريس جلس أحمد المسلماني ومجدي الجلاد مع التشكيلية شاليمار شربتلي، وتناولوا إفطارًا رمضانيًا سبق أن تحدثنا عنه، وفي باريس وافق الجلاد علي برنامج "اتنين في اتنين" رغم مرض شقيقه. وفي باريس أيضًا التقي المسلماني بالأميرة فريال بعد أن توطدت علاقته بالملكة "فضيلة" الزوجة السابقة للملك أحمد فؤاد، وتصاعدت الإثارة بشكل يفوق الخيال بعد هذه اللقاءات، وتحدثت الصحف ووكالات الأنباء عن قصة حب وليدة بين الفتي الطيب والأميرة فوزية حفيدة الملك فاروق". في الفصل الثاني (مقهي فيينا) يواصل عبد الشافي عملية الكشف لمواقف الإعلاميين والصحفيين من ثورات مصر، ويفتتحه أيضا باستعارة جديدة، مقطع شعري للشاعر إبراهيم داوود:" تِسعُ سنواٍت كنتُ أخلطُ ثلاثةَ أنواعٍ من الشاي كي أتأكدَ من وجودِ الطَّعمِ واللونِ والرائحةْ. تِسعُ سنواتٍ لم أفتحْ شُبّاكًا واحدًا في جدارٍ ولم تَدخُلِ الشمسُ من فَرْجةِ البابِ أصدقائي .. لم يشْعروا بوجودي ولكنهم شاهدوا الموسيقي تسيلُ علي الحائطِ". يفتتح الفصل بمقطع عن الأساتذة والتلاميذ، ويتحدث عن مقهي فيينا الذي يقع في القصر العيني بالقرب من روزا اليوسف، وكيف اتخذه الصحفيون مكانا مفضلا لهم: "علي المقاعد نفسها وربما في الكوبايات والفناجين نفسها، جلس وشرب عشرات من أجيال صحفية مختلفة تقاسموا الشاي والحلبة والسميط والبيض وتنهدوا وجأروا بالشكاوي من رؤساء التحرير وبؤس الحال، لكن الحياة دوّارة كما تعلمون، وكبر ضيوف المقهي وتنقلوا بين الصحف الخاصة والمملوكة للدولة، وبقرّ حمدي رزق بطن إبراهيم عيسي وعايره الأخير بعمله نقاشًا، وكتب عادل حمودة عن مؤخرة عبدالله كمال ونشر صورةً ضخمة لها وسخر من حجمها!". وفي مقطع تال بعنوان"طعنات متتالية" يتحدث عن عادل حمودة وعلاقته بتلاميذه في المهنة الصحفية، وخاصة إبراهيم عيسي ووائل الإبراشي وعبدالله كمال، ومحمد هاني، وعمرو خفاجي، وأسامة سلامة: "حدث أن استقل "إبراهيم عيسي" وأصدر صحيفة الدستور فهاج "عادل" علي التلميذ الذي تمرد وخرج عن عباءة الأب، نفس السيناريو تقريبًا تكرر عندما غضب إبراهيم عيسي علي كل من ذهب للعمل في تجربة "الجيل" التي صدرت بعد إغلاق الدستور..ومن فيينا هبتْ عواصف بلال فضل لتطيح بعلاقته مع إبراهيم عيسي، وحولها وبالقرب من مقاعدها سعي الأستاذ "عادل حمودة"بكل ما يملك للاستحواذ علي مدرسة "هيكل" ووراثة كنوز معلوماته، وسعي للقاء الرؤساء والملوك ليجمع معلومات مثل تلك التي يمتلكها أستاذه، وجلس إليه سنوات متأملاً خبراته وثقافته الواسعة ومواقفه التاريخية وأصدر كتبًا تضم حوارات الأستاذ وحياة الأستاذ وأحلام وكوابيس الأستاذ، وكاد يصبح الوريث الشرعي لهيكل بما يمتلك من أسلوب وخيال". وفي الفصل الثالث(مصر قرية صغيرة) يفتتحه أيضا بمقطع استعاري من رواية"الزيني بركات" لجمال الغيطاني،حيث تحكم دولة المماليك مصر، في إشارة إلي سيطرة :"صبرا مهلاً بعد سنوات ستجيء الأيام السعيدة لن يستقر الأمر علي حاله أول العمر يغمض عينيه فيري أياما مقبلة وربيعاً فتياً يخرج الخلق بمأمن من عبث المماليك". في هذا الفصل يتحدث عن رجال الأعمال الذين يفتتحون فضائيات كثيرة ومتعددة لتعبر عن مصالحهم الشخصية ولو علي حساب البلد، وكيف أنهم ركبوا موجة التغيير، وادعوا الثورية:"المعلم "إبراهيم المعلم" صاحب دار الشروق ونائب رئيس اتحاد الناشرين كان أول الشطّار، فلم يكتف بالشروق، واشتري صحيفة يومية أخري هي "التحرير" واشتري عليهما قناة التحرير بنجم التحرير "إبراهيم عيسي"، وأصبح بإمكانه أن يتحدث في التاسعة أو العاشرة مساءً علي شاشة التحرير ويتحول كلامه في الصباح إلي عناوين براقة ولائقة بصاحب صحيفتي الشروق والتحرير، وبإمكانه أيضًا أن يظهر كضيف السهرة السياسية في فضائيات صديقة بصحفها ومواقعها الإليكترونية، فالجميع يتبادل الاستوديوهات في مهرجان الثورة العامر!". وفي الفصل الرابع (رجل لا يمرر الكرة) الذي يفتتحه بمقطع من رسائل تشيكوف للعائلة والتي ترجمها الشاعر والروائي ياسر شعبان، وقد صار الاقتباس والتصدير تقنية فنية يستخدمها الكاتب، لتكشف عن محتوي الفصل ومضمونه:"أحلم بأن أربح أربعين ألفاً،لأتوقف تماماً عن الكتابة التي أزهدها،،سئمت العمل الدائم بالكتابة للحصول علي مقابل ضئيل بينما يتقدَّم بي العمر حثيثاً". في هذا الفصل يتحدث عن محمد حسنين هيكل والذي سبق وكتب عنه في الجزء الأول من كتاب" البغاء الصحفي"وكيف أن عادل حمودة قد عاتبه في التهجم علي هيكل في الكتاب، وانقلب الحال مؤخرا وهاجم عادل حمودة الأستاذ، ويرصد عبد الشافي التحول في علاقة عادل حمودة بالأستاذ :"اكتشف حمودة "الأقنعة" نفسها وأضاف إليها قناعًا جديدًا بعد ظهور مرسي، وقال في "هيكل" ما لم أجرؤ علي قوله وما لا أعرف بالطبع، وشال الأستاذ وخبطه ورزع دماغه في الحيط عشرات المرات مشككًا في معلوماته ومؤكدًا "كذب" الكثير منها في سلسلة مقالات بدأها من يناير 2014 واستمرت شهورًا تشتعل وتنطفئ لتعود ملتهبة ثانية لتأخذ في طريقها هيكل وأولاده وإبراهيم المعلم وعائلته بمعلومات دقيقة عن تورطهم في فساد مع عائلة مبارك! كان الأمر مفاجئًا وصادمًا وأثار دويًا أضعاف أضعاف ما أثار كتابي المتواضع، فمن أنا بجوار "عادل حمودة"؟! وما علاقتي بهيكل مقارنةً بالتلميذ الذي رضع من صدر "الأستاذ"؟ أين أنا من تلميذ كتب ما يكفي لمجلد من ألفي صفحة علي الأقل مديحًا وثناءً وإكباراً وإجلالاًفي هيكل وأدب هيكل!". وهكذا في بقية فصول الكتاب لا يترك أشرف عبد الشافي موقفا لصحفي أو إعلامي فيه نفاق أو استغلال لثورتي مصر إلا ورصده بوثائق وأسانيد، مفتتحا كل فصل بالمقطع الشعري أو السردي، مقسما كل فصل إلي سرديات متوالية.