عروس البحر عندما أخبرتني السيدة توني ليفرساج أنها متخصصة في الأدب اليوغسلافي، وأنها عرفت الروائي العظيم ايفو اندريتش شخصياً.. كما ترجمت رواياته إلي الدانمركية خاصة رائعته »جسر علي نهر درينا« التي كانت سبباً في حصوله علي جائزة نوبل سنة اثنين وستين من القرن الماضي. عندما علمت ذلك امتد جسر حميم بيني وبينها، كأني أعرفها منذ زمن، كأنها امتداد لعلاقتي كقارئ بايفو اندريتش الذي لم أعرف عنه وعن شخصه إلا أقل القليل.. بدأت أتحين الفرصة لكي أستمع منها.. لكي تحدثني عنه.. كان البرنامج مركزاً، كثيفاً، ولم يكن هناك وقت إلا لرؤية أقل القليل من معالم الدنمارك.. أقصد مدينة كوبنهاجن العاصمة والتي يعيش فيها ربع السكان البالغ عددهم حوالي خمسة ملايين ونصف المليون.. في اليوم الوحيد المتاح للتجوال.. كان أمامي عدة بدائل.. أن أمضي اليوم كله لزيارة القلعة التي دارت فيها أحداث المسرحية الرائعة »هاملت« إنها تحتاج إلي ساعة ذهاباً وأخري إياباً.. وعلي الأقل ساعة أخري أمضيها هناك.. سألت عدداً من الأصدقاء المقيمين والذين زاروا الدنمارك من قبل، أدركت أن القلعة مكان سياحي أكثر منه تاريخي، صحيح ان أحداث المسرحية تدور في القلعة، لكن ليس من الثابت تاريخياً زيارة شكسبير لهذه البلاد.. وبالتالي للقلعة.. إنه شكل ذكي من الحكومة للاستفادة من عمل أدبي وشخصية أصبحت من رموز البشر والإنسانية لكي يصبح المكان الذي ذُكر في المسرحية مزاراً عالمياً يقصده ملايين السياح الذين يترددون علي البلاد خاصة في الصيف، لا يوجد في الدنمارك آثار قديمة عديدة مثل بلادنا، ولذلك تضفي أهمية خاصة علي أشياء تبدو لنا عادية، وتقوم الدعاية المركزة والذكية بإضفاء هالة تضخم من الشيء.. مثال ذلك تمثال »سيدة البحر« المستوحي من إحدي قصص أشهر أديب دنماركي، هانز كريستيان اندرسن، أشهر أديب كتب قصصاً للأطفال في العالم، هذا التمثال رأيته العديد من المرات في مجلات وكتب، ومطبوعات شتي، حتي أصبح راسخاً في وعيي، وعندما شرعت في السفر كانت رؤيته أحد أهدافي الرئيسية. هكذا استقر أمري علي رؤية التمثال الشهير الذي يعتبر رمزاً لكوبنهاجن، وفي كل مكان تطالعني صورته أو نماذج مستنسخة منه، ولقاء أهم روائية دانمركية عند الظهيرة، ثم لقاء السيدة توني لتحدثني عن ايفو اندريتش. حوالي العاشرة جاء الصديق الشاعر العراقي منعم الفقير المقيم في الدنمارك ليصحبني إلي موقع التمثال الشهير، يقع علي صخور البحر، علي مسافة خمس عشرة دقيقة مشياً من الفندق، البرد محتمل أثناء السير في الشوارع. لكن عند الوصول إلي النواصي، أو الأماكن المكشوفة، تهب الرياح بلا مانع، تبدو حادة، رغم درجة الحرارة التي كانت النشرات تقول إنها دون الصفر بدرجتين إلا أن البرد القارس لم يحل بعد. مازلنا في بداية ديسمبر، خلال مشينا إلي موقع التمثال بحذاء الشاطيء مررنا بتمثال للجندي الدانمركي الوحيد الذي سقط أثناء غزو الألمان للبلاد في بداية الحرب العالمية الثانية، دخلت الجيوش النازية في التاسع من أبريل سنة أربعين وتسعمائة وألف، ولم يقتل إلا هذا الجندي الذين خلدوه بإقامة تمثال له. سمح الألمان للحكومة بالاستمرار لأنها كانت تلبي مطالبهم، ولكن المقاومة المدعومة من الحلفاء بدأت واتسعت، عندئذ تولي الألمان حكم البلاد بأنفسهم، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية تعرضت المدن الدانمركية لغارات جوية عنيفة من الحلفاء. وكما أخبرني منعم الفقير بدأت عادة إضاءة الشموع، كانت الستائر زرقاء اللون تسدل علي النوافذ، خلفها توقد الشموع للإضاءة الخافتة حتي لا تتسرب إلي الخارج. من هنا بدأت الشموع تصبح رمزاً قومياً، لاحظت اشتعالها في المطاعم، المقاهي، في البيوت. وراء النوافذ، وعندما يجيء كاتب لاجئ يخرج الأدباء ليستقبلوه حاملين الشموع المشتعلة. ولا أدري في أي أغراض أخري يشعلون الشموع! أخيراً.. وصلنا إلي الشاطئ. ثمة صخور رمادية. متساوية تقريباً. واضح أن اليد الإنسانية بذلت جهداً حتي تظهر بهذا الشكل. أشار منعم الفقير إلي تمثال صغير لا يتجاوز حجمه كينونة صبية في الحادية عشرة أو الثانية عشرة. »هذا هو تمثال سيدة البحر..«. لما لاحظ منعم دهشتي، قال إن معظم من يجيئون لرؤيته تدركهم الدهشة لصغر حجمه، الحقيقة أنه في الصور يبدو أكبر بكثير. التمثال كقطعة نحت جميلة.. يبدو كأنه جزء من الطبيعة، من الصخور.. النصف الأعلي أنثي بشرية عارية. والنصف الأسفل لسمكة. إنها عروس البحر كما نعرفها في تراثنا الشعبي. وكما يعرفها الصيادون في البحر الأحمر، سمكة من الثدييات البحرية تشبه علي البعد الأنثي. تأملت التمثال الشهير، والتقطنا الصور بجواره، أو تحديداً بالقرب منه، وعدت لألتقي بأشهر روائية دنماركية، السيدة كريستين ثوروب، ولي عنها حديث خاص.. في طريق العودة توقفنا مع عدد من الأجانب القلائل للفرجة علي تغيير الحرس الملكي، يشبه الأمر تغيير الحرس الملكي الإنجليزي والذي يتوقف الآلاف يومياً لرؤيته والتقاط الصور، إنه أحد المظاهر التي جري ترويجها بذكاء أيضاً، وأصبح مدرجاً في البرامج السياحية، ويبدو أن الحدث أو الأثر الفني يكتسب أهمية خاصة عن حجم البلد الذي يتم فيه، هذا ما أفكر فيه عندما أستعرض أعمالاً أدبية وفنية رائعة لم تعرف عالمياً بقدر ما تساويه من قيمة، لأن بلداننا تنتمي إلي ثقافة أخري، وأيضاً لأننا لم نقم بالدعاية الكافية، ألا ينطبق هذا علي نجيب محفوظ، الذي اكتشفه العالم متأخراً بعد نوبل، أي بعد أن اعترف به الغرب نفسه، هذا ما أفكر فيه كلما رأيت لوحات محمود سعيد أعظم فنان تشكيلي عرفته مصر في القرن الماضي، وجواد سليم العراقي، لو أن كلا منهما وُلد وعاش في هولندا أو النرويج أو حتي لوكسمبوج لأصبح من أعلام الفن في العالم. لا أدري أيهما الأصل، الحرس الملكي الدنماركي، أم الإنجليزي، الملابس متشابهة خاصة القبعة الفرو، لكن الألوان تختلف، هنا اللون رمادي للملابس، أسود للقبعة بعكس الأحمر الإنجليزي.. فإذا عرفنا أن الفايكنج أهل هذه البلاد غزوا انجلترا وسيطروا علي البلاد عام ألف وستة عشر لمدة ثلاثة عقود، لأدركنا أهمية الدنمارك وقوتها التاريخية، واحتمال أن تكون تلك المظاهر هي الأصل لما يجري في انجلترا ممكن جداً. الشرطة تتقدم صفوف الحرس الملكي.. شرطة حديثة.. لمحت شرطية جميلة جداً.. مدججة بالسلاح، ومثلها يكن أكثر شراسة من الرجال.. يلي الشرطة فرقة العازفين، آلات نفخ نحاسية. مثبت بكل منها لوحة صغيرة تحمل النوتة الموسيقية، يلي العازفين صفوف الحرس، يرتدون نفس الزي، مسلحين بالسيوف والبنادق.. إنهم ينتظمون حول القصر وأمامه.. يلتقط السياح ، الذين يبحثون عن المثير في اللا مثير ، الصور.. أمضي صوب اللقاء مع الروائية كريستين بأحد المقاهي المطلة علي القناة. في نفس المقهي جاءت السيدة توني ليفرساج، إنها في السابعة والستين، لكنها تفيض حيوية.. تكتب القصة والمقال. لكنها تعتز جداً بعلاقتها بايفو اندريتش. لقد درست الأدب الصربوكرواتي في بلجراد منذ عام سبعة وخمسين إلي تسعة وخمسين في جامعة بلجراد. وعندما عادت إلي كوبنهاجن بدأت تبحث عن ناشر لترجمة رواية »جسر علي نهر درينا« ولاقت ترحيباً من الناشر جرافيك فورلاج الذي كان لديه فيما يبدو معلومات عن احتمال فوز اندريتش بجائزة نوبل. وقعت توني عقداً في أبريل، وانتهت من الترجمة في أكتوبر من نفس العام، لكن اندريتش حصل علي نوبل في العام التالي »واحد وستين«.. ظهرت الرواية ولاقت نجاحاً كبيراً، في سنة ثلاثة وستين ذهبت توني بصحبة زوجها إلي يوغسلافيا، زارت المدن التي كتب عنها اندريتش مثل »ترافنك« و»فيشجراد«، في مدينة ترافنك أقاما في فندق قبل مغادرتهما في اليوم التالي، علما بوجود حفل أدبي ذهبا إليه، وفي الصالة لمحت ايفو اندريتش جالساً بمفرده في القاعة. كانت توني تعرفه من صوره جيداً. اتجهت لتحيته وقدمت زوجها إليه، رحب بهما ودعاهما إلي الجلوس معه، وبدأت الصلة القوية بين توني والمؤلف العظيم إلي أن رحل عن عالمنا. ترجمت له عدداً من القصص القصيرة، وفي بداية التسعينيات صدرت طبعة جديدة من رواية الجسر مع تصاعد الحرب المأساوية في البوسنة. أطلعتني توني علي كتاب بالصربوكرواتية يضم فصولاً عن حياة ايفو اندريتش، ورسائل خاصة متبادلة مع مترجميه ومع أصدقائه، بينها رسائل متبادلة مع توني نفسها.. أهم ما في الكتاب صور ايفو اندريتش في مراحل حياته المختلفة. كانت توني تستعد لزيارة القاهرة بعد أسبوع واحد. ضمن وفد ثقافي يضم عدداً من الأدباء الدانمركيين، عرضت عليها أن أستعير الكتاب النادر، وأن أعيده إليها في القاهرة، لم تتردد، حملته معي وكنت أقلب صفحاته متأملاً الصور، وملامح الأديب الذي أحببته، وأعجبت بأدبه الرائع، خاصة رواية »الجسر« التي صدرت في القاهرة بعد شهور قليلة من حصوله علي نوبل، ترجمها المرحوم الدكتور سامي الدروبي، المترجم والدبلوماسي السوري العظيم. مازلت أحتفظ بالنسخة، كان ثمنها تسعة وعشرين قرشاً، ورغم صدور طبعات عديدة فيما تلا ذلك، إلا أنني مازلت أحتفظ بتلك الطبعة الأولي وأستعيدها مراراً. عدت إلي القاهرة لأنسخ الكتاب بالوسائل الحديثة.. أصبحت لديّ نسخة كاملة منه محفوظة علي أسطوانة مضغوطة، يمكن طبع أي نصوص أو صور منها، بعد عودتي إلي القاهرة بأيام قليلة، فوجئت بهاتف يرن في الصباح الباكر، أسرعت للإجابة. جاءني صوت توني: »أنا في القاهرة..«. قلت مبتسماً: »أهلا بك في مصر..«. ثم قلت: »شكراً علي الكتاب.. يمكنني أن أعيده إليك عند لقائنا..«. لعل هذا الكتاب أثمن ما عدت به من رحلتي إلي بلاد الشمال، أهم من عروس البحر، القلعة التي لم أزرها، وبالتأكيد لم يزرها شكسبير أيضاً. برد.. برد عندما تحركت الحافلة الكبري بأعضاء المؤتمر من امام الفندق، كانت الساعة العاشرة، وكان ذلك الضوء المنتمي إلي العتمة يصبغ الواقع كله بحضور كثيف ينبه في كل لحظة أننا في بلاد الشمال، في المنطقة الشمالية من الكوكب، بل اننا علي مسافة قريبة من قمته الشمالية حيث القطب والبرودة القارسة، هذا الاحساس بالشمال عرفته من قبل في مصر، منذ ان بدأت السفر إلي الإسكندرية، في الشتاء خاصة عندما أقصد المدينة بالطريق الزراعي، بعد تجاوزي مدينة طنطا صوب فرع النيل الثاني المؤدي إلي مدينة رشيد، يزداد إحساسي بقرب السماء من الأرض، وتغير الضوء، خاصة مع وجود الغيوم التي اورثتني الخبرة معرفة بتلك المنذرة بالمطر وتكون دانية من الأرض والثانية المتوسطة المستقرة شاهقة البياض، أما المرتفع منها الشاهق فلا يكون إلا في الخريف، يقوي الاحساس بالشمال في مصر شتاء، ويزداد كلما اقتربنا من البحر، لكن هنا في الدانمرك. في البلاد الشمالية يقوي ذلك الاحساس طوال العام. عندما وصلت الحافلة إلي نهاية الطريق واستدار بها السائق لينطلق بحذاء البحر، رأيت العبارة الضخمة التي لمحتها في الصباح تقترب من الشاطيء. كان رسوها قد أكتمل، وفتحت ابوابها المطلة علي الرصيف، رأيت مأوي ضخما للسيارات، كان ارتفاعها يتجاوز أرتفاع المباني المكونة من ستة طوابق، تعمل هذه العبارات بين كوبنهاجن واوسلو، تقطع المسافة في اثنتي عشرة ساعة وتتحرك ليلاً، فندق عائم، أما السويد فقريبة، يربطها بالشاطيء الدنماركي جسر طويل انشيء حديثا، وأغرب ما عرفته ان احتساء الخمور في السويد باهظ التكاليف بسبب الضرائب المفروضة، ولذلك يعبر السويديون الجسر إلي الدنمارك اول المساء حيث الخمر أرخص، ولاقيود علي احتسائها، يعودون في منتصف الليل. الشاطيء صخري، والبحر عميق، امواجه غير مرتفعة، أما المدينة فتبدو كأنها نموذج ضخم لمدينة اسمها كوبنهاجن، مبان فقط، نوافذها مغلقة، مسدلة الستائر، يمر البصر بالشوارع من أولها إلي آخرها فلا يري رجلا أو امرأة أو صبيا، هذا بالنهار، فما البال بالليل، الطبيعة القارسة تجعل الحياة إلي الداخل، المطاعم لامقاعد لها بالخارج، كذلك المقاهي، الابواب مزدوجة، العوالم داخلية، مفتوحة علي الداخل، كذلك البشر، أنهم يبدون منطوين، لايمكن فهم المكان والانسان بمعزل عن الطبيعة الباردة جدا والتي تجعل اللجوء إلي الداخل طلبا للدفء أمرا ضروريا، حدث في ثاني أيام اقامتي أن فتحت النافذة قبل خروجي لتجديد هواء الغرفة، التدفئة تقلل الاوكسجين، وتجلب المتاعب، تعلمت من زيارتي لموسكو في شتاء عام سبعة وثمانين من القرن الماضي أن أضع كوبا من الماء مكشوفا حتي يخفف من الآثار السلبية للتدفئة، ومن عادتي أن أضع مثل هذا الكوب سواء في مصر أو أي بلد أمر به، في الصيف والشتاء، لايمكن لشعوري بالأمان أن يكتمل إلا اذا كان الماء في متناول يدي، ربما يتصل الأمر بموروث قديم له علاقة بالماء ومعناه، في الصعيد أخبرني من أثق به أن الماء يقدم إلي الضيف الغريب كعلامة علي منحه الأمان، أي الحياة. غير أن كوب الماء الذي وضعته إلي جواري لم يخفف الكتمة الناتجة عن التدفئة، وربما اسهم في ذلك ضيق مساحة الغرفة، لذلك فضلت ان أترك النافذة مفتوحة قليلا حتي عودتي في المساء، عندئذ أغلقها وتستعيد الغرفة دفئها خلال فترة قصيرة. لكن ما حدث انني عدت في المساء، حوالي الحادية عشرة ليلاً، وعندما فتحت الغرفة فوجئت كأنني ألج كونا ًمن الجليد، درجة من البرودة تفوق تلك التي مررت بها في الخارج، عند حد معين من البرودة يتشابه التأثير اللافح مع تأثير النيران، كلاهما حاد، مؤلم للحواس، حاولت أن أغلق النافذة أحكمتها، قدرت إستعادة الدفء بعد عشر دقائق، بعد استحمامي بدش ساخن، خرجت مباشرة إلي الفراش، أزحت الغطاء، انزلقت إليه، وكأنني تمددت فوق سطح القطب ذاته، كان الفراش قد تشرب البرد المتدفق طوال النهار، وتشبع به بحيث أصبحت الأغطية مصدرا للبرد، وليست طاردة له، حامية منه، سارعت بارتداء ملابسي والنزول إلي صالة استقبال الفندق. أنتظرت حوالي ساعة صعدت بعدها لأجد الحجرة قد استردت بعضا من الدفء، ولم أكرر تجربة فتح النافذة مرة أخري علي الإطلاق، هذا برد قارس جدا لم أعرف مثله إلا في موسكو عندما نزلتها منذ خمسة عشر عاما. طبقا لنصائح المجربين، اشتريت سراويل من الصوف، طويلة يرتديها الفلاحون المصريون، وملابس داخلية طويلة الأكمام، وطبعا أرتديت معطفا من الصوف، بالطبع لم يكن مثل المعاطف التي رأيتها في موسكو، كان بالقياس إليها اشبه بالقميص، اعارني صديق عزيز غطاء رأس من الفرو، كان رمادي اللون، انيقا،ً صنع في باريس، ويعرف مثله في روسيا باسم »شبكة«، يحيط الاذنين والعنق، يحمي من البرد الذي تصل درجته إلي ثلاثين تحت الصفر، فإذا علمنا أن مبرد الثلاجة يحفظ اللحوم والأسماك والاطعمة في درجة لاتزيد عن خمس تحت الصفر، نستطيع أن نتصور الحال!.. أذكر انني خرجت صباح أول أيام وصولي إلي موسكو قاصدا زيارة الشاعر، الفنان عبدالرحمن الخميسي، كنت بصحبة محمود أمين العالم، والروائي الجزائري الطاهر وطار، ولي بالخميسي صلة وطيدة، عميقة، ترجع إلي بداية الستينات، وفي عام واحد وسبعين غادر مصر إلي الخارج، أستقر به المقام في موسكو، ويشاء القدر ان أراه في تلك الزيارة مرتين، قبل ان يروح في غيبوبة استمرت اسبوعين ثم وافته المنية، وسبب المرض النهائي الذي لحقه كان البرد، فقد خرج قاصدا المؤتمر الختامي الذي اقامه جورباتشوف، والذي جئت إلي موسكو من أجله، وكان يضم ثلاثة آلاف شخصية من مشاهير العالم، عقده تحت عنوان »من أجل بقاء البشرية« من أجل مناهضة التسابق النووي في التسليح، لكن كما تبين فيما بعد، كان له هدف آخر، تقديم نفسه إلي الغرب كمصلح ديموقراطي، معاد للدكتاتورية والشيوعية طبعا. ولهذا حديث آخر، عند أبواب الكرملين اغمي علي الخميسي، يبدو ان رئتيه لم تتحملا الهواء البارد، كان الأجل قد دنا، راح في غيبوبة لم يفق منها، وعاد جثمانه ليستقر في ثري مصر. شاء القدر أن أقابله في زيارتي تلك، عندما فتح الباب، قبل أن يصافحني تطلع إليّ متسائلا: »فين الكوفية« ثم تساءل »أنت مجنون؟«. أسرع إلي الداخل وعاد ممسكا بكوفية من الصوف الروسي الجيد، نصحني الا انزعها من حول عنقي طالما انا خارج الفندق، ثم عانقني مرحبا، واكتشفت انه يحتفظ في صوان كبير بعدد من المعاطف وال »شبكات« و »الكوفيات« استعدادا لصحبه القادمين من مصر والأقطار العربية، وليس لديهم فكرة دقيقة عما تعنيه درجة الحرارة عندما تنزل إلي ثلاثين أو خمس وثلاثين تحت الصفر ويشاء القدر أن يكون البرد سببا مباشرا في رحيله. رغم برد موسكو القارس إلا أن ثمة شيئا يخص برد الدنمارك، لا أدري بالضبط كيف يمكن تحديده، ولكنه برد أكثر قسوة، يحيل البشر إلي الداخل، إلي داخل البيوت. إلي داخل المؤسسات، إلي داخل المطاعم وأماكن السهر، إلي داخل الذوات، إلي الوحدة الانسانية، كثيراً ما كنت اقرأ عن ارتفاع نسبة الانتحار في بلاد الشمال رغم المستوي المعيشي المرتفع، ودائما كنت أتعجب، ماذا يدفع مجتمعا بلغت فيه الرفاهية حدا متقدما إلي أن ينتحر أفراده، بعد أن رأيت البرد وخلو الطرقات والمدن التي تبدو مثل نماذج ضخمة في كوكب بعيد، يمكنني القول انني استطيع ان افهم المناخ الذي يتم فيه نضج الظروف الدافعة إلي الانتحار الذي يلي اصابة الانسان بالاكتئاب. عندما وصلت إلي المركز الثقافي في منطقة لويزيانا التي تبعد حوالي مائة كيلو متر عن كوبنهاجن، وجدت منطقة جميلة، اشجار الشمال المعمرة، والحشائش التي ماتزال محتفظة بخضرتها. رغم حداثة المباني إلا انها لا تتناقض مع البيئة المحيطة، لم اشعر بغرابة الخرسانة، ربما لأن التصميم راعي الانسجام مع البيئة. في المدخل مشاجب لتعليق المعاطف والملابس الثقيلة، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، بدأت الاجتماعات وكانت متتالية لاهوادة فيها، محورها حول امكانية اقامة جسور بين الثقافات والحقيقة كنت اتفرج علي نماذج شتي، العاملون في مجالات الثقافة الاوروبية، بعضهم يثير الاحترام، وآخرون منهم يثيرون الريبة، الناشطون في مجالات حقوق الانسان، بعضهم مخلص. وبعضهم كأنه يقوم بتجارة، مثقفون عرب، منهم عرب بالجنس والعقل والانتماء، وبعضهم بالاسم وجاء ليثبت ولاءه للغرب وللولايات المتحدة، الامريكي الوحيد الذي كان حاضرا يبعث علي الاحترام العميق، انه الدكتور كارل براون استاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون، صوت شريف وانساني، ضد السياسة الامريكية الحالية، لكن مثله قلة الآن، حضور صهيوني قوي خفي وظاهر، ليس ذلك بمستغرب، فتلك البلاد الشمالية بوابة خلفية إلي كل قضايا الصراع في الشرق الاوسط، اذكر فقط بتحالف كوبنهاجن، اتفاقية اوسلو! اكثر من عشر ساعات متتالية، مناقشات، خلافات، صراعات، استعراضات، لمت نفسي في بعض اللحظات لمجيئي وقطعي تلك المسافة لكي أقضي معظم الوقت داخل تلك القاعة التي لم يكن يخفف ارهاقي فيها الا التطلع من النافذة العريضة، تحتل مساحة الجدار كله. تطل مباشرة علي البحر، تلوح في الافق ما يشبه الصخور الكبيرة، قال زميلي المصري المهاجر منذ ثلاثين عاما إلي السويد. »انه الشاطيء السويدي..« ما بعد المغيب شعرت بإرهاق، خرجت بدون معطف إلي الحديقة المطلة علي البحر، تنسمت الهواء البارد، كنت مازلت محتفظا بدفء الداخل. لم أفقده بعد، وانعشني الهواء الشمالي النقي ولكن عند حد معين كان لابد من سلوك القانون الذي يحكم هذه البلاد ويؤطر كافة مظاهر الحياة فيها، الانثناء إلي الداخل، بحثا عن الدفء، وهربا من البرد، البرد..