البنك الإسلامي للتنمية يقدم اعتماد مالي قدره 13.2 مليار دولار للبلدان الأعضاء    "كاسبرسكي": 9.7 مليون دولار متوسط تكلفة سرقة البيانات في القطاع الصحي    هبوط أسعار النفط وسط احتمالية زيادة إنتاج "أوبك+"    فضيحة تطال الجيش الأمريكي، إيقاف مجموعة من جنود النخبة عن العمل بعد عملية وهمية (فيديو)    أمن وكالة سي آي إيه يطلق النار على امرأة أمام مقرها    "الغارديان": ترامب خيّب آمال أوروبا بعد مكالمته مع بوتين    شهداء وجرحى في غارات الاحتلال المتواصلة على قطاع غزة    ضبط عامل لسرقته الشقق السكنية بمواقع تحت الإنشاء بمدينة 15 مايو    شوبير الأب والابن الأفضل في تقييم إكرامي.. والحضري يتفوق على الشناوي (فيديو)    في يومه العالمي.. احتفالية بعنوان «شاي وكاريكاتير» بمكتبة مصر العامة بالدقي    «التنسيق الحضاري» يطلق حفل تدشين تطبيق «ذاكرة المدينة» للهواتف الذكية    مجدي البدوي: علاوة دورية وربط بالأجر التأميني| خاص    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة| الأهلي ضد الزمالك في نهائي كأس أفريقيا لليد    حقيقة انفصال مطرب المهرجانات مسلم ويارا تامر بعد 24 ساعة زواج    بسمة وهبة لمها الصغير: مينفعش الأمور الأسرية توصل لأقسام الشرطة    انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي الشرقي في المنيا يُخلف 4 قتلى و9 مصابين    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    بصورة قديمة وتعليق مثير، كيف احتفت هالة صدقي بخروج عمر زهران من السجن    سقوط مروجي المواد المخدرة في قبضة مباحث الخانكة    صبحي يشارك في مناقشة دكتوراه بجامعة المنصورة ويؤكد: الشباب محور رؤيتنا للتنمية    تكريم سكرتير عام محافظة قنا تقديراً لمسيرته المهنية بعد بلوغه سن التقاعد    شيخ الأزهر يعزي المستشار عدلي منصور في وفاة شقيقه    لجنة التقنيات بمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب تعقد اجتماعها الأول    مراجعة مادة العلوم لغات للصف السادس الابتدائي 2025 الترم الثاني (فيديو)    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    هزة أرضية جديدة تضرب جزيرة «كريت» اليونانية (بؤرة الزلازل)    انفجار كبير بمخزن أسلحة للحوثيين فى بنى حشيش بصنعاء    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    مصرع 4 أشخاص وإصابة آخر في تصادم سيارتي نقل على طريق إدفو مرسى علم    ضبط مركز أشعة غير مرخص فى طهطا بسوهاج    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن بداية تعاملات الجمعة 23 مايو 2025    وكيله: لامين يامال سيجدد عقده مع برشلونة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالأسواق اليوم الجمعة 23 مايو 2025    بقيمة 19 ألف جنيه.. كنيسة بالسويس تساهم في مشروع صكوك الأضاحي تعبيراً عن الوحدة الوطنية    دينا فؤاد: مفيش خصوصيات بيني وبين بنتي.. بتدعمني وتفهم في الناس أكتر مني    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الجولة قبل الأخيرة لدوري المحترفين    الكشف عن موقف تشابي ألونسو من رحيل مودريتش عن ريال مدريد    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    صراع ناري بين أبوقير للأسمدة وكهرباء الإسماعيلية على آخر بطاقات الصعود للممتاز    وزير الشباب ومحافظ الدقهلية يفتتحان المرحلة الأولى من نادي المنصورة الجديد بجمصة    رسميًا بعد قرار المركزي.. ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 23 مايو 2025    تعليم القاهرة يحصد المراكز الأولى في العروض الرياضية على مستوى الجمهورية    تعليم القاهرة يحصد المركز الأول على مستوى الجمهورية بمسابقة الخطابة والإلقاء الشعري    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    تنفيذًا لحكم القضاء.. محمد رمضان يسدد 36 مليون جنيه (تفاصيل)    الشعبة: أقل سيارة كهربائية حاليًا بمليون جنيه (فيديو)    ما حكم ترك طواف الوداع للحائض؟ شوقي علام يجيب    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    ما حكم تغيير النسك لمن نوى التمتع ثم تعذر؟ المفتي السابق يجيب    قباء.. أول مسجد بني في الإسلام    «المفرومة أم القطع».. وهل الفرم يقلل من قيمة الغذائية للحمة ؟    «بربع كيلو فقط».. حضري «سينابون اللحمة» بطريقة الفنادق (المكونات والخطوات)    «لقرمشة مثالية وزيوت أقل».. أيهما الأفضل لقلي الطعام الدقيق أم البقسماط؟    مسلسل حرب الجبالي الحلقة 7، نجاح عملية نقل الكلى من أحمد رزق ل ياسين    تشميع مركز للأشعة غير مرخص بطهطا بسوهاج    هل التدخين حرام شرعًا ؟| أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة ونظيره السوداني تبحثان في جنيف تعزيز التعاون الصحي ومكافحة الملاريا وتدريب الكوادر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثروت عكاشة..
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 10 - 2015

الوجه قُرص برونزي مستدير، قد يشع عاطفة أو غضباً، طفولة أو عنفاً، تنقبض خطوطه أو تنبسط في لحظات ولا خلو في الحالتين من تأمل أو دهشة. جبهة عريضة عالية توحي بالكبرياء والشموخ، تتوجها خصلات شعر خفيفة علي استعداد دائماً للتمرد، أنف عريض أفطس يليق بملاكم، تحت عينين مسحوبتين بلمسة مغولية، يعلوهما حاجبان مائلان كوضع الحزن في قناع المسرح متداخلاً في الوقت ذاته مع وضع الضحك، حيث ينساب علي جانبي الفم قوسان يحددان ابتسامة عذبة قد تنقلب فجأة إلي تكشيرة نمر.. الربيع والصيف والشتاء والخريف، تتقلب فصولاً علي صفحة وجهه في دقائق معدودات دون أن يفتقد الحكمة أو صفاء الذهن، قليل من الكلمات يكفي لحسم الأمور لديه بنبرة عسكرية!
أبو الإحساس المرهف كوتر مشدود بالعاطفة والانفعال مثل كل الرومانسيين، خُلق ليكون عازف بيانو أو شاعراً أو رساماً أو قائد أوركسترا، فإذا به يصبح رجل الأقدار الذي يشارك في الفيلم بانقلاب عسكري تحول إلي ثورة غيّرت تاريخ بلاده في ليلة 23 يوليو 1952 ضمن زمرة الشباب الشجعان من تنظيم الضباط الأحرار، حملوا حياتهم علي أكفِّهم سائرين علي صراط النصر أو الشهادة، وكان هو أقرب إلي الأخيرة لكونه في طليعة سلاح الفرسان.. أخطر أسلحة الجيش المصري في حسم المعركة، لكنه عند توزيع المناصب بعد نجاح الانقلاب يعتذر عن قبول دعوة من عبدالناصر له للانضمام إلي مجلس قيادة الثورة مع رفاق السلاح- مع أنه في قلب القلب منها- مُؤثِراً علي نفسه زميلاً آخر رآه أحق بالمقعد كممثل سلاح الفرسان، فيما كان هو زاهداً في السلطة، وقد ظل طوال حياته يتجنب غوايتها وغِيَّها، سيَّما حين بدأت تتكشف أمامة سوءاتها ونوازع الصراع الخفية من بئر الأطماع البشرية للقفز عليها، سواء من رفاق الثورة أو من آخرين سارعوا لركوبها ولو لم يكن لهم أي دور فيها، وبالرغم من ترفعه عن اهتبال المكاسب، وقناعته بتأسيس ورئاسة تحرير أول مجلة تصدرها الثورة لتكون لسان حال العهد الجديد هي مجلة "التحرير" أو بشغل مواقع خارج مصر، قانعاً بأن يكون مفيداً لوطنه عن بُعد وقريباً في ذات الوقت من صديقه الأعز عبدالناصر شريك الحلم والمشروع الثوري حتي آخر رمق لكليهما، فإنه لم يَنْجُ من مكائد المنتفعين وصيَّادي الفرص حتي أوشكوا- غير مرة- علي أن يوغروا صدر صديقه نحوه وأن يهددوا استمرار العلاقة الحميمة بينهما، خاصة بعد أن أصر علي الوقوف مع التيار المنادي بالديمقراطية في مواجهة من أصروا من ضباط يوليو علي عدم تسليم السلطة للحياة المدنية وانسحاب العسكريين إلي ثكناتهم، فكان أن أُبعِد هو ورفيقه خالد محيي الدين إلي خارج مصر شبه منفيين!

لكن الاقدار كانت تدَّخر له أدواراً أخري محورية من خلال ما كلفه به الزعيم عبدالناصر من مهام ومناصب عسكرية ودبلوماسية بالخارج بين سويسرا وفرنسا وايطاليا، وكان منها كشفه للخطة العسكرية النهائية للعدوان الثلاثي (الفرنسي/ البريطاني/ الإسرائيلي) علي مصر 1956، ثم ما أعقب العدوان من فضح دولي له وفشل لأهدافه الاستعمارية، لتخرج مصر منتصرة سياسيا حتي نجحت في عزل دول العدوان دولياً، ووضعت بذلك نهاية لعصر الاستعمار القديم، ليبدأ عكاشة بعد ذلك في القيام بدور جديد لبناء جسور سياسية وثقافية علي أرض متكافئة بين مصر ومن كانوا أعداءها في أوربا بالأمس، ثم توالت أدواره من خارج مصر أيضاً خلال فترات التفاوض لبناء المفاعل النووي وتسليح الجيش وتمكين الثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية وحركات التحرر الوطني والوحدة العربية، ثم خلال فترات البناء والتنمية مثل التصنيع والإعداد لإقامة السد العالي، حتي قاد حملة مصر لإنقاذ معابد أبوسمبل وآثار النوبة عبر منظمة اليونسكو قبل أن تغرق في بحيرة السد أوائل الستينيات.. إن كل دور من تلك الأدوار يكفيه ليكون بطلاً قومياً لبلاده ورجل دولة من طراز رفيع، كما أن كل تلك التكليفات تعكس مدي ثقة عبدالناصر المطلقة فيه بما يتجاوز تقارير الأجهزة الرسمية المختصة، ومدي اعتماده الأخوي عليه أكثر من كونه زميل سلاح وكفاح، فثمة حالة إنسانية بالغة الخصوصية مثَّلت نهر المياه الجوفية المتدفق بلا انقطاع بين الرجلين، وهو ما عصمهما من شتي العواصف والمكائد التي لم يتوقف عن حاكها لهما بعض الحاقدين، فوق ما كان يُحِّض عكاشة به نفسه بانضمامه في الكتابة عن الموسيقي والرسم والشعر والأدب والفكر والترجمة وتأليف موسوعات الفن.
أما الدور الأعلي في برجه ذي الأدوار السبعة الذي ادّخرته الأقدار له- وهو أهم الأدوار- فكان تأسيسه للبنية التحتية للثقافة المصرية الحديثة ، عندما تولي إنشاء وزارة الثقافة خريف 1958، أي بعد ست سنوات من قيام ثورة يوليو 52.. لقد استمر يقود الوزارة أربع سنوات حتي خريف 1962، ثم غادرها لمدة أربع سنوات أخري قضاها في مهام خارجية، ثم عاد في خريف 1966 ليستأنف مشروعه كوزير للثقافة للمرة الثانية حتي عام 1970.
وقد تبلورت ملامح هذا المشروع وعلت أعمدته وأوشك علي الاكتمال لولا هزيمة 67 التي أحبطت قوة صعوده، ثم أجهز عليه رحيل عبدالناصر المفاجئ عن الدنيا 1970.. تلك كانت هي الفترة التي عَرفْتُ فيها ثروت عكاشة عن قرب، بين توهج مشروعه وانحساره.

.. دوناً عن عشرات المواقف والمشاهد التي أحتفظ بها له في ذاكرتي، هناك ثلاث لقطات إنسانية محفورة في داخلي بقوة، عشتها معه بكل جوارحي، تشرَبتها مسام روحي كورقة النشاف بكل كلمة أو إيماءة، فكانت رصيداً لي في أعوامي وتجاربي التالية..
اللقطة الأولي: وأنا في مكتبه بقصر عائشة فهمي بالزمالك أوائل 1968، وقد دعاني لمقابلته علي خلفية ما أثاره نشاطي وسط الجماهير- والفلاحين خاصة- كمدير لقصر ثقافة كفرالشيخ، من أصداء مدوية أثارت حنق كثير من السلطات ضدي، جري اللقاء في حضور بعض المثقفين الداعمين لي ولمشروعه الثقافي الشامل وليسوا من الوسط الثقافي، منهم أطباء ومحامون وساسة من دسوق وكفرالشيخ والقاهرة، ومعهم شقيقه الأصغر د. أحمد عكاشة، وأنا- بعدُ- لم أبلغ الثامنة والعشرين، فإذا به، بعد أن استمع طويلاً إليّ وإلي شهادات أبناء المحافظة وتيقن من صدق ما سمع في ضوء معلوماته الخاصة، يطالبني أن أصمد أمام القوي العاتية (المحافظ- القيادات السياسية الرسمية- أجهزة الأمن) التي تحاربني وترفع التقارير عني
كمعارض لنظام عبدالناصر ومناوئ للسلطة وحليف للشيوعيين، حتي بِتُّ قاب قوسين أو أدني من البطش بي، وحين رآني لا أكاد أحتمل استمرار المقاومة، راح يشد من أزري قائلاً: "أنت علي رأس قلعة أمامية، لو سقطت سوف تتساقط في إثرها القلاع تباعاً!" وكان وجهه يفيض أبوّة وصدقاً، وهو يشكو لنا مما يلقاه من حرب واتهامات من داخل أجهزة عبدالناصر بأنه شيوعي، قاصداً أن يُهوِّن عليَّ اتهامي بنفس التهمة!.. هل كان يري فيَّ ساعتها صورة من شبابه؟ أم كان الأمر اختباراً لرهانه علي الشباب- وأنا منهم- حين كلفنا بالعمل القيادي، وهو ما كان يعلن اعتزازه به؟ وهل من أجل ذلك تحمّل- بشجاعة- مخاطرة الدفاع عني أمام عبدالناصر في اجتماع لاحق لمجلس الوزراء حتي حصل منه علي ضوء أخضر لاستمراري؟
اللقطة الثانية: بعد عدة أشهر في نفس العام ونفس المكان مع اختلاف الحاضرين.. فقد حضر معي مجموعة من زملائي مديري قصور الثقافة بمختلف المحافظات من شباب الكتَّاب والفنانين، وقد بدا واضحاً أن دور المثقفين اليساريين مع عبدالناصر قد بلغ منتهاه، واستنفد النظام أغراضه السياسية منهم بعد أن وظفَّهم عكاشة كقيادات عليا بوزارته عقب إطلاق سراحهم من السجون.. رأيته ووجهه مكفهر يموج بغضب عارم، وهو يضرب سطح المكتب بيده حتي كاد ينكسر زجاجه صارخاً وخصلات شعره تتهدل فوق جبينه المحتقن بالدم: "أنا مش شيوعي يا سادة.. وسأقطع رأس الأفعي!".
وكان بذلك يرد علي تساؤل بريء لزميلة لنا عن سبب الإطاحة بسعد كامل رئيس الثقافة الجماهيرية المسئول عنا جميعاً، وكان صحفياً مرموقاً بجريدة الأخبار، فيما يجلس في الحجرة المجاورة رجال الحرس القديم الذين تم تنحيتهم سابقاً وأخذنا أماكنهم مع توليه المسئولية، ونحن جميعاً نعلم كم أخلص "سعد" له الحب وتفاني لتحقيق ما حلما به معاً لنجاح قصور الثقافة، لكنه الوحيد من بين جميع القيادات اليسارية الذي تجرأ ورفض التقدم باستقالته حين طلبها الوزير منه قائلاً: "أنا أحب عملي ولم أقصِّر ولا أريد أن استقيل.. فليُقلني بيده لا بيدي إذا شاء!" لكني أظن أن ثورة الوزير كانت في حقيقتها رسالة موجهة أساساً إلي الأجهزة الأمنية والسياسية التي تراقبه وتتهمه بالشيوعية، والتي طلبت منه فيما يبدو التخلص من "سعد" والآخرين، فلم يكن لمثله- بكل ما عُرف عنه من وفاء ومشاعر إنسانية- القدرة علي أن يبطش بمن أحبه ووقف بجانبه بكل هذه القسوة، إذن كانت تلك ذروة مأساة بطل تراجيدي انقسم علي نفسه كأبطال التراجيديا اليونانية.. رجل آمن بالثقافة بديلاً عن السلطة، فوجد نفسه خادمها وجلادها ثم ضحيتها!.. وآمن بالإنسان والفنان بديلاً عن السياسي، فوجد نفسه يقهره لحساب السياسي والسلطة معاً!
اللقطة الثالثة: بعد عدة أشهر أخري عام 1969، وهو يقف معي في صحن قصر المسافرخانة بحي الجمالية إلي جوار النافورة التي يرطب رذاذها الناعم حرارة شمس ذلك الصباح، وقد أُسدل الستار قبل الأخير علي فضول الدراما التي كان هو بطلها وكنت أحد شهودها.. كانت ملامح وجهه تذوب وجداً وحنواً أمام معالم القصر التاريخي العريق، مسحوراً بما يتأمله من مشربيات القاعة العليا التي وُلد فيها الخديو إسماعيل، وما يتضمنه المبني من نفائس الفن العثماني في العمارة والزخارف الخشبية ونوافذ الزجاج المعشق بالجص وهي تشع بألوان قوس قزح، وبلاطات القيشاني النفيسة التي تكسو الجدران والآتية من أنطاكية، ومثلثات الرخام الدقيقة (الخُردة) التي تزين الأرضيات والآتية من مقدونيا، في وحدات هندسية متبادلة الألوان فائقة الجمال حول فسقيات "السلاملك" والحديقة.. لقد دعاني كي يسلمني عملي الجديد كمدير لمراسم الفنانين بالقصر الأثري، قائلاً أمام كل معاونيه: "إجعلها استراحة محارب.. آن لك أن تهدأ في رحاب هذا الجمال، فما سيبقي منك لنا هو الفن الذي ستبدعه أنت وزملاؤك هنا!" وكنت قد اعتذرت قبلها عن وظيفة المدير الفني بمكتبه بعد أن أصدر قراراً لي بتولِّيها، وفضلت أن أتفرغ للفن بعد أن تم إجهاض مشروع قصر الثقافة والقافلة، بل الثقافة الجماهيرية جميعاً، أكان ذلك اعتذاراً منه عما جري، أم محاولة للإمساك بالقوة الناعمة للجوهري الأصيل في نفسه؟

وبغض النظر عن صراع السلطة- ما ظهر منه وما بطن- وعن زلزال هزيمة 67 الذي أجهض قوة الدفع لمشروعه الثقافي ضمن عوامل أخري، فلاتزال منجزات ذلك المشروع بمثابة الأعمدة الخرسانية التي تحمل المؤسسات الثقافية في مصر حتي اليوم.
كان عكاشة مدركاً منذ البداية أنه ليس منوطاً به إنتاج الثقافة، لأن الدولة لا تنتج أو تقيم نهضة ثقافية، إنما هي تقيم بنية أساسية لا غني عنها لقيام هذه النهضة، وبناؤها واجب قومي عليها لاستكمال مشروعها التنموي والنهضوي العام، وكان مشروع عكاشة في جوهره يعني تحقيق المعادلة الصعبة بين المبادئ الستة التي قامت من أجلها ثورة 1952 وبين بناء الإنسان بالمفهوم الحضاري، الإنسان القادر علي تحقيق تلك الأهداف والدفاع عن الثورة ومنجزاتها، وعلي دخول مستقبل يقوم علي الوعي والحرية والعدالة والأخلاق والروح الوطنية والإحساس بالجمال، وكان يعني- كذلك- بلورة طاقات الإنسان الفكرية والروحية والوجدانية كي يصبح قوة دافعة للنهوض الفوري.. وبدون هذا البعد الثقافي/ الحضاري فلا قيمة أو ضماناً لاستمرار أية منجزات اقتصادية أو اجتماعية، أو قدرة للحفاظ علي الاستقلال الوطني.. كان عكاشة يعي ذلك جيداً منذ السنوات الأولي للثورة، بشغفه المعروف بالفنون والآداب والفكر وثمار الثقافة الرفيعة، وقيامه بترجمة عدة كتب مهمة، وربما كان بذلك يتحدي ويُهذِّب طبيعته العسكرية الموروثة.. أباً عن جد، بصرامتها النمطية وحساباتها المنضبطة علي الأرض بعيداً عن الخيال وشطحات القلب والروح، لكن أحداث الثورة وتحولات السياسة أخذته إلي مهام أخري، وللحق فإن عبدالناصر كان بدوره يمتلك بصيرة وإيماناً بهذه الرؤية الثقافية، كمثقف مولع بالقراءة في كل مجالات الفكر والمعرفة والتاريخ والأدب.. وكقائد يجيد قراءة الواقع بماضيه وحاضره ومستقبله، كان يدرك ويثمِّن ما قدمه المفكرون والمثقفون المصريون من تمهيد للأرض لقيام الثورة، ومن دور تنويري نسج علاقة صحية بين الثقافة والعلم والحضارة والتغيير علي مر العقود السابقة علي الثورة، وقد أشار إلي ذلك في أكثر من مناسبة، ما دفعه لتأسيس المجلس الأعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1955، كبوتقة ضمت المفكرين والأدباء والفنانين والعلماء والباحثين والنقاد، وهيأهم لتولي زمام الإدارة الثقافية في دورها الجنيني الذي بلغ نضجه النسبي مع وزارة فتحي رضوان للإرشاد القومي، التي ضمت إدارات مهمة مثل مصلحة الفنون وإدارة الثقافة والأدب ومركز الفنون الشعبية والبرنامج الثاني (الثقافي) بإذاعة القاهرة والمسرح القومي، تولتها قيادات مرموقة أمثال يحيي حقي وحسين فوزي ورشدي صالح وزكريا الحجاوي وعلي الراعي ولويس عوض وأحمد حمروش وغيرهم.

والغريب أن عكاشة في مذكراته "في السياسة والثقافة" التي نُشرت 1988 يفاجئنا بأنه رفض في البداية بإصرار قرار عبدالناصر بتعيينه وزيراً للثقافة 1958، لأنه كان يفضل أن يعيش الحياة الطليقة بعيداً عن السلطة وأهوائها وصراعاتها، خاصة أنه كان يعيش منذ سنوات بين باريس وروما في قلب الحياة الثقافية الرفيعة والفنون بكل اتجاهاها، ويحظي بعلاقات عميقة بكبار المفكرين والأدباء والموسيقيين والرسامين في أوربا، ولم يكن قد تخلي عن حلمه بدراسة العزف علي البيانو والتفرغ له، واضطر عبدالناصر لاستثارة حميته القديمة وهم شباب قبل الثورة حول انطلاقاتهم للنهوض الثقافي بالشعب، ومع ذلك ظل عكاشة متردداً لا يعطي موافقته للرئيس الذي أمهله يومين للتفكير، إلي أن قطع عبدالناصر الطريق عليه بإصداره قرار تعيينه، فذهب لمقابلته في قصر عابدين وهو في حالة من التوتر والقلق، وهو ما وصفه زميله الأديب يوسف السباعي بينما يقود السيارة به إلي اللقاء قائلاً له: "أتخيلك وأنا أحملك إلي القصر الآن مثل اليوم الذي أخذت فيه ابني إسماعيل لأول مرة إلي المدرسة، فقد كان مهموماً حزيناً وكأنه قد رأي في المنام أني سأذبحه مثل سيدنا إسماعيل عليه السلام!" (مذكرات ثروت عكاشة ص420).
لكن سرعان ما هدأ روعه حين استقبله عبدالناصر بدفقة الحماسة في صوته وهو يطمئنه قائلاً: "تأكد أنني سأوليك كل الدعم والرعاية، فإنني واثق أنك سوف تشكل رباطاً وثيقاً بين حركة المثقفين وحركة الثورة لتخلق منهما وحدة فعالة، فنحن بحاجة إلي تعاون جميع المفكرين المستنيرين لإحداث التنمية الاجتماعية المنشودة" ص422/ المذكرات.
ويختتم عكاشة هذا الجزء قائلاً: "وبدأت أُغرق نفسي في العمل ليل نهار، وكأنماً مرت يد سحرية علي ذاكرتي فمحت منها تخوفاتي السابقة وترددي الذي صرت أندم علي أنه حدث لي فترة كانت تمثل نقطة تحول بين عملين كلاهما له مسئولياته الكبري" (ص422)، ويقصد عمله الدبلوماسي ثم عمله الثقافي، ويشير في مذكراته إلي مفهوم عبدالناصر عن الثقافة بقوله: "كان عبدالناصر معنياً بمسائل الثقافة، حريصاً علي دعم المشروعات الثقافية، مؤمناً بأن ازدهار الثقافة يؤدي في مجال الفكر ما يؤديه التصنيع الثقيل في قطاع الصناعة، شغوفاً بأن يري للقلم رسالة في شحذ وجدان الأمة لا تقل عن رسالة المدفع في حماية حدود الوطن، وفي تعانقهما معاً ما يتيح للأمة التطور والارتقاء" ص426
علي أن عكاشة كان منذ البداية مدركاً لأهمية توافر "رؤية ثقافية" أو "سياسة ثقافية" يعمل علي تنفيذها فيقول: "ينبقي أن يكون للدولة سياسة ثقافية تتفق مع أحوالها ومطالبها وحاجات المجتمع، علي نحو ما لها من سياسات اقتصادية وتعليمية وتربوية، علي ألا تكون رسالة الدولة تحديد مضمون الثقافة أو توجيه الإبداع في اتجاه معين، لأن الحياة الثقافية تتطلب أولاً وقبل كل شيء حرية البحث والنقد والابتكار والتعبير وإيصال النتاج الثقافي إلي الناس.
ثم يستأنف: "السياسة الثقافية ليست محاولة من الدولة لصنع ثقافة حكومية، وإنما هي لتشجيع ازدهار القيم والتطلعات الثقافية بكل أنواعها النافعة، حتي تفرغ الدولة لنشاطها في الميادين الأخري" ص427
هذا التوجه الفكري المبكر للقيادة السياسية والثقافية منذ 1958 يبدو علي عكس ما يروجه البعض عن استخدام الدولة للثقافة في الفترة الناصرية ترويح سياستها وقضاياها، ولعلي أتفق جزئياً مع هذا الرأي إذا شئنا الحديث عن المثقفين لا عن الثقافة، فقد قَبِلَ بعض المثقفين طواعية القيام بترويج مفاهيم الثورة وقضاياها، من منطلق إيمانهم بها لا كأبواق دعائية، ومع ذلك لم يقدم لهم النظام الامتنان بهذا الدور، بل حدث العكس كما أسلفنا.. أما بالنسبة لإنتاج الثقافة، من أعمال أدبية وفنية وتشكيلية وسينمائية وبحثية وسواها، فقد تمتع المبدعون- إلا نادراً جداً- بحرية مطلقة في التعبير، حتي المعارضة- أحياناً- لبعض التوجهات السياسية للنظام، فلم يُعصَف بقلم روائي أو كاتب مسرحي، ولم يُمنع فيلم سينمائي أو عمل لفنان تشكيلي اختار الاتجاه التجريدي أو السوريالي أو التكعيبي مما لا تفهمها أو تتذوقها الجماهير، وقد يحمل بعضها إسقاطات سياسية سلبية تجاه النظام، مع التسليم- بالطبع- بأن الأعمال الإبداعية التي تحمل رسالة إيجابية تتفق مع الثورة وقائدها كانت تحظي باهتمام أكبر من الدولة، لأنها تدعم التوجهات الصحيحة للثورة.
وحتي في السنوات التي غادر خلالها "عكاشة" وزارة الثقافة، وأُدمجت فيها الثقافة والإعلام والسياحة (فترة تولاها د. عبدالقادر حاتم)، فإن المؤسسات المعنية بالعمل الثقافي، مثل المسرح والسينما وقصور الثقافة والمعاهد الفنية والفنون التشكيلية وغيرها، ظلت بمنأي عن سياسة التوجيه الدعائي للنظام، وإن شابها التركيز علي الإنتاج الكمي علي حساب الكيفي، تنفيذاً للسياسة (الحاتمية) التي تنصبُّ- أكثر- علي الإعلام، لكن في خضم الفراغ الذي نشأ عن إقصاء المثقفين اليساريين عن قيادة المؤسسات الثقافية، فإن بعض القيادات الجديدة لتلك المؤسسات، تطوعوا بإضفاء صبغة سياسية علي الأنشطة الثقافية، تتوافق مع أهداف الحقبة الساداتية الجديدة بعد وفاة الرئيس عبدالناصر في سبتمبر 1970.

وكانت الفترة الثانية لتولي عكاشة للثقافة (1966-1970) هي فترة جني الثمار لما استزرعه من حقول ثقافية، باستكمال تأسيس الأكاديمية المصرية للفنون في روما، وكذا أكاديمية الفنون في الهرم بمعاهدها للمسرح والسينما والكونسرفتوار والباليه والفنون الشعبية والنقد الفني مما أدي الي بزوغ أجيال جديدة من المبدعين في هذه الفنون لأول مرة في مصر، كما أدي مشروع التفرغ للفنانين والأدباء والباحثين إلي إطلاق مواهب وأعمال إبداعية رائدة، ما كانت لتظهر وتترعرع لولا ما أتيح لأصحابها من الوقت والمال، وكان لإنشاء مراكز "الفن والحياة" و"النسجيات المرسَّمة" وأقسام الحِرَف التقليدية بوكالة الغوري وجميع التراث الشعبي من أقصي الأقاليم، فضلْ في إحياء هذه الفنون وتنشئة أجيال جديدة علي طريق الأسلاف.
أضف إلي ذلك تأسيس الفرق المسرحية والموسيقية وفرق الرقصات الشعبية، بدءاً من فرق الثقافة الجماهيرية بالأقاليم حي المسرح القومي وفرق الباليه والأوبرا والموسيقي السيمفونية والموسيقي العربية، فيما انطلقت قوافل الثقافة تجوب القري حاملة الزاد الثقافي وحوارات الفكر وثمار الفنون جميعاً، مستنبتة علي شواطئ التجربة زهوراً من المبدعين الواعدين في كل المجالات.
فوق إشباع العقول والقلوب للجماهير بثمار المعرفة والثقافة، والأمر نفسه تحقق في إنشاء المتاحف الفنية واقتناء أعمال الفنانين لإثرائها ولتشكيل ذاكرة الإبداع المصري، وإحياء تراث رواد الفن بإقامة متاحف خاصة بكل منهم (مثل مختار وناجي وسعيد)، وإصدار سلاسل من كتب التراث والأدب والمسرح العالمي، فوق إصدار الموسوعات والمجلدات عن أمهات المدارس الفكرية والأدبية، وإصدار المجلات الثقافية الكفيلة بإشباع حاجة كل الأذواق والمشارب إلي الثقافة، ناهيك عما قدمه عكاشة لترميم آثار القاهرة التاريخية وتشجيعه لبعثات التنقيب العالمية عن الآثار بالتعاون مع حراس التراث الإنساني عبر اليونسكو.
إن ما عرضته في هذا المقال (البورتريه) لم يهدف إلي حصر تفصيلي لإنجازات ثروت عكاشة في الثورة والثقافة والتراث، بل هو مجرد شعاع ضوء رسمت به الملامح العريضة لمشروعه وفلسفته والسمات الإنسانية لصاحبه، قد يساعد علي إضاءة الطريق أمام من يريد التوغل صاعداً بُرجه ذا الأدوار السبعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.