شعرتُ بانقباضة عند استيقاظي في السادسة صباحاً. الجو بالخارج منعش، تخللته طبقة ضباب كثيفة. فتحت نافذة الصالة، فبدد الضوء عتمة الساعة المعلقة علي الحائط، والمحاطة بزهور بلاستيكية أخفت العقارب، لكنها لم تخف تكاتها. تلكأت طبقة ضباب أقل كثافة أمام النافذة. تسربت في خيوط رقيقة من بين القوائم الحديدية، علي هيئة زهرة اللوتس. أغلقت النافذة عندما شعرت بالبرد، في ذلك الصباح الربيعي برائحة الشتاء. انعكست الإنقباضة علي وجوه إخوتي النائمين، الذين يفكرون مثلي في الجدة الملفوفة في أغطيتها، بإحدي حجرات البيت المقابل. وعند ذكر الجدة، فإنه لا يصح تجاهل ذلك الوادي، الذي يغيّر جلده بالقرب من النهر عند ارتفاع منسوب الماء، نباتات وحشائش. لم أحمل له أي محبة عندما كنت طفلاً. ربما لعدم قناعتي بأن ينعزل المرء وحيداً في مكان ممتلئ بالريح. تفترش الأسرة الرمال محدقة في النهر، لأبني عالمي بجانبهم قصوراً وقلاعاً حربية أسمع فيها أنات المحاربين، وتأتي الأمواج المزبدة لتهدم ذلك العالم. نعود منهكين آخر النهار ورائحة النهر في ملابسنا وأجسادنا، لنفقدها أسفل دش بارد ننطلق بعده لأسرتنا، حالمين بالعودة في اليوم التالي، نفكر في الكائنات التي تقتفي أثرنا لتنتقم منا. كان أبي يضحك علي خيالات الطفولة تلك، عندما أفتح له الباب في الخامسة صباحاً، لأحمل عنه حقيبة الكتف وأخرج الأسماك التي صادها، والقواقع التي حدثتني عن بلاد بعيدة، وعن إنسان ضلّ طريقه منذ ألف عام، فيعطيني الكثير من المانجو الذي أخذه من قائد وابور نهر، رسا علي الشاطئ حتي الصباح، يحكي لأبي عن الوحدة والأحلام التي تركها خلفه. لم يتبق لي بعد موت أبي غير الصمت والقراءة. أترك الكتاب جانباً لألعب الأطول نفساً، لكن سرعان ما يضيق تنفسي ويزداد الضغط علي أذنيّ، ليظهر زملائي وسط النهر ملوحين بأيديهم، فأخرج شاعراً بالهزيمة. أستلقي علي العشب تاركاً أسراب نمل تزحف علي صدري، فأحمل عند العودة رائحة الحشائش، والتماعة الضوء في عينيّ. أدركت كم كان الجو في الخارج خانقاً. انفتحت برئتي علي الهواء، علي المساحات الخضراء الغارقة في الضباب. لن تأت الجدّة إلي الوادي ثانية. أفقدتها غيبوبة الكبد التركيز لثلاث سنوات، كانت تعود أثناءها إلي الحياة بأعجوبة. عالمها هنا كان أكثر براءة: الطريق الترابي المطل علي الوادي بالأسفل، الممتد بلا نهاية والمغروسة في باطنه آلاف الجذور، التي تعوي وتتعارك فتسيل دماءها، كما كانت تقول مخوّفة، حتي لا أذهب إلي هناك، بعد ازدياد حالات القتل، في المزارع القريبة من النهر. الوادي، أرض الرمال قديماً. جلستْ عليها الجدّة بجوار البطيخ والشمّام، متحملة عبء العمل بعد موت الجد. تسير إلي النهر حافية القدمين، تخلع ملابسها فيلتمع جسدها بضوء القمر وتنزلق إلي الماء. كثيراً ما استضافت نوبيين وأفارقة، عندما جاؤوا بقواربهم لابتياع الثمار. تواصلوا فيما بينهم بالإشارة، ثم تعلّمت لغتهم بعد ذلك. اختفت الرمال خلال سنوات، واصطبغ الوادي بحمولات طين لملاك كبار، بتواطؤ مسؤلين في الدولة. باعت الجدة الأرض في النهاية، وأقامت حجرتين لصناعة العلف فوق الطريق. أجمع لها من الشط نباتات"عشبة النهر" و"عدس الماء". تجففها ثلاثين يوماً، ثم تطحنها في الحجرتين، اللتين تقف أمامهما كإله غاضب ترقب الأفق: السماء، النهر، القوارب. يغضب أبي عندما لا يجدني في البيت، مع أنه يعلم أنني بجوار الجدة كنتوء صغير في صفحة رمادية، مستغرقاً في واجباتي المدرسية، لتهب رائحة النعناع من الوادي، فيزداد سخطي علي سجن الصباح، بأسواره ومعلميه ومقاعده التي نخرها السوس. رحلتها الأخيرة كانت إلي السودان عند " بحر الجبل". غابت ما يقارب العام، وعادت ببذور نباتات جديدة زرعتها بجانب الحجرتين، كعنصر جديد في صناعة العلف. لم ترتح الجدة في بيتنا ولا في بيت عمي المقابل، بسبب أبواب خشبية ذات أعين سحرية، غرفة استقبال بأنتريه مخملي محدود العدد، حجرة طعام لا يسمح بالأكل خارجها، وبانيو روز إيطالي لم تستحم فيه، فكيف لمن قضت حياتها علي شاطئ النهر، أن ينزلق جسدها في هذا الحيز الضيق؟!. أفرح عند ذهابي معها لزيارة أختها، لكونها ترفض السفر براً. تتوكأ علي عصاها لنشق الضباب كشبحين، وأحملها علي كتفي عابراً بها مستنقعات الماء، بينما ريح الصباح تعوي بين أفرع شجرة، كانت قريبة من كوخها الذي لم يتبق له أثر. شعرنا بالخوف لأن اتساع الوادي، كان كصحراء ارتكب فيها اثنان جريمة قتل، مثقلين بالذنب وبذرات رمال علقت بملابسهما، فتقف لتهمس في أذني بأن أحداً يتتبعنا، يجمد الدم في عروقي، وأنا أنظر خلفي بحرص .صعدنا إلي وابور نهر تمددت الجدة في مؤخرته، متغنية بلهجة قبائل"بحر الجبل"، لتصمت طوال الرحلة مستقبلين صوت الريح، الطيور، وصرير التين ذي الزغب الأبيض في فمي. هبطنا قرب أحد الفنادق، صعدنا درجاً حجرياً إلي رصيف ملتو، انتهي بنا إلي جروبي. لفتنا انتباه الجميع عندما دلفنا إلي الداخل، كفأرين خرجا للتو من مخبئهما المظلم. افترشت الجدة الأرض، وأخرجت من حقيبتها ما تبقي من تين مجفف، لأوزعه علي السادة المهندمين، المنعكسة وجوههم علي الزجاج. خرجنا من جروبي وعلبة الحلوي داخل الحقيبة. لقد مرّ ذلك أمام عينيّ، أثناء إغفاءتي أسفل شجرة جوافة. الواحدة ظهراً. انزلقت في الماء البارد، ليجف جسدي بعدها علي درجات السلم الحجري المغطي بالطحالب. غسلت بعض حبّات الجوافة وانطلقت إلي حجرتي العلف. غلبني النوم لأستيقظ في الرابعة عصراً. و في طريقي إلي البيت رأيت قوارب أفارقة ترسو علي الشاطئ. كانوا يسيرون في صمت منكسي الرؤوس، فصرت وسطهم باكياً والسماء تغيم فوقنا. الجدة فوق سريرها في حجرة رصاصية اللون، وقد غطي جسدها بملاءة موشّاة برسم في وسطه قارب، طلبت شراءها بعدما اشتد عليها المرض، ولم تعد قادرة علي الذهاب إلي الوادي، فشعرتْ كما أخبرتنا بوشيش الموج، لتجد نفسها وسط الحجرة، فتجزم أنه أزاحها من فوق السرير. انقشعت الغمامة فأنار الضوء جسدها، كالمتسلل من نافذة كاتدرائية تنتمي للعصور الوسطي. بطنها منتفخ أملس، أبيض اللون، وذراعاها محترقان من الضوء والريح، و ثمة دم متجلّط أسفل شفتيها. بدّلت جلستي من الكنبة إلي طرف السرير. بكيت عند الآية الواحدة والعشرين من سورة البقرة، التي يعدد الله فيها نعمه علي خلقه. تحرّك الحشد في صمت مهيب، عندما مالت الشمس إلي الغروب. إنها تسحب أشعتها من هناك أيضاً يا جدة: من فوق الطريق وحجرتي العلف. وضعناك في حفرة عميقة، ليلقي فيها أفريقي بنبات عدس الماء.