أوقات للحزن والفرح" إحدي روايات الكاتبة الراحلة ابتهال سالم التي تصور الحياة الاجتماعية في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011. حيث تمازج الكاتبة بين ما هو عام ومجتمعي، حال مصر التي تفشي فيها الفساد وغياب القانون، وتهميش الفقراء، وتفريغ الطبقة المتوسطة من دورها الحقيقي في المجتمع، وما هو خاص، حيث ترقد سندس طريحة الفراش في مستشفي عام، تراقب الحياة، وتستعيد عبر الفلاش باك ما حدث لحياتها ، مما عانته من فقر ومرض: "يداهمها ليله الثقيل .. غازيا قلبها بذكريات لا تهدأ .. ينقر المطر الخفيف النافذة فترحل عيناها لحنين بعيد دافيء". تمازج الكاتبة في العنوان ما بين الحزن والفرح، لكنها تقدم الحزن، وكأن الفرح مؤجل ربما تأتي به النهاية المفتوحة التي تتركها للقارئ كي يسطر بقية الحكاية. تناقش الكاتبة في هذه الرواية كل ما مر علي مصر من أحداث كبري، الثورة، ووصول الإسلام السياسي للحكم، وتفاصيل الحياة اليومية للشخصيات التي تحيط بسندس البطلة ، كل شيء يتم ذكره هنا والآن وكأنها ترغب في تثبيت المشهد حتي لا ننسي ما حدث لنا. فنسمع هتافات الشباب في ميدان التحرير، كما نسمع هتافاتهم أيضا عند ماسبيرو، فالوطن في حالة مخاض كبير، وكل شيء يجب مناقشته دون مواربة. لا تشارك الساردة في الأحداث العظام التي تتم بالخارج من وراء هذا الزجاج المغبش، لكن الكاتبة استطاعت أن تهيئ القارئ لأن يماهي في صورة استعارية بين الذات الساردة والوطن. هي استعارة كبري للوطن المأزوم الذي يحاول أن يستعيد عافيته عبر التثوير والتحريض ضد نظام نسي واجباته تجاه الشعب:" تحدق في الحوائط الباهتة لتلك الحجرة الضيقة ، شباكها الوحيد يطل علي النيل من بعيد .تركت سريرها خلف ظهرها لتمسح بيدها الواهنة قطرات ندي مبعثرة علي الزجاج المغبش"." حانت ساعة الصفر، لا مفر" هذه الجملة تحمل الكثير من الدلالات لو عرفنا من خلال مجري الأحداث أن الغد سيكون موعد إجراء العملية الجراحية للبطلة، وكذلك الغد هو عيد الشرطة، 25 يناير 2011، حيث سيصبح ميلاد جديد لمصر، وكأن استئصال الورم من البطلة يوازي استئصال الورم( النظام الفاسد) من جسد الوطن. لكن الساردة لم تكتف بسرد سيرة الإنسان في مجتمع يستعد للثورة، بل شاركت كجزء من نسيج هذا الوطن فيما تمر به مصر من مخاض، ويصير ميدان التحرير رمزا للتحرر والانعتاق:" وقفت وسط الميدان تشم رائحة التاريخ والذكريات ثلاثون عاما مرت, ورغم ذلك, تشعر وكأنها موجودة هنا البارحة.. هنا السور الخلفي للجامعة, هنا النفق المؤدي للباب الرئيسي هنا عرق الطلاب ممتزج بإسفلت الشارع، وهو يهتفون في مظاهرة خارج أسوار الجامعة : "يا حرية فينك, فينك, حطوا السجن ما بينا وبينك" كان حماسها لا ينضب، ولا تكل طاقتها في خوض المعارك الطلابية، من أجل الحرية والكرامة". إنها ترسم صورة ذهنية عن الوجه الأنثوي لثورة يناير، وتكشف عما مر به الوطن من أحزان بسبب ما حدث له طوال ثلاثين عاما من ترد وفساد، ويصير الحزن علي شهداء الوطن الذين دفعوا دماءهم ثمنا للحرية, والحزن علي الشباب الذين ضحوا بأيامهم من أجل أمل لم يكتمل هي أحد تجليات الأحزان في الرواية. إن سندس المرشدة السياحية التي ترقد صريعة للمرض في مستشفي الأورام تكون عيون القارئ لرصد ما وصلت إليه حال المصريين، وقد اختارت مستشفي"الأورام" وليس مرضا آخر ،فالسرطان الذي يأكل أجساد أطفال الأمة خطره رمزا للسرطان السياسي الذي يأكل أجساد الوطن كله:" طفل عمره شهور تجري له عملية دقيقة في خصيتيه .. يالله ما الذي حدث لأطفالنا ؟!!". تناقش الكاتبة قضايا مجتمعية شائكة عبر الديلوج بين الساردة وصديقتها، فالأولي تعمل بالسياحة:"أفهمك ياستي .. أولا : لأنك بتنقلي للناس الوافدين من بلاد العالم تاريخ بلدك وحضارته وآثاره العظيمة ، ثانيا : بتقابلي شخصيات من مختلف الجنسيات واللغات .. وغيره وغيره" أما الثانية فتعمل بالتربية والتعليم ، وتجدها الكاتبة فرصة لمنافشة قضايا التعليم،فهي تؤمن أن نهضة مصر المعاصرة يجب أن تقوم علي عمودين رئيسيين هما الصحة، وقد تحدثت مطولا عن المرض ومعاناة الفقراء، وعلي التعليم، فنسمع صوت سامية ينتقد ما في التربية والتعليم من تغييب لوعي المواطن وليس لبناء الوعي:" يابختك بشغلتك ياسندس ، مش أنا اللي مدفونة في التربية والتعليم ، العيال بيهربوا من المدرسة ، والمدرسين لا بيشرحوا ولا بيهببوا". تعود الكاتبة عبر الفلاش باك إلي فترة السبعينيات لتؤكد أن الثورة فعل تراكمي له جذوره، واختارت عقد السبعينات لتقوم بعملية تبئير علي أحداث يناير، ليست يناير الحالية، بل يناير 1977، حيث قام العمال والطلاب بتظاهرات عارمة يومي 18 و 19 فيما سمي بانتفاضة الخبز، والتي أطلق عليها النظام " انتفاضية الحرامية" والتي قامت علي خلفية محاولة الحكومة زيادة أسعار 25 سلعة تموينية وعلي رأسها الخبز. والجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات الكبري كانت محور رواية الكاتبة الأولي " نوافذ زرقاء". لا تكتفي الكاتبة بمناقشة قضايا الوطن السياسية والاجتماعية، لكنها أيضا تناقش قضايا الآخر المسيحي واليهودي، فمظاهرات ماسبيرو كانت فرصة لتسلط الضوء علي مطالب شركاء الوطن والثورة: "بالروح بالدم نفديك ياصليب" وكذلك حينما تلتقي بطلتها " سندس " وهي المرشدة السياحية بشاب يهودي يتمني أن يزور مصر، وتحاول أن تفرق بين اليهودي والإسرائيلي، فنحن لا نعادي اليهود كديانة، إنما نعادي الكيان الصهيوني الذي اغتصب أرض شعب وشرده في المنافي.تقول علي لسان الشخصية اليهودية:" فهل أنتم ترحبون بي لو حضرت في جولة سياحية إلي بلاد الفراعنة أو سوف تكرهونني وتنبذونني لمجرد أني يهودي الديانة ". كما أنها تؤكد علي أن التهميش والإقصاء لمكون ثقافي بعينه في المجتمعات ليس داء مصريا خالصا، بل كل المجتمعات تعاني منه، فها هي المرأة الأيرلندية تحك لها عن أخيها الذي ذهب للحرب في أفغانستان وتري أنهم أخذوه لأنهم أقلية:" هو ما كان له يحارب ، ولكن لأننا أقلية من أصل أيرلندي أرسلوه هو وصاحبه الزنجي في الجحيم هناك .. لو كان من الطبقات العليا أو ابن واحد من الكونجرس ما كانوا شحنوهما بالساهل". تنشغل الكاتبة بمناقشة بدايات ظهور التطرف الديني في مصر، والغزو الوهابي لها عبر الهجرات التي تمت في السبعينيات لدول النفط من أجل العمل، ثم العودة إلي مصر بثقافة هذه البلدان الصحراوية، والتي أتاحت الفرصة لهذه التيارات إلي أسلمة المجتمع، ونشر الأفكار التكفيرية والعنصرية فيه، فمن خلال ظهور ابنة سندس سوف نلمح من خلال الحوار مدي التغير الذي حدث ليس لأبنتها وزوجها، وتحيل علي الواقع الذي سمح بقيام أحزاب علي أساس ديني ، وفرض التغيرات الدستورية في مارس 2011، ومن ثم وصول الإخوان للحكم. اللغة في الرواية تتنوع مستوياتها، ما بين لغة الحكي التي تعتمد عليها لسرد الأحداث أو لغة الحوار التي تمزج بين الفصحي والعامية، ولغة التأمل والاستبطان التي تحمل طاقات شعرية كبيرة، فهي لغة شعر خالصة. تنهي الكاتبة روايتها بنهاية مفتوحة علي الأفراح التي لم نرها في السرد، بل هي ما يمكن أن يتوقعه القارئ، فلا شئ يمكن أن يقضي علي آمال الشعوب، فالغد سيكون أفضل، والبطلة التي شفيت من آلامها الجسدية ووقفت تستمع إلي صوت غسالتها العتيقة يعطيها الأمل بأن الغد قادم، فغسالتها العتيقة ما تزال تعمل، وصوتها ما يزال يطن وهو ما يعطي أملا في الاستمرار.