بعد مرور أكثر من عقد علي بدء العمل بها، ومع 1600 صفحة، وما يقرب من مليون كلمة، اختتم الروائي الهندي أميتاب جوش ثلاثيته الملحمية المعروفة باسم "ايبيس"، وهي العمل الأدبي الذي يتناول الأحداث التي أدت لاندلاع حرب الأفيون بين عامي 1839 و1842. سلط الجزء الأول من الثلاثية، "بحر الخشخاش"، والذي جاء علي قائمة الترشيحات لجائزة مان بوكر للعام 2008، الضوء علي التفاصيل المقيتة المتعلقة بزراعة الأفيون وأثرها علي شعب ولاية بيهار وإقليم البنغال، وذلك بمتابعة شخصية "ديتي" الشابة التي توفي زوجها علي إثر إدمانه للأفيون وكانت تنتظر الموت حرقًا كما تقتضي التقاليد- أثناء المراسم الجنائزية لوداع الزوج، إلا أنها تقرر الهرب علي متن السفينة ايبيس، وهي سفينة كانت فيما سبق تنقل العبيد ثم اصبحت تستخدم في نقل الأفيون. أما الجزء الثاني، بحر الدخان، فيأخذنا إلي حيث تنتهي رحلة الأفيون، إلي مدينة كانتون (وهو الاسم الغربي لمقاطعة قوانجدونج الصينية)، حيث يزداد التوتر بين السلطات الصينية والتجار. وفي الجزء الثالث والأخير، يحتدم التوتر في صراع ملحمي شامل هذا الصراع الذي هو بالأساس بين سلطة تقاوم تجارة غير محكومة تسببت في نشر الإدمان بين أفراد الشعب، تزامنًا مع ما ارتكب من تنازلات تخدم المصالح الشخصية والمؤسسية باسم قضية التجارة "الحرّة" كذلك كان جوش يهدف أيضًا لإظهار كيف أعيد رسم خريطة المنطقة، مما أدي، ضمن أسباب أخري، لتحول ميناء هونج كونج الهادئ غير ذي الشأن إلي مركز مالي هام ومؤثر علي الصعيد العالمي. لكن، رغم هذه التفاصيل التي تبدو جافة، لا تعد قراءة الروايتين السابقتين، ولا هذا الجزء أيضًا، درسًا جافًا في التاريخ. ففي طوفان النار، نجح جوش في جعل السرد متناغمًا ومتجانسًا، حيث تتعاقب وتتلاقي بعذوبة ولطف أربعة حكايات لأربع شخصيات وباستخدام جوش لمزيج عبقري خلاب لعدد من اللغات المختلفة، تتماوج الرواية وتتنقل باستمرار بين الجدية الشديدة والفكاهة البسيطة. فهي صادمة ومبهجة، ثقيلة ومسلية في آن واحد. يتجلي الاستخدام اللغوي المتنوع المبهج ويزداد وضوحًا في حكاية زاكاري ريد، وهو بحار من بالتيمور ابن لأمة انجبته من سيدها الأبيض، ولذلك تعامل معه كل من قابله علي أنه رجل أبيض. في مستهل رواية طوفان النار، يجد زاكاري نفسه مضطرًا للعمل ك "حرفي" علي متن أحد القوارب المعروفة باسم "بادجريو" (وهو نوع من أنواع الزوارق النهرية الهندية) وكان القارب ملكًا للثري برنهام. وفي مشهد يجمع بين الطابع الأدبي لرواية من القرن ال 19، وروح الأفلام منخفضة التكاليف، نري السيدة برنهام وهي تراقب زاكاري من علي بعد وهو يقوم بشحذ وتلميع أحد عمدان السفينة بقوة، وبناء علي استنتاج ملتبس وخاطئ، تقدم له السيدة برنهام مجموعة من الكتيبات التحذيرية التي توضح مخاطر الاستنماء باليد؛ وقبل مرور وقت طويل، وتأثرًا بأجواء إحدي حفلات التعري (التوجا)، بدأ الاثنان علاقة جنسية ملتهبة وشديدة السرية بدأت تقريبًا بسبب تصور مجازي. "حان الآن دوري لأعلمك بعض الأمور" هكذا أعلنت السيدة برنهام؛ وحين علمت زاكاري فنون "الجنس الفموي"، كانت تنصحه وترشده في البداية قائلة: "ليس هكذا يا عزيزي! أنت لا تلوك طعامًا، كما إنه ليس عمل فوضوي عنيف! الجنس الفموي ليس رياضة دموية يا عزيزي" وفيما بعد كانت تكافئه قائلة: "كم تدهشني، يا سري الغالي، سرعتك في اتقان فنون الهوي!" إنه خط درامي مسلي للغاية داخل الرواية، لكن، الجنس دائمًا شأن سياسي أيضًا. إن المفردات اللغوية الأنجلو- هندية للسيدة برنهام هي نتاج تربيتها الاستعمارية؛ واصرارها علي استخدام العشاق للألقاب فيما بينهم، حتي أثناء العلاقة الحميمة، حيث كانت تنادي زاكاري بالسيد ريد وتطالبه بمناداتها بالسيدة برنهام، الأمر الذي يعكس رعبها الشديد، ليس فقط من انكشاف أمرها واتهامها بالزنا، وإنما من الإخلال بالتسلسل الهرمي الراسخ اجتماعيًا أيضًا. وفي نفس الوقت، عزز اقتراب زاكاري من ثروة برنهام وسلطته من طموحه في أن يسير علي خطي برنهام في تجارة الأفيون. ويصور لنا جوش، في مشهد حيّ للغاية، قيام زاكاري بشراء الأفيون لأول مرّة والتي تعد بداية سلسلة من عمليات الفساد التي تحمل في داخلها الجانب الهزلي من الرواية داخل الأسواق الرطبة القذرة للشوارع الخلفية من مدينة كلكتا. يصف جوش المشهد كالتالي: "بينما يشق طريقه عبر رائحة الغبار والروث ذكره هذا برائحة مخدع السيدة برنهام. أيكون هذا الوحل هو منبت هذا الثراء الفاحش؟ راودته وسيطرت عليه هذه الفكرة بشكل غريب." حكاية زاكاري تعرض لواحدة من وجهات النظر التي تعج بها الرواية. فهناك أيضًا، شيرين مودي، أرملة تاجر الأفيون التي تسافر، في تحدٍ لكل الأعراف الاجتماعية، من بومباي إلي كانتون لتسترد مستحقات زوجها الراحل؛ إلي جانب قصة المفلس نييل راتان هالدير، الذي يعمل الآن لصالح الصينيين، ويسرد لنا نييل بدقة تفاصيل غزو شركة الهندالشرقية البريطانية للأراضي الصينية، وكيف اخفقت المساعي الديبلوماسية في تجنب الحرب؛ كذلك نتعرف علي هافيلدار كسري سينج، شقيق ديتي الذي كان يعمل ك (سيبوي) أو فارس في شركة الهندالشرقية، والذي يوافق، رغم شكوكه العميقة، علي المشاركة في إحدي الحملات العسكرية الخارجية. وفي وسط التفاصيل الدرامية الشخصية زوجة قد اجبرت علي المواجهة، علي سبيل المثال، مع الأسرة السرية التي أسسها زوجها الراحل أثناء حياته الثانية خارج الوطن، أو الحياة الغريبة القلقة للمغتربين من أمثال بوليت، التي تجد نفسها فجأة وقد تخصصت في زراعة الحدائق يرسم جوش الاجتياح الأكبر للتاريخ. لقد أجاد جوش ضبط التفاصيل اللغوية الدقيقة، من المصطلحات البحرية والعسكرية وحتي الطعام والملابس وطرز الأثاث، من المخادع إلي ساحة المعركة، من أجل تعزيز مشاعرنا ومساعدتنا علي فهم هذه الفترة التاريخية التي تركت آثارًا هامة واسعة النطاق، وكذلك التعرف علي تجارة الأفيون الوحشية القاسية، وكيف أثرت إلي حدٍ كبير علي شكل العلاقات الدولية، والمجتمعات وأنماط الهجرة. لقد تناولت ثلاثية جوش الممتدة حكايات استغرقت بضعة سنوات فقط لكن ما تناولته من موضوعات يمتد إلي ما لا يمكن قياسه من الزمن.