خنقني انتهاك الوظيفة لآدميتي، وموت الحياة في بلدتي البعيدة، فقررت الحصول علي اجازة قصيرة، وتمضيتها كاملة بالتجوال في"القاهرة"، وما أن وجدت غرفة متواضعة بفندق رخيص، وأمّنت علي أغراضي بها، حتي خرجت عاقداً العزم، علي أن أخوض تجربة، كنت قد وضعتها علي اول قائمة أولوياتي. فكرت في مهاتفة"شهاب"ليشاركني لحظتي، لكنني ما لبثت أن تراجعت أمام إحساسي الأكيد بأنه سوف يتهرب مني كعادته، لا لشيء غير أنني أذكره ببداوته، التي أكد لي ذات مرة أنه لا يريد أن يتذكرها، بل يعمل علي قطع كل صلة له بها، لدرجة اتخاذه من اسم عائلة أمه، اسماً لشهرته. ولما سألته عن السبب، أجاب في مرارة، ليس فقط لأنه صار الإعلان عن الإنتماء للبداوة شبهة، بل كثأر لموقف قديم، اتخذته جماعته ضد أبيه، كعقاب له، علي تفضيله حسب تصورهم الزواج من امرأة "قاهرية"، علي بنات القبيلة. دفعني تعاطفه معه علي مهاتفته، للاطمئنان علي أحواله، وما إذا كان بإمكانه ملاقاتي، وبعد لحظات من سماع صوته، شعرت برغبة خاطفة في الرقص، وأنا الذي لا أجيده. المطر يتساقط علي شكل زخات، تبعث في نفسي السرور، وتذكرني ببراءة الطفل الذي كنته، فيما يزيد سطوع أضواء الشوارع من ارتباكي، حتي خيل لي، أنها تكشف للمارة عما أنتوي الإقدام عليه، ما جعلني أتوقف أمام باب الكازينو متردداً، أقدم رجلاً، وأؤخر أخري، حتي استجمعت شجاعتي، ودلفت إلي الداخل، كلص يخشي افتضاح أمره. وما أن لمحت"شهاب" يجلس برفقة فتاة مثيرة، أسفل نافذة ينساب منها نسيم منعش، ومثقل بروائح أطعمة الليل، وصخب المدينة، حتي شعرت بنوع ما من الطمأنينة والحيوية. لم يزعجني مبالغته في استقبالي، وتعريفه لي بشكل أكثر مبالغة، أو مراقبة الفتاة لي بعين خبيرة ، وإنعاشها لروحي المرتبكة، بابتسامة عذبة، كلما نظرت إليها، بقدر ما استفزني اتخاذه موقف المتفرج، واكتفائه بمواصلة ضحكه، وهو يراني أتخلي عن حذري البدوي، وأواصل الثرثرة بفعل تأثير البيرة، دون أن يحاول إيقافي، أو تنبيهي علي الأقل، ولو بدافع الغيرة علي ابن جلدته، وزاد الطين بلة، بانفجاره في النهاية ضحكاً، حين ضبطني متلبساً بالتحديق إلي الفتاة بشكل ثابت، وبعينين تطل منهما الإثارة، قبل أن أعرض عليها استعدادي لاستضافتها، حينها دفعه إفلاسه الظرفي كما أدعي وأشياء اخري، علي إقناع الفتاة بقبول عرضي السخي. لفت منظرنا معاً، أنظار ضباط الشرطة، الذي تصادف وقوفهم لسوء حظنا عند بداية الشارع المؤدي إلي الفندق، الذي اقيم به، هي بوسامتها وإناقتها، ونحن بملامحنا البدوية، التي تكشف حقيقة اغترابنا، ومجيئنا من البعيد، ما دعا أحدهم لاعتراض طريقنا، والطلب منا بعجرفة بطاقات هويتنا. مرت لحظة صمت، طالت دهراً، راح الضابط خلالها يتفحص بطاقاتنا، زاماً شفتيه بين الفينة والأخري، فيما رحت أرتب ذهني، وأفكر فيما سأرد به، في حال ما استفزني بأسئلة تتعلق بمكان، أقيم فيه، ويقيم فيّ، ولن أسمح له مهما كلفني الأمر بأن يسيء إلي تلك العلاقة التي تربط بيننا.. وحدث ما توقعته، إذ وجدته بعد أن وبخ الفتاة وصرفها، يرمقني بنظرة نهمة لالحاق المزيد من الأذي بي، قبل أن يأمر الجندي بالتحفظ عليّ بالعربة!، ويلتفت إلي"شهاب" يسأله في تشكك واستعلاء واضحين، وهو يرفع ببطاقته أمام عينيه كدليل اتهام: من أين لك بهذه؟! كان شهاب يستمد اطمئنانه، من اعتقاده الخاطيء، بأن إقامته في القاهرة، تبعد عنه كل شرور الشبهة، وتحصنه ضد الانتهاك، ما دفعه للرد علي الضابط، بقوله في استخفاف: لا اعتقد أن الحصول عليها يمثل مشكلة. أتمازحني.. نهره الضابط في غيظ، جعل شهاب يتخذ سمة الجدية، وهو يرد بقوله: انت الذي تفعل. وبحقد متجذر في اعماق الضابط، أمر باقتيادنا إلي قسم الشرطة. ولما لم يجدوا حولنا ما يثير الشبهة، زجوا بنا في غرفة عفنة، فرضت علي كلينا، إجراء مراجعة متأنية لكل ما مررنا به من أوقات عصيبة، وتخمين ما سوف نمر به، وبشكل أكثر سوءاً.. بنبرة تشي بعدم تصديقه لما يحدث، تساءل شهاب في استياء شديد: كيف لنا أن نعيش مع ما يحدث، وتحت قسوة شعورنا بأننا خاضعون، ولسنا مواطنين؟! وكما لو كان ينتظر إجابة من السماء القاتمة، راح يحدق إلي سقف الغرفة في حيرة وحزن عميقين، ورحت بدوري أبحث في مخيلتي من جديد، وبحزن أشد، علني أجد سبباً وجيهاً، يبرر ضرورة استمرارية هذه العلاقة الملتبسة بيننا.. ولم ينتزعني من شرودي، غير مفاجأته لي، بقوله في حسم: لا بد أن نمضي قدمأ. وكأنه يعتذر لي، أعلن في تحد، بأنه لن يتهرب مني، أو أمثالي، وسوف يرافق أياً منا، عبر أكبر شوارع القاهرة، وأكثر ميادينها شهرة.