استقبل ليمونوف بعض الصحفيين في شقته الجديدة لعقد مقابلة صحفية، نال الصحفيون استقبالا دافئا من إدوارد ليمونوف. كان الكاتب انفصل مؤخًرا عن زوجته، أم طفليه، وكان البيت دافئًا للحد الذي أقنع الصحفيين بأنه نال الهدوء والسكينة اللازمة لرجل دائم الغضب والثورة. تقع الشقة في الطابق التاسع من عمارة ستالينية الطراز تطل علي واحدة من ساحات موسكو الواسعة الجميلة، شقة تكاد تكون عارية من الأثاث. هناك في الصالون بعض الكراسي، مقعدان جلديان فاخران لونهما أسود. قال إدوارد ليمونوف مازحا حين وقعت عينا الصحفيين عليهما: "إنهما الآن صارا ملكا ليوري لويكوف!"، يوري لويكوف هو رئيس بلدية موسكو القوي الذي حقق انتصارا علي إدوارد في دعوي سب وقذف. لم ينج هذا الكاتب، المعارض لنظام فلاديمير بوتين، الذي عجز عن دفع التعويضات الدعوي التي بلغت حوالي 12 ألف يورو، من المصادرة. ولذلك فشل إدوارد ليمونوف في مغادرة روسيا إلي فرنسا، بدعوة من دار النشر هناك للاحتفال بصدور كتابه الجديد. وعلق قائلا: "أنا علي يقين من أن السلطة سوف تمنعني من العودة إن هي سمحت لي بالخروج". ورغم نبرة الأسي في صوته، إلا انه يتفاخر أنه الرجل رقم واحد في روسيا الذي يخضع للمراقبة من السلطات الروسية، إلي جانب حليفه في المعارضة، بطل العالم في الشطرنج، الشهير جاري كاسباروف. وجدير بالذكر أن إدوارد ليمونوف لم يغادر روسيا منذ أربعة عشر عاًما، لذا يري أنه سيغادر روسيا "عندما تسقط الحكومة". ولا يعوز التهكم الذاتي رئيس الحزب المحظور منذ 2005، الحزب القومي البلشفي، المحظور منذ العام 2005. أطلق عليه ألكسندر سولجسنستين لقب "حشرة صغيرة تكتب البورنوجرافيا"، وعندما رغب في استئجار شقة، هذا المعارض الكبير الذي ينتظر الوصول إلي منصب رئيس الجمهورية، اضطر السمسار العقاري للاتصال بأكثر من خمسة وستين مالكا، رفض أغلبهم تأجير الشقة مع ذكر اسمه، تبدو الحياة العادية بالنسبة له بعيدة المنال. وهذا بالطبع يشير إلي حجم الخوف الذي أصاب الناس في هذا البلد. يضع المحللون السياسيون إدوارد ليمونوف في خانة "الفاشيون الجدد"، مع ما يتصفون به من تطرف وعنصرية، أو في خانة اليسار المتطرف. ولرغبته في الإفلات من هذا الخندق، انضم الزعيم الكاريزمي، صاحب الشارب الغليظ، واللحية الصغيرة علي طريقة تروتسكي، وشعره الأبيض، إلي تحالف كاسباروف غير المتجانس. وقد انضم بضعة آلاف من الشباب الروس إلي لحية ليمونوف، وذلك لا يرجع لأسباب إيديولوجية ولكن بدافع حب الحركة والعمل، ورغبة في العنف كذلك. ومما يثير الدهشة حقيقية، أن هذا الرجل الراديكالي العنيف، الذي التصقت به منذ صغره ممارساته لأعمال إجرامية كادت تودي به في غياهب السجن أكثر من مرة، انكب في هذه الفترة علي قراءة سيرة الزعيم الهندي غاندي. وقد علق علي هذا الأمر قائلا: "تهمني إلي حد كبير طريقة غاندي في عدم اللجوء إلي القوة. لكننا في روسيا خاضعون لحكم يتخذ العنف سبيلا"، مضيفا أنه يكافح "من أجل انتخابات حرة، لأن الحرية أهّم من الأمور الاقتصادية". قال ذلك بلغة فرنسية أصابها الصدأ، تلك التي عاد بها من باريس، تحديدا من الحي اللاتيني. وقد علق علي جدار شقته صورة له وهو في سن الثامنة عشرة، صورة شاب مثالي النظرة بالأبيض والأسود، نظرة تبدة تائهة في الأفق البعيدة. ورغم مرور كل هذه السنوات الطويلة، إلا أنه لا يزال يحتفظ بتلك النزعة المثالية، لا زال يحلم بعاصمة جديدة في سيبريا، يري أنها ضرورة "من أجل الانطلاق من الصفر"، حتي يتمكن من إعادة التوازن للبلاد بين آسيا وأوروبا. هذا الثائر الراديكالي لا يعتقد أن الثورة ستحدث من تلقاء نفسها، الشعب لن يثور إلا من خلال "خلق صراعات صغيرة في كل مكان"، وسوف ينتصر لو استمرت هذه الصراعات، وتواصلت الضربات كما في حلبات الملاكمة "لتحقيق الضربة القاضية". والعجب أن هذا الكاتب المبدع، الذي يتنفس سياسة، ولا يكف عن المعارضة، يجد مع كل هذا وقتا يتفرغ فيه للكتابة، وإصدار الجديد. نعيش كما يجب أن نعيش وفي لقاء آخر، يقول الصحفي إنه قرأ له مصادفة كتابين "الشاعر الروسي يفضل الزنوج الكبار" و"مذكرات رجل فاشل". ظل يقرأ علي مدار يومين فصولا من حياته المليئة بالفضائح، من موسكو إلي نيويورك، ثم باريس، حيث انتقل، في عشرين سنة، من مجرد صعلوك، بلا مستقبل إلي كاتب مهم، ثم معارض بارز لحكم بوتين، وناشط سياسي لا يتعب، متزعما الحزب القومي البلشفي، ثم حزب "روسيا الجديدة"، (الذي ينشط سرا). وفي اليوم الثالث (بعد أن شاهد أيضا فيلما وثائقيا يتحدث عنه وعن حياته)، اتصل به صباحا، دونما موعد مسبق، وطلب من ليمونوف أن يجري معه حوارا، في الأدب والسياسة، وعن أشياء أخري لم يقلها في كتبه السابقة. يقول الصحفي إن اسم ليمونوف الحقيقي هو إدوارد فينيامينوفيتش سافينكو، مبدع وسياسي من النوع المزاجي عرفه بنفسه دون أي مقدمات، تعارفا سريعا، ثم سأله عن وضعه الحالي في موسكو، خصوصًا مع تصاعد حدة تعامل السلطة مع المعارضة، يرد عليه ليمونوف هادئا: "نعيش، كما يجب أن نعيش!". يقول إن ليمونوف دائم الحركة، لا يستقر في مكان واحد، يتنقل بين أكثر من بيت في موسكو وغيرها، حتي يتجنب أي اعتقال محتمل (يأتي دائما دون سبب محدد)، أو كمحاولة اعتداء، أو علي سبيل الاستفزاز. عن الكتابة يقول إدوارد: "لا زلت أكتب، لأقدم ما استطيع للأدب الروسي"، أدبا لا يعتقد انه بلغ المكانة التي يستحقها، يرجع ذلك نتيجة لسطحية كتابات أسماء أخري (يعتبرها الغرب أسماء كبيرة)، لكنها، في نظر ليمونوف، أساءت إليه، خصوصا ألكسندر سولجينستين، كما يقول. سولجينيستين الذي كتب واحدة من أهم الروايات السوفيتية، هي "أرخبيل الجولاج" عام 1974، يراه ليمونوف روائيا " ذو خيال محدود "، "قام فقط بجمع شهادات أشخاص عاديين عرفوا الجولاج، ثم أعاد صياغتها"، معبرا عن سخطه الشديد ممن احتفوا به وبروايته. وجدير بالذكر أن سولجينستين كان دائما يتحاشي مقابلة ليمونوف، هذا نتيجة لصراحة وفظاظة الكاتب الروسي، وانتقاده الدائم لسولجينيستين، والتقليل من شأنه. يذكر أن اسم إدوارد ليمونوف كان في واجهة المشهد الأدبي الروسي في بداية السبعينيات في موسكو، باعتباره واحدا من شعراء الموجة الجديدة، لكن تطرفه السياسي، ورفضه المؤسسة الثقافية الرسمية (خصوصا لتنظيمات مثل اتحاد الكتاب السوفييت، الذي يعتبره تنظيما لا يمت بصلة للأدب)، ووصفه النخبة السوفيتية ب"النخبة الرخوة التي تتحمل وحدها سقوط الاتحاد، وليس الغرب"، وتشبثه بيقين أن "الأدب لا يأتي سوي من أوساط قاع المجتمع"، وينقسم الكتاب إلي فئتين: "كتاب فاشلون وآخرون ناجحون، لا وسط بينهما". كل هذا عجل بعزله أدبيا، ثم توريطه في عدد من القضايا الأمنية، وانتهي كل هذا بدفعه إلي الهجرة، والانتقال إلي نيويورك ثم باريس، ثم صربيا، حيث حمل السلاح، مرافقا كارجيتش. وقد قال ردا علي هذا: "نعم حملت السلاح، قتلت"، "الحرب ليست قصيدة رومانسية". لم يفصل ليمونوف قط بين قناعاته الفكرية وبين الفعل الحقيقي في الميدان، هذا الموقف يستدعي موقف الروائي آندري مالرو في إسبانيا، والمفكر ريجيس دوبري الذي حمل السلاح في كوبا. لإدوارد ليمونوف حكايات عديدة مع الكرملين، فبعد سقوط الجدار برلين، عاد ليمونوف إلي موسكو، ليس ككاتب، بل كسياسي، ليؤسس عام 1992 الحزب القومي البلشفي، ذا التوجه القومي الاشتراكي، الذي لم يكتب له البقاء أكثر من عشر سنوات، حيث تمكنت أجهزة المخابرات من إحداث تصدعات حادة داخل الهيئة العليا للحزب، وسجنت ليمونوف عام 2002، بتهمة "تتجاوز في غرابتها سيناريوهات الخيال العلمي": القيام بالتخطيط لانقلاب سياسي في دولة كازاخستان. تعامل ليمونوف مع هذه التهمة ببرودة أعصاب وبتهكم، ليعلن، مباشرة بعد خروجه من السجن، الترشح للانتخابات الرئاسية، التي فاز بها فلاديمير بوتين، ويصرح للصحفي قائلا: ليس صحيحا لما يتداول عن مصطلح روسيا بوتين. بوتين ليس سوي مرحلة قصيرة وعابرة من تاريخ البلد". اعتقل مرات عديدة في السنوات الماضية بسبب تنظيم مظاهرات غير مرخص لها، فالكاتب والناشط السياسي الكبير صار خصما عنيدا للأمن الروسي، ولم تتوقف انتقاداته لسياسة الكرملين، الذي يري أنه جدير بأن يصبح مجرد متحف. يري أن "روسيا اليوم تحكمها عصابات، وتديرها حفنة من أصحاب رؤوس الأموال، رجال الأعمال، ملاك الحسابات البنكية الضخمة، قدامي ضباط الكي. جي. بي، بينما الشعب الروسي صار محروما من المشاركة في صناعة القرار، كما تم استبعاد الانتلجينسيا الروسية من السلطة، الانتخابات في البلد غير نزيهة، والمسافة بين الفقراء والأغنياء متباعدة جدا". يذكر الصحفي أنه في سياق حواره مع ليمونوف، ذكر الكاتب أنه يعتبر "المقاومة نصا أدبيا". يقول إدوارد: "ربي أبي وأمي حب العيش في استقلالية، حب الاطلاع علي كتب التاريخ، وهذا يعد مكونا أساسيا في شخصيتي. أعود باستمرار إلي كتب التاريخ، وقد يفسر هذا ذلك الميل الطبيعي عندي إلي اتباع نمط الحياة الأصعب، وتفضيل حياة المواجهة، وعدم الالتفات إلي تبعات هذه المواجهة ومتاعبها، في الوقت الذي يفضل فيه غيري حياة الترف والعيش الهاديء". وقد فشل ليمونوف السبعيني في تحقيق حلم تقلد رتبة ضابط في الجيش الأحمر (بسبب عدم أهليته طبيا)، صار كاتبا يخشاه كثير من الكتاب الروس، فهو الاسم الأدبي الأكثر كاريزمية، والذي يتمتع بانتشار واسع بين الأوساط الشعبية، يتصف نقده بالصرامة، ولا يعرف المجاملة.ويتذكر ليمونوف أنه كان يميل "إلي قراءة سير المشاهير وكتب الأسفار"، بدأ كتابة الشعر وهو في حدود سن العشرين، وأول جائزة شعرية حصل عليها في الاتحاد السوفيتي سابقا، كانت في سن الثالثة والعشرين، لم تكن سوي علبة دومينو"، يومها أدرك أن الاتحاد السوفيتي لم يكن يقوم سوي علي أوهام". وفي عام 1974، في أوج الحرب الباردة، وذروة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، أعلن إدوارد ليمونوف معارضته الصريحة لسياسة الزعيم السوفيتي السابق ليونيد بريجنيف الملقب بمهندس الغزو السوفيتي لافغانستان عام 1979، ثم غادر بعدها البلاد متجها إلي أميريكا، عاقدا العزم علي عدم العودة إلي وطنه الأم مرة أخري إلا بعد أن تتغير الوجوه القابعة علي مقاعد السلطة في روسيا السوفيتية. شهدت حياة الكاتب تقلبات عديدة، انتقالات من فضاء لآخر، ومن لغة لأخري، ورغم ذلك، لا ينفي وجود ثابت واحد فيها: "حياتي تتقلب من وقت لآخر، هادئة أحيانا، ومرات مضطربة. لكن الثورة تكمن داخلي، وهي الشيء الثابت غير القابل للتغير". ويتساءل الصحفي: عن أي ثورة يتحدث ليمونوف؟ فجميع الثورات التي قامت في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تم إجهاضها، بما فيها ثورة بلده الأم أوكرانيا، التي سميت ب "الثورة البرتقالية"، ربما يرمي إلي ثورة أخري لم تحدث، ترقد في وجدانه، ثورة مؤجلة، لم يحن أوانها. وذكر الصحفي أن إدوارد ليمونوف، الرجل الثوري الانقلابي، الكاتب الجدلي، صار يفضل الانعزال، الانفراد بالكتابة، مع تقدمه في العمر، ومواصلة النشاط السياسي السري، بعيدا عن فضول الميديا، يحلم ببداية عهد جديد في روسيا، والقضاء علي المؤسسات الثقافية والسياسية التكنوقراطية الفاشلة، التي ساهم وجودها في تحويل البلاد إلي مجرد حلبة "نقاشات فكرية لا طائل منها".