جرت دماء كثيرة في نهر الثورة السورية خلال الشهرين الماضيين، قادت إلى حدوث تحولات جذرية قد تؤدى إلى نجاح الثورة السورية في وقت زمني ربما لن يطول أكثر من ذلك؛ حيث يمكن القول إن زيارة المبعوث العربي الأممي، الأخضر الإبراهيمي، إلى سوريا إنما تشكل إحدى الحلقات في جولة الحسم للثورة السورية. وللمرة الثالثة التقى الإبراهيمي الرئيس السوري، بشار الأسد، ولكنها مرة مختلفة من حيث الطبيعة والجوهر؛ ذلك لأنها تأتي على خلفية مختلفة تتمثل في وجود خطوط عريضة لسياسة جديدة تتحرك بها كل من واشنطنوموسكو تجاه ما يجرى في سوريا، وتستهدف فتح آفاق للتفاوض شارك فيها جميع الأطراف العربية والغربية المعنية في محاولة لإنهاء الأزمة السورية. وحمّل الإبراهيمي للنظام السوري - وللمعارضة كذلك - أفكارًا (أمريكية روسية) تدور حول إنشاء حكومة انتقالية مكونة من وزراء يكونون محل قبول من طرفي الصراع في سوريا، على أن يبقى الأسد في السلطة حتى عام 2014 دون صلاحيات، وهي السنة التي تنتهي فيها ولايته الرئاسية. ولايتوقع بطبيعة الحال أن تسفر تحركات الإبراهيمي سريعًا عن حل للأزمة السورية، لكنها تعد أولى إشارات التحرك الدولي الجاد في سبيل إنهاء حكم الأسد، إذ رفض بشار الأسد هذه الخطة؛ لأنه لم يقبل التنازل عن صلاحياته، ونقل الأسد للإبراهيمي حرص الحكومة السورية على إنجاح أي جهود تصب في مصلحة الشعب السوري وتحفظ سيادة الوطن واستقلاله. وربما يقصد الأسد بذلك ما أورده السفير الروسي لدى لبنان، ألكسندر زاسبكين، بأن الرئيس السوري بشار الأسد متمسك بموقفه، وهو الإصرار على الترشح لولاية ثانية" قائلاً: "هذا موقفه ونحن نعرفه"، مشيرا إلى أنه يرفض أي محاولات ضغط من الخارج للتنحي، وأن علينا تجاوز هذا الموضوع لتكون لنا رؤية إلى الأمام. وبالمثل رفضت جميع فصائل المعارضة السورية، فقد رفض رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أحمد معاذ الخطيب، أي حل يتضمن إمكانية بقاء الأسد في السلطة بصلاحيات أو دون صلاحيات، قائلا: "أي حل سياسي لإنقاذ النظام مرفوض، وأي حل لا يبدأ بتنحي الأسد هو مرفوض وعلينا أن نسقطه". وعلى نفس النهج أكد المجلس الوطني السوري، والذي له ممثلون في الائتلاف الوطني رفض أي شراكة من أي نوع مع النظام أو رموزه في السلطة الانتقالية، بوجود الأسد أو عدمه، وأنه لا يمكن لبشار الأسد ومن كانوا معه غطاء للمجازر أن يكونوا طرفا في السلطة، ولا يمكن لأي طرف سياسي أو عسكري معارض أن يقبل بمبادرة تعيد إحياء نظام الأسد، أو أن يخرج رئيسه من الثورة حاصلًا على مكاسب سياسية أو جغرافية؛ كأن يمنح سلطة على مناطق سورية معينة. ويجوز القول إن مهمة السيد الأخضر الإبراهيمي الحالية هي الأولى في سلسلة من المباحثات التي تستكشف نبض كل من النظام والمعارضة لكيفية فتح أفق لبداية مرحلة انتقالية في سوريا، لكنها تعكس توافقًا ما بين الولاياتالمتحدةوروسيا الاتحادية، وإن جاء متأخرًا، على ضرورة إنهاء المأساة السورية. والمسئولون الأمريكيون يعتقدون أن الطريق التي تسلكها الأزمة السورية منذ الشهر الماضي لن تنتهي إلى ما تريده موسكو، وأنه لن يصب في النهاية في مصلحتها. بينما يدرك المسئولون الروس أوراق القوة التي يتمتعون بها في سوريا لرغبتهم في حفظ مصالحهم حتى لو تغير نظام الأسد؛ وبالتالي وجد تلقائيا قاسم مشترك بين الطرفين على الرغم من تنافر المواقف من الرئيس السوري بشار الأسد واستمراره في السلطة، وهو اتفاق أو تفاهم "جنيف" الذي وقع في يوليو الماضي، والذي يمثل للأمريكيين نقطة انطلاق وليس مساراً لحل الأزمة؛ فهذا الاتفاق الدولي حول سوريا هو أكثر ما يسمح بتحقيق الرغبات الأمريكية والروسية بحل سياسي بعد استحالة الحسم العسكري لأي من طرفي النزاع في سوريا. وتشكل أسس هذا الاتفاق الذي وقعت عليه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية والأمم المتحدة، محور التفاوض الذي يجرى طوال الشهر الجاري بين جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، ويتضمن قيام حكومة انتقالية تملك كامل الصلاحيات التنفيذية، والبدء بإصلاحات قانونية ومراجعة الدستور وتأمين استمرارية المرافق العامة أو ترميمها، على أن يبقى الجيش والأجهزة الأمنية؛ وهو ما يعني بوضوح انتهاء النظام السابق بصيغته الراهنة، والتأسيس لنظام جديد موسع يشمل كل أطياف المجتمع السوري، ويحافظ على الجيش بعد إضافة بعض الإصلاحات.. لكن تبقى نقطة الخلاف حول هذا الاتفاق هي تفسير الأطراف المختلفة لقضية بقاء الأسد من عدمه؛ لأنه لم يتضمن نصًا صريحًا على ضرورة تنحي الأسد. ومما لا شك فيه أن صمود الثوار والمعارضة بشقيها السياسي والعسكري هو ما سمح بتبديل المواقف الدولية، خاصةً الأمريكية والروسية؛ فالجيش السوري الحر حقق انتصارات متتالية، وتمكن من ولوج عملياته إلى قلب العاصمة السورية دمشق. وحصيلة ذلك أن المعارضة لا غيرها هي من حركت الخارج وفق التحركات التي تجري في الميدان، حتى إن الأشهر الثلاثة الأخيرة من الثورة السورية فقد معها نظام بشار الأسد، إلى جوار سقوط شرعيته السياسية والأخلاقية والواقعية بعدم سيطرته على أكثر من 70% من الأراضي السورية، أي إمكانية لأن يكون على رأس طاولة للحوار او التفاوض، وإنما مجرد أحد اطرافها. وتمثلت أبرز الخطوات التي قلبت الثورة السورية رأسًا على عقب باتجاه بداية التفاوض لرحيل الأسد عبر المفاوضات في تأسيس كيان شبه جامع لمكونات الثورة السورية، أو على الأقل هو الكيان الأقل تشرذمًا، والذي توحدت فيه معظم صفوف المعارضة السورية، وهو "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" الذي أعلن في الدوحة يوم 11 نوفمبر الماضي، ونال على الفور اعتراف الجامعة العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربي وتركيا وفرنسا به ممثلاً شرعيًا للشعب السوري، ثم اعترف به الاتحاد الأوروبي يوم 19 نوفمبر الماضي، ثم أعلنت أكثر من 130 دولة شاركت في مؤتمر أصدقاء سوريا الذي عقد يوم 12 ديسمبر الجاري في مراكش بالمغرب الاعتراف بالائتلاف. وكانت الخطوة التالية هي تأليف مجلس أعلى جديد للجيش الحر، يضم غالبية المجموعات المقاتلة الميدانية، باستثناء التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها "جبهة النصرة"، ووضع على رأس المجلس العميد سليم إدريس رئيساً لهيئة الأركان مع مساعدين آخرين؛ وهو ما أدى لاعتراف واشنطن بالائتلاف في مؤتمر مراكش. أما الخطوة الأبرز فهي انتقال خضم المعارك وإسقاط الأسد إلى العاصمة دمشق ومحاولة استيلاء المعارضة المسلحة والثوار على طريق دمشق الدولي، وربما أدى حاصل الجمع بين هذه المتغيرات السياسية والميدانية إلى إعادة كل من واشنطنوموسكو التفكير بشكل مختلف في الأزمة السورية؛ إذ حسمت إدارة أوباما امرها في رفض اعتماد البديل العسكري أو التدخل المباشر عبر فرض منطقة حظر جوي، وفي التعامل مع المعارضة الجديدة، وفي التوافق مع تركيا وأوروبا والعرب على فتح قنوات للتفاوض السياسي مع الطرف المقابل، وهو روسيا، دون مشاركة إيران، للبحث في مستقبل الأوضاع في سوريا. أما روسيا، الحليف المؤثر والقوي لنظام الأسد، ربما اقتنعت بأن دعمها العسكري للأسد بات محكوما عليه بالفشل، ورأت أن الواقع الميداني والعملياتي قد يجعلها في موقف أضعف، حيث الثوار أصبحوا أكثر صلابة عسكريًا وحيث يفقد الأسد مقومات الحكم بشكل شبه قاطع رغم الخسائر التي تتعرض لها المعارضة المسلحة جراء القصف الجوي. وتبدو محصلة ما يسبق أنه مع استمرار وتيرة التفاوض، فضلا عن تصميم الثوار على الصمود في معركة دمشق، فربما يمكن أن تسفر الأمور عن قبول الأسد التنحي عن السلطة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2013، حيث يتوقع في حالة عدم نجاح الحل السياسي الذي يستلزم تنحي الأسد، أن تقوم فرنسا وبريطانيا، بإقناع دول الاتحاد الأوروبي خلال الاجتماع الذي سيعقده الاتحاد في شهر فبراير 2013، بتسليح المعارضة السورية بأسلحة ثقيلة، وربما قد تضطر واشنطن إلى تغيير موقفها لجانب التدخل العسكري، وتقوم بفرض حظر جوي في شمال سوريا. وبغض الطرف عن مآل الأسد ومصيره في ظل تناقض التفسيرات لاتفاق "جنيف"، فإن أي تفاوض حول سائر البنود سيقود حتماً إلى تسوية تصوغ أمراً واقعاً جديدًا في سوريا، يرتكز على نحو أساسي على المحافظة على الجيش النظامي والمؤسسات الرسمية السورية، تفادياً لتكرار ما حدث في العراق بتدمير جيشه، وما حدث في ليبيا بإغراقها في الفوضى وسيطرة الميليشيات عليها.