الفريق أسامة عسكر يلتقي مدير عام فريق الموظفين العسكريين لحلف شمال الأطلنطي    حجازي أثناء لقاء مسؤولي بيرسون: تدريس اللغة الأجنبية الثانية في الإعدادية لأول مرة    وزارة السياحة تدفع بلجان لمعاينة الذهبيات الموجودة بين الأقصر وأسوان    نادي الأسير الفلسطيني: سلطات الاحتلال تفرج عن المعتقلة فادية البرغوثي    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    مدرب ليفربول الأسبق يوجه نصائح مهمة ل آرني سلوت قبل قيادة الفريق    حالة الطقس غدا الأربعاء 22-5-2024 في محافظة الفيوم    تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ومجلس أمناء مكتبة الإسكندرية (فيديو وصور)    رئيس مكتبة الإسكندرية: الرئيس السيسي يلعب دورا كبيرا لتحقيق السلم بالمنطقة    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    ضمن حياة كريمة، قوافل طبية مجانية بواحات الوادي الجديد    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    أسوان تستعد لإطلاق حملة «اعرف حقك» يونيو المقبل    يورو 2024 - رونالدو وبيبي على رأس قائمة البرتغال    والدة مبابي تلمح لانتقاله إلى ريال مدريد    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    محكمة بورسعيد تقضي بالسجن 5 سنوات مع النفاذ على قاتل 3 شباب وسيدة    زوجة المتهم ساعدته في ارتكاب الجريمة.. تفاصيل جديدة في فاجعة مقتل عروس المنيا    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: مصر المكون الرئيسي الذي يحفظ أمن المنطقة العربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ د. زكي سالم
نشر في التحرير يوم 05 - 12 - 2013

فى العاشر من ديسمبر عام 1911، وفى منزل يطل على ميدان بيت القاضى، بالقرب من جامع سيدنا الحسين، تعثرت عملية ولادة، مما دعى القابلة لطلب استدعاء الطبيب، الذى حضر بسرعة لإنقاذ حياة الأم وطفلها، هذا الطفل الذى أصبح من أعظم المبدعين الذين أنجبتهم مصر على طول تاريخها، وقد تم تسجيل الطفل فى شهادة الميلاد فى اليوم التالى، باسم هذا الطبيب الشاب.
وبعد هذا التاريخ بأكثر من ستة عقود، وفى يوم جميل، وقبل أن تستيقظ القاهرة، خرج مبكرا كعادته من بيته المقابل لشاطئ النيل، حيث كنت انتظره، ومن ثم كان لقائى الأول معه، وتغير مجرى حياتى، فمن أعظم نعم المولى عز وجل، وهى لا تعد ولا تحصى، أن أقترب وأتعلم من أستاذ عظيم، يعد مثالا رائعا للإنسان حين يقوم بدوره الحقيقي كخليفة لله فى أرضه، فتتجلى فيه القيم الأخلاقية النبيلة، والمعاني الروحية الرفيعة، إنه المبدع الحكيم، والإنسان الجميل نجيب محفوظ، الذى لو لم تتح لي هذه الفرصة الرائعة – والتي أعتقد أنها مقدرة مذ الأزل - لمصاحبته لنحو ثلاثين عاما متصلة، لما عرفت أن مثل هذا النوع الراقي جدا من البشر، يمكن أن يوجد فى مثل هذا العصر الذى نعيش فيه.
محاولة الاغتيال
بعد إعلان حصول الأستاذ نجيب محفوظ على جائزة نوبل، فى عام 1988، وفى وسط الضجة الإعلامية المصاحبة للحدث الأهم في تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية، خرج الشيخ عمر عبد الرحمن بتصريحات عجيبة تربط بين رواية " آيات شيطانية " لسلمان رشدي، و رواية " أولاد حارتنا " ! إذ قال لو كنا عاقبنا نجيب محفوظ على ما كتبه فى "أولاد حارتنا" لما تجرأ سلمان رشدي وكتب "آياته الشيطانية"!
وقد رأت أجهزة الأمن في هذه التصريحات العمياء تهديدا لحياة نجيب محفوظ، فعرضت عليه حراسة مرافقة له في كل تحركاته. لكن الأستاذ أخذ الأمر ببساطة، إذ كيف يتصور أن هناك من يمكن أن يفكر في الاعتداء عليه؟! وكيف يفكر أحد فى أن يعتدي عليه بسبب رواية كتبها ونشرها مذ عقود؟! ومن ثم قال الأستاذ للشرطة: إن الأعمار بيد الله وحده. ورفض فكرة الحراسة نهائيا.
وقد قال لنا الأستاذ ضاحكا إن وجود حارس يمشى وراءه بالساعات فى شوارع القاهرة وحواريها، قد تدفع بالحارس نفسه إلى فكرة التخلص من الأستاذ! والحقيقة إنني كنت متفقا تماما مع الأستاذ فيما قرره، برغم أن بعض الأصدقاء اقتنعوا بأهمية وجود حراسة مرافقه له.
ومر الزمن بسرعة، وتناسينا جميعا أن ثمة تهديدا موجها إلى نجيب محفوظ! حتى وقعة الواقعة المروعة. ففي يوم الجمعة، الرابع عشر من أكتوبر 1994، وفى موعد ندوته الأسبوعية فى كازينو قصر النيل، خرج الأستاذ نجيب من بيته – كعادته - فى موعده تماما، فى الساعة الخامسة إلا ربعا، وكان فى انتظاره الصديق فتحي هاشم، وكان فى انتظاره أيضا من يتربص به وبحياته، من أجل ماذا ؟ من أجل رواية " أولاد حارتنا " الصادرة قبل أن يُولد عديم البصيرة هذا!
فهل قرأ هذا القاتل هذه الرواية الرمزية؟ الإجابة: لا! فهل قرأ أي عمل آخر للأستاذ نجيب، الإجابة: لا! فهل سبق له أن تعرف إلى الأستاذ أو سمع حديثه؟ الإجابة: لا! لكنه تقدم نحو الأستاذ، وهو يضمر في داخله الشر، فتصور الأستاذ أن الشاب يقترب منه ليصافحه، فقدم له يده ليسلم عليه، لكنه بدلا من أن يرد السلام بمثله، غرس سكينه الصدئة في رقبة شيخ تجاوز الثمانين، فكيف –بالله عليكم - فعل ذلك؟!
مواجهة محفوظ للموت
ولنتأمل قليلا في رؤية الأستاذ للموت، من خلال كلماته المباشرة، ففي عام 1991م، وأنا أجلس معه وحدنا فى فندق هيلتون رمسيس، حكي لي أنه فى الصباح الباكر، وهو يمشى كعادته على شاطئ النيل، فجأة شعر بألم في منطقة "فم المعدة" ثم تقيأ! وقال إن شهيته كانت ضعيفة جدا، وإنه تناول في الصباح " كروسون " فقط، وعندما ذهب إلى الطبيب وأجرى بعض الفحوصات الطبية، أصر الطبيب على ضرورة سفره إلى لندن لإجراء عملية جراحية عاجلة، لأن شريان الأورطى متضخم، وعرضه للانفجار في أي لحظة! كان الأستاذ يحكى لى الأمر ببساطة شديدة، وهو يشرب رشفة من القهوة ويدخن سيجارته، كالمعتاد بلا خوف، ولا رعب، ولا توتر!
المفاجأة الأخرى، كانت فى اعتراض الأستاذ على فكرة السفر ذاتها! فقد سأل الطبيب: ألا تجرى مثل هذه العملية هنا ؟ فأكد له الطبيب إنها عملية دقيقة جدا، وتجرى فى مستشفى مخصوص فى لندن. لم يرغب الأستاذ فى السفر، وقد ضغطت عليه أسرته كثيرا حتى يقبل فكرة السفر لإجراء العملية الجراحية.
أما حال الأستاذ فى ذلك الوقت العصيب، فقد كان يشع سلاما ونورا وسكينة، وعندما بدأت محاولة إقناعه بضرورة سفره لإجراء الجراحة المطلوبة، أخذ يشرح لي رأيه الذي يتلخص فى قوله إنها النهاية الطبيعية، وإنه ينتظرها الآن بهدوء وفهم وتسليم، فمن الطبيعي أن تأتى لحظة النهاية، وقد جاءت في موعدها، بعدما واصل العمل والجد والاجتهاد على مدى سنوات طويلة، وأدى دوره بقدر ما يستطيع، وهو فى سن توجب عليه أن يتوقع كلمة النهاية!
قلت له: وهل مواجهة الموت تفرق مع الإنسان إذا كان صغيرا في السن أو كبيرا؟ فقال : تفرق، فمن فى بداية الطريق، أو حتى فى منتصفه، سيجد أن عليه واجبات كثيرة لم يتمها بعد، وعندئذ سيكون الموت عائقا له عن إتمام دوره في الحياة، أما أنا فقد أديت دوري. ومستعد للرحلة الأخيرة. ثم أضاف: ولتنظر إلى الأمر من زاوية تقدم علم الطب، الذي لولاه لما عرفنا ما حدث من تضخم في داخل الشريان، ولجاءت النهاية طبيعية، كما يموت البشر من آلاف السنين!
فقلت له : لكن ماذا بعد الموت؟ فأجاب: كل المؤمنين يملكون تصورا حول فكرة الثواب والعقاب، أما من يستند إلى العقل وحده، وينظر إلى الموت بطريقة فلسفية، فسيجد أمامه ثلاثة احتمالات، الأول: قائم على فكرة أننا ننتقل من الوجود إلى العدم، فنحن مجموعة من العناصر، وعندما تتحلل هذه العناصر، أو تتحول إلى عناصر أخرى، يتلاشى وجودنا، ونصبح عدما. والثاني : قائم على رفض فكرة العدم، وأننا لابد أن نتحول من وجود إلى آخر، لكنه فى هذه المرة، يصبح وجودا "إستاتيكيا"، بخلاف وجودنا الأول "الديناميكي"، أي وجود بلا حركة، أو بلا حياة متجددة، وإنما هو وجود ساكن تماما. أما الاحتمال الثالث: فهو قائم على أننا ننتقل من وجود حي متجدد إلى وجود آخر حي ومتجدد أيضا، وهذا الوجود الجديد على صلة وثيقة بوجودنا الأول، بمعنى أن الوجود الجديد يُبنى على الوجود الأول، وهذا يشمل فكرة الثواب والعقاب.
هذا هو ما قاله لى نجيب محفوظ، فى لحظة وقوفه أمام الموت، الذى يشغلني دائما، والذي كان يواجهه فى ذلك الوقت، بشجاعة تذكرني بالفيلسوف " سقراط " وهو يتجرع السم! وهنا يجب على أن أذكر القارئ الكريم أنني المسئول عن صياغة هذه المعاني التى قالها الأستاذ، وهو يواجه الموت بحكمة صوفية على مستوى الشعور، وبرؤية فلسفية على مستوى الفكر. وقد سألته بعد ذلك، إلى أي تصور من هذه التصورات يميل فكره الفلسفي عندما ينظر فى مواجهة الموت؟ فأجاب أنه على المستوى الفلسفي يميل إلى فكرة امتداد الوجود بشكل أو بآخر، ومن ثم يرفض فكرة العدم.
سفر الأستاذ إلى لندن
سافر الأستاذ نجيب إلى لندن لإجراء العملية الجراحية، وعاد إلى مصر ضعيفا، تبدو عليه إمارات الإرهاق والتعب. لكنه لم يستسلم للراحة، ولا للمرض، وأصر على العودة بسرعة إلى برنامجه المعتاد، فكنا نخرج معا إلى مجلسنا فى فندق هيلتون رمسيس[1]، وأذكر أن الدكتور محمد حلمي مراد، كان قد أصدر كتيبا صغيرا يحتوى على مشروع لدستور جديد، تحتاج إليه مصر حتى تتحول إلى دولة ديمقراطية حقيقية. فكنت أقرأ للأستاذ الكتيب، فيتابعني لبعض الوقت، ثم يغفو قليلا، فأتوقف عن القراءة، وحين ينتبه إلى يعتذر لى، ويقول إنه مازال فى فترة نقاهة، وبرغم ذلك كنا نتناقش معا فى كل مادة من مواد الدستور المقترح!
وكان الأستاذ يذهب إلى ندوة قصر النيل سيرا، وبعد ذلك قرر أن يذهب إليها مع فتحي، ويعود معي، وكانت الندوة تبدأ فى الساعة الخامسة، وتنتهي فى الثامنة والنصف، ولكنه بعد العملية الجراحية، قرر أن يقوم من الندوة فى تمام الساعة السابعة! وفى أول مرة قلقت عليه، خوفا من أن يكون قد شعر بتعب فقرر أن يعود إلى بيته مبكرا، فإذا به بعد أن ركب فى السيارة إلى جواري، يقول لى: هيا بنا إلى مجلسنا! (يقصد هيلتون) فكم أسعدني فى هذه اللحظة حين عرفت أنه قرر أن يترك ندوته المكتظة بروادها، لكي يجلس معي وحدنا لنتحدث بهدوء فى شئوننا العامة والخاصة.
العناية الإلهية تنقذ نجيب محفوظ
فماذا حدث بعد الاعتداء على الأستاذ نجيب؟ حدثت معجزة حقيقية، فقد تدخلت الإرادة الإلهية لكي تنقذ حياة هذا الشيخ الجميل، من أيد آثمة لا تدرك حجم الجريمة اللاإنسانية التي أقدمت عليها.
فقد أحسن التصرف الصديق فتحى هاشم، ورجع بالسيارة إلى الخلف، ودخل إلى مستشفى الشرطة القريبة من بيت الأستاذ، فى حين كان الدكتور سامح همام يستعد لمغادرة منزله، حين جاءه تليفون من المستشفى يخبره بإصابة نجيب محفوظ، فأنطلق بسرعة وأنقذ حياة الأستاذ من إصابة قاتلة، كادت تودي بحياته، وانتهت إلى إصابة عصب اليد اليمنى التي دفعت بالأدب العربي إلى آفاق العالمية، حين كتبت أعمالا خالدة فى تاريخ الأدب العالمي كله.
ومن المفارقات المدهشة، إن ابني الوحيد جاء إلى الوجود قبل ساعات من هذا الحادث المؤلم، وقد كنت فى ندوة قصر النيل منتظرا وصول الأستاذ، حتى نمضى معا زمن الندوة ثم ننطلق إلى مجلسنا المفضل، لكن الخبر جاءنا فأسرعت إلى المستشفى، ودخلتها قبل أن يغلقوا بابها، وجلست مع أسرة الأستاذ، وعدد قليل من الأصدقاء ننتظره، ونحن نبتهل إلى الله سبحانه أن ينجيه من شرور الناس وسيئات أعمالهم، حتى خرج سالما من غرفة العمليات. وخرجت من المستشفى آخر الليل، وقد قررت أن أطلق على ابني الوحيد اسم نجيب محفوظ.
تأثير الحادث عليه
يمكنني أن أقول إنه تأثر بالحادث على المستوى المادي أو الصحي، لكنه لم يتأثر على المستوى النفسي. فقد احتفظ بروحه العالية، ونفسه المطمئنة، وذهنه الصافي، دون أن تلوث أي منها مشاعر سلبية، ولا أفكار سوداوية.
وهذه – فيما أرى – قدرة فائقة من قدرات الأستاذ على التسامح مع حماقات البشر، والتجاوز عن ما يصيبه هو شخصيا من شرور بسبب أمراض النفوس، وضعف العقول، وعمى البصائر. فقد كنت أتكلم مع الأستاذ عما حدث له من إصابة خطيرة جدا، في رقبته، وأثرها على عصب يده اليمنى، وهو في هذه السن المتقدمة، وأثرها كذلك على حالته الصحية بوجه عام، أقول كنت أتحدث معه، فلا أرى أي نوع من المشاعر العدائية، ولا الأفكار السلبية المتأثرة بما حدث له شخصيا!
إنما كان ينظر إلى الأمر باعتباره قضاء وقدر، يقبله كما هو، ودون أي رفض ولا أعتراض. وهنا يتجلى بوضوح إيمان محفوظ العميق، ونظرته الحكيمة لأحداث الحياة وتقلباتها. ومن ثم كانت تصريحاته الأولى عقب الحادث، تصريحات متسامحة للغاية، بل وصلت إلى درجة التعاطف مع هذا القاتل، فقد تساءل الأستاذ: "لماذا يضيع مثل هذا الشاب مستقبله؟!"
الأستاذ فى المستشفى
وما يعبر بوضوح عن حالة الأستاذ نجيب المعنوية، إنه في أثناء وجوده في مستشفى الشرطة، بعد محاولة اغتياله، كان يُلقى التعليقات الضاحكة على الأطباء المعالجين، وعلى زواره من المسئولين وغيرهم، فحين زاره رئيس الوزراء (د. عاطف صدقي) ومعه وزير المالية (د. محمد الرزاز) قال لوزير المالية ضاحكا : "أنا مسدد الضرائب." وحين دخل عليه الأديب ثروت أباظة وهو يبكى، قال له ضاحكا: " أنت بتبكى ليه يا ثروت، هما ضربوك أنت، ولا ضربوني أنا ؟ ". وهكذا كان الأستاذ على سجيته، مما أثار دهشة من لا يعرف طبيعته المرحة، وشخصيته السمحة، وروحه الحلوة.
صدور " أولاد حارتنا " فجأة
كان الأستاذ مازال فى المستشفى حين صدرت فجأة رواية "أولاد حارتنا"! إذ أصدرتها صحيفة "الأهالي" دون إذن مؤلفها، ودون حتى أن يُؤخذ رأيه، أو رأي أسرته! وقد تضايق الأستاذ من صدورها بهذه الطريقة، ولكنى للحقيقة لم أتضايق من صدورها فى صحيفة، متاحة على الأرصفة بجنيه واحد فقط. فبهذه الطريقة أصبحت الرواية ( المحظورة )[2] موجودة أمام الناس جميعا.
لكن لماذا تضايق الأستاذ؟ ولماذا كان يرفض نشرها فى مصر؟ لذلك قصة، إذ بعد حصول الأستاذ على جائزة نوبل، ثارت ضجة حول ضرورة نشر "أولاد حارتنا" فى مصر، إذ كيف يُحجب عمل من أعماله عن أهل بلده؟ لكن الأستاذ فى عز نشوة الفرح بالجائزة، رفض نشر الرواية فى مصر، فما السبب؟
الإجابة التى كان الأستاذ يقدمها لنا تتلخص فى ذكره لما حدث فى أثناء نشر الرواية فى الأهرام، عام 1959، فبعد الضجة التي أثيرت حولها، وإصرار هيكل على نشرها حتى النهاية، فى هذا الوقت كان مدير الرقابة على النشر، هو حسن صبري الخولى، وكان أيضا الممثل الشخصي لعبد الناصر! وقد سأل الأستاذ نجيب هل يوافق على أن يجتمع - فى مكتب حسن - مع عدد من شيوخ الأزهر، لكي يتناقشوا حول الرواية، وطريقة حل مشكلتها؟ فوافق الأستاذ، وقال لى : " أنا فاكر كان الموعد الساعة عشرة من صباح يوم الاثنين، وذهبت إلى مكتب حسن صبري، ولم يحضر أي شيخ من الشيوخ ! " فقال له حسن : " الرواية نُشرت كاملة، وانتهى أمرها، ونحن لا نريد أن نُغضب الأزهر، فالحل أن تُنشر هذه الرواية خارج مصر." وقد أعتبر الأستاذ أن هذه الكلمات بمثابة اتفاق عقده مع ممثل الدولة، ومن ثم لم يرحب بنشر الرواية فى مصر إلا بعد موافقة الأزهر على نشرها!
والحقيقة أنه لم يصدر قرار من الأزهر بمنع الرواية أصلا، كما لا يوجد أي قرار رسمي بشأنها، ولذلك كان الحل الذي تم الاتفاق عليه لكي تتمكن دار الشروق من نشرها فى مصر، أن يكتب لها أحد رجال الدين مقدمة تبين الوجه الصحيح للرواية، والذي لم يدركه بعض رجال الدين البعيدين تماما عن قراءة الأدب بوجه عام، وقراءة فن الرواية بوجه خاص. وقد كتب المقدمة د. أحمد كمال أبو المجد ، كما كتب د. محمد سليم العوا كلمة على غلاف الرواية.
الغزالى يزور محفوظ
وقد تكاثر الزوار على حجرة الأستاذ بالمستشفى، رسميين وغير رسميين، لكن الملاحظة كانت عدم حضور أى شيخ من شيوخ الأزهر، ولا أحد من رجال الدين الإسلامي! في حين حضر قداسة البابا شنودة لتهنئة الأستاذ على سلامته. فقد سبق أن أعرب البابا عن رغبته في زيارة الأستاذ نجيب في منزله، بعد حصوله على جائزة نوبل، لكن الأستاذ رأى أن الواجب يستدعى أن يذهب هو إلى البابا في مقر الكاتدرائية. وبعد هذا اللقاء نشأت بين الرجلين صداقة ومودة، فقد أعجب كل منهما بشخصية الآخر وثقافته الموسوعية.[3]
إلى أن حضر الشيخ محمد الغزالي بصحبة محمد عبد القدوس والكاتب أحمد بهجت. وكنت في انتظارهم مع الأستاذ نجيب وأسرته، والأصدقاء: جمال الغيطانى، ويوسف القعيد، ويحيى مختار. وقد سبق أن كتب الشيخ الغزالي أكثر من مقال فى صحيفة "الشعب" الصادرة عن حزب العمل، يتضمن تعليقات طيبة عن ما يكتبه نجيب محفوظ فى مقاله "وجهة نظر" بصحيفة الأهرام. وكأنما الشيخ كان يريد – سواء فى وعيه أو لا وعيه – أن يسجل بقلمه كتابة مختلفة تماما عن نجيب محفوظ، غير تلك التي كتبها كعريضة ضد رواية "أولاد حارتنا" !
وقد كانت الجلسة فى حجرة الأستاذ جلسة طيبة ودافئة وودودة، وحين أثار أحد الحضور موضوع رواية " أولاد حارتنا "، قال الأستاذ : لا داعي لإثارة هذا الموضوع الآن، فهذه زيارة طيبة من الشيخ، ونحن نشكره عليها. وأيضا كان الشيخ كريما فى حديثه المعبر عن تقديره لفكر الأستاذ نجيب وأدبه. «يتبع»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.