ثمة مفارقة مدهشة فى علاقة الشيخ مصطفى عبد الرازق مع تلميذه النجيب، عندما يخبره أنه قرر أن يتوقف عن استكمال رسالته للماجستير، التى قطع فيها شوطا كبيرا من أجل كتابة الروايات! وقد سألت الأستاذ عن هذه المفارقة العجيبة، فقال لى إن الشيخ لم يتدخل فى قرار الأستاذ، ولم يقل له شيئا يعبر به عن عدم رضائه عن القرار، ولكنه كان يبدو أنه غير مقتنع به. فالأستاذ طالب نابه، ورسالته للماجستير، كان يمكن أن تقوده إلى التدريس فى الجامعة، ثم يحصل بعد ذلك على درجة الدكتوراه، ويصبح أستاذا للفلسفة فى الجامعة، هذا المستقبل المشرق، تركه الأستاذ من أجل كتابة القصص والروايات، فمن كان يمكنه أن يدرك صحة هذا القرار وعظمته؟! لقد تم اتخاذ هذا القرار الصعب بعد عامين من الدراسة والبحث والتفكير، فبماذا شعر الأستاذ بعد اتخاذه هذا القرار المصيرى؟ لقد شعر بالحرية والاستقلال! حتى إنه كان يقارن بين معاهدة الاستقلال سنة 1936م، التى أعطت مصر نوعا من الاستقلال الصورى، وقراره بالتفرغ للكتابة الأدبية. فقد اكتشف الشاب النجيب أنه إذا ما جمع بين العمل كموظف فى الجامعة واستكمال دراسته العليا، فلن يجد الوقت اللازم للكتابة الأدبية، وقراءة روائع الأدب العالمى. فكان لا بد أن يضحى بواحد من الاثنين، إما الأدب وإما الفلسفة، فاختار التضحية بإكمال دراسته الفلسفية من أجل الاستمرار فى الكتابة الأدبية، وتنمية معارفه العامة، وصقل ثقافته الموسوعية. ومع ذلك لم يتوقف نجيب محفوظ قط عن متابعة ما تصدره المطابع من دراسات فلسفية. وثمة حكاية ذات مغزى حكاها الأستاذ نجيب عن روايته الأولى، التى طبعها سلامة موسى، فعنوان الرواية كان «حكمة خوفو»، لكن سلامة موسى بعدما قرأ الرواية، ووافق على نشرها، فضل أن يكون العنوان هو «عبث الأقدار»، وبعدما صدرت الرواية أهدى الأستاذ نسخة منها إلى الشيخ مصطفى، فتوقف الإمام الأكبر عند عنوان الرواية، وسأله: ما هذا العنوان؟! هل الأقدار تعبث بنا؟! وهنا لنا أن نتأمل فى موقع نجيب محفوظ كتلميذ نابه لكل من سلامة موسى صاحب الفكر الليبرالى العلمانى والمبشر بالاشتراكية الفابية، والإمام الأكبر المُصلح والمُجدد وأستاذ أساتذة الفلسفة الإسلامية. وثمة أساتذة كثيرون فى حياة نجيب محفوظ من الشرق ومن الغرب، فقد استطاع أن يستوعب فى داخله جميع الاتجاهات الفلسفية ومختلف التيارات الأدبية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وقد ذكر لى الأستاذ نجيب أنه ذهب إلى عيادة شيخه مصطفى عبد الرازق، حين ألمت به وعكة صحية، وقد قال له الشيخ يومها إن أولاده قرؤوا روايته «خان الخليلى»، وأعجبوا بها جدا، وإنهم أخذوا فى البكاء فى مواضع عدة من الراوية. فهل هذه الكلمات كانت تعنى نوعا من الاعتراف والتقدير للإبداع الأدبى لنجيب محفوظ، بما يفسر قراره بالتخلى عن استكمال دراسته العليا فى الفلسفة؟